الثورة في سياق إسلامي؛ ثورة أم فتنة؟!

اكتسب لفظ "الثورة" في السیاق التاریخي الإسلامي دلالةً سیئة السمعة ترتبط بالفتنة والفوضى والخروج على الحكام وغیر ذلك، والحقیقة أن سبب ھذا الأمر مرتبط بأولئك البغاة الذین ثاروا على الخلیفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتلوه في داره وتم سحب اللفظ (عمدًا) على جمیع الأحداث التي تلت ذلك وتسمیتھا بالفتنة في أكثر الأحیان، وبالتالي اكتسب لفظ "الثورة" في السیاق الإسلامي دلالةً سیئة السمعة!

  • التصنيفات: السياسة الشرعية - التاريخ الإسلامي -

اكتسب لفظ "الثورة" في السیاق التاریخي الإسلامي دلالةً سیئة السمعة ترتبط بالفتنة والفوضى والخروج على الحكام وغیر ذلك، والحقیقة أن سبب ھذا الأمر مرتبط بأولئك البغاة الذین ثاروا على الخلیفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتلوه في داره وتم سحب اللفظ (عمدًا) على جمیع الأحداث التي تلت ذلك وتسمیتھا بالفتنة في أكثر الأحیان، وبالتالي اكتسب لفظ "الثورة" في السیاق الإسلامي دلالةً سیئة السمعة في حین أن ھناك عشرات الثورات التي قادھا كبار الصحابة والفقھاء والعلماء ضد الاستبداد والظلم خاصةً في الفترات الأولى من التاریخ الإسلامي.

نبدأ بفترة التحوُّل من الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض، ونقصد الفترة من 57هـ -منذ أن أراد معاویة أخذ البیعة لابنه یزید- وحتى 83هـ، وكیف تعامل كبار الصحابة وفقھاؤھم رضوان الله علیھم مع ذلك التحوُّل الخطیر في النظام السیاسي الإسلامي..

وھذه آراء الخمس الكبار في ذلك الوقت وھم: (عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبیر، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر، والحسین بن علي رضي الله عنهم): كان أشدھم عبد الرحمن بن أبي بكر، فقد قطع على معاویة خطبته وقال له: "إنك والله لوددت أنّا وكّلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردنّ ھذا الأمر شورى بین المسلمین، أو لنعیدنّھا علیك جذعة[1]" ثم خرج.

وكان مروان أمیرًا على المدینة من جھة معاویة، فأرسل له معاویة أن یحدث الناس عن یزید فخطب في الناس وقال: "إن الله أرى أمیر المؤمنین في یزید رأیًا حسنًا، وإن یستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر"، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: "كذبت والله یا مروان، وكذب معاویة معك! لا یكون ذلك، لا تحدثوا علینا سنة الروم، كلما مات ھرقل قام مكانه ھرقل".

أما عبد الله بن عمر فقال لمعاویة لما اجتمع بھم في موسم الحج وعرض علیھم الأمر وعلّل رأیه ھذا بخشیته أن یترك الأمة من بعده بلا إمام فقال ابن عمر: "إنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء، لیس ابنك خیر من أبنائھم، فلم یروا في أبنائھم ما رأیت أنت في ابنك، ولكنھم اختاروا للمسلمین حیث علِموا الخیار، وأنت تُحذِّرني أن أشق عصا المسلمین، وأن أسعى في فساد ذات بینھم، ولم أكن لأفعل؛ إنما أنا رجل من المسلمین فإذا اجتمعوا على أمرٍ فإنما أنا رجل منھم".

وقد دخل عبد الله بن الزبیر على معاویة فقال له: "إن كنت قد مللتَ الإمارة فاعتزلها، وھلم ابنك فلنبایعه، أرأیت إذا بایعنا ابنك معك، لأیكما نسمع؟! لأیكما نطیع؟! لا نجمع البیعة لكما والله أبدًا".

قال ابن كثیر: "لما أخذت البیعة لیزید في حیاة أبیه؛ كان الحسین ممن امتنع من مبایعته ھو وابن الزبیر وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس"، وبالتالي قاد ھؤلاء الخمسة الكبار حركةً احتجاجیة في مواجھة ذلك الانحراف بالتأصیل الشرعي والتاریخي ووقفوا له بالمرصاد 73هـ".

ھناك ثورات كبیرة قادھا عدد كبیر من الصحابة:

- وبعد وفاة معاویة وخلال 12 عام فقط أكثرھا شھرة وأثرًا في التاریخ ثورة الحسین علیه السلام بعد أن جاءته كتب من أھل العراق سِرًا تدعوه إلى القدوم إلیھم وأرسلوا إلیه بیعتھم له، فخرج إلیھم من مكة، ثم نكثوا ببیعتھم ووقعت "كربلاء" سنة 61هـ واستشھد الحسین رضي الله عنه.

- كما خرج أھل المدینة على یزید ونقضوا بیعته، وبایعوا عبد الله بن حنظلة الغِسِّیل وكان من صغار الصحابة رضي الله عنه حتى وقعت موقعة "الحرة" التي قُتِل فیھا عدد كبیر من الصحابة رضوان الله علیھم.

- ثم ثورة عبد الله بن الزبیر وسنوات حكمه التسع بعد أن بایعته الأمصار قاطبة إلا أھل دمشق بعد وفاة یزید وتنازل معاویة الصغیر بن یزید عن الخلافة وأمره لجعلها شورى بین المسلمین حتى اُستشھد عبد الله بن الزبیر رضي الله عنه سنة 73هـ بعد قذف الحجاج الكعبة بالمنجنیق!

لقد كان قتال الصحابة رضوان الله علیھم من أجل الشورى لأسبابٍ مشروعة:

- الأول: دفاعًا عن حقھم الذي جعل الله لهم في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى من الآية:38‏]، فقد أضاف الأمر -وھو اختیار ولي الأمر- لهم إضافة استحقاق، فرأوا أن لهم القتال عن ھذا الحق، كما یقاتلون دفاعًا عن دمائھم وأموالهم وأعراضھم، ومن قاتل دون ذلك فھو شھید، وفي الحدیث عن سعد بن أبي وقاص: «نعم المیتة أن یموت الرجل دون حقه» (رواه أحمد، وصحّحه الألباني).

- الثاني: أن ھذا الاغتصاب مُنكرٌ وظُلمٌ تجب إزالته، لحدیث: «من رأى منكم منكرًا فلیغیره»[2]، وحدیث: «لتأخذن على ید الظالم ولتأطرنه على الحق إطرًا»[3] ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال فیمن اغتصبھا: "اقتلوه".

- الثالث: تمسُكًا بالسنة وھدي الخلفاء الراشدین في باب الإمامة، لحدیث: «علیكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدین من بعدي، عُضّوا علیھا بالنواجذ، وإیاكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة» (رواه الترمذي وغيره).

وقد أدرك الصحابة أن اغتصاب الإمامة أو توریثھا لیس من سنن النبي صلى الله علیه وسلم ولا الخلفاء الراشدین، بل ھو من البدع في الدین والانحراف عن سنة سید المرسلین وأبي بكر وعمر إلى سنة ھرقل وقیصر.

- الرابع: أنھم أدركوا أن دخول الخلل في موضوع الإمامة سیفضي إلى الخلل في كل شئون الحیاة، إذ بفسادھا یفسد المجتمع، وبصلاحھا یصلح المجتمع، كما قال أبو مسلم الخولاني لمعاویة: "مثل الإمام كمثل عین عظیمة صافیة یجري منھا الماء إلى نھرٍ عظیم، فیخوض الناس في النهر فیكدرونه ولا یقذر علیھم صفو العین، فإن كان الكدر من قبل العین فسد النھر".

ولا ننسى حدیث النبي صلى الله علیه وسلم: «سید الشھداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونھاه، فقتله ، فدخل الجنة»[4]، وكذا حدیث: «أفضل الجھاد كلمة حق عند سلطان جائر»، وبعد ثورات الصحابة رضوان الله علیھم سار على دربھم العلماء والفقھاء، فقادوا حركات احتجاجیة كبیرة ضد الإنحراف السیاسي والظلم والاستبداد.

ثورة القراء: "كانت أكثر الحركات الإحتجاجیة على بني أمیة أثرًا وخطورة، ففي سنة 81هـ خرجت حركة القراء مع ابن الأشعث في العراق ضد الحجاج وعبد الملك بن مروان، وقد خلعوا بیعة عبد الملك وبایعوا ابن الأشعث على الكتاب والسنة وخلع أئمة الضلال بتعبیر ابن جریر.

وقد استطاع ابن الأشعث السیطرة على فارس، ثم نزل بجیشه إلى العراق وھزم الحجاج، ثم خرج من البصرة، فلما دخله ا ابن الأشعث بایعه جمیع أھله امن علمائھا وسادتھا على خلع الحجاج وعبد الملك.

وقد اجتمع القُرّاء وھم العلماء من أھل المصرین -الكوفة والبصرة- جمیعًا مع أھل الحرب على قتال الحجاج، وكانوا مائة ألف. فاجتمع عبد الملك بأھل الشوري ورؤوس الناس بالشام فقالوا له: "إن كان ما یرضي أھل العراق أن تنزع عنھم الحجاج، فإن نزع الحجاج أیسر من حرب أھل العراق، فانزعه تخلص لك طاعتھم، وتحقن به دماءنا ودماءھم، وأن یجري علیھم أعطیاتھم وأرزاقھم كما تجري على أھل الشام".

فأبى أھل العراق ھذا العرض، وقد كان فیھم من الأئمة والفقھاء أنس بن مالك، وسعید بن جبیر، وعامر الشعبي، وأبو إسحاق السبیعي، وعبد الرحمن بن أبي لیلى، وأبو البختري الطائي، وعبد الله بن شداد بن الهاد، والحسن البصري، ومسلم بن یسار، والنضر بن أنس بن مالك، وأبو عبیدة بن عبد الله بن مسعود، وطلحة بن مصرف الیمامي، وزبید بن الحارث الیمامي، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وغیرھم من علماء المصرین. وقد التقوا ھم والحجاج وجیشه في إحدى وثمانین موقعة، كان النصر فیھا حلیفھم، حتى آخر موقعة وھي یوم "دیر الجماجم" سنة 83هـ.

وفیھا خطب الفقھاء في الناس یحضوھم على القتال، فقام عبد الرحمن بن أبي لیلى فقال: "یا معشر القراء، إن الفرار لیس بأحد من الناس بأقبح منھبكم، إني سمعت علیًا -رفع الله درجته في الصالحین، وأثابه أحسن ثواب الشھداء والصدیقین- یقول یوم لقینا في الشام: "أیھا المؤمنون، إنه من رأى عدوانًا یعمل به، ومنكرًا یدعى إلیه، فأنكره بقلبه فقد سلِم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وھو أفضل من صاحبھ، ومن أنكر بالسیف لتكون كلمة الله ھي العلیا وكلمة الظالمین السفلى، فذلك الذي أصاب سبیل الهدى، ونور في قلبه الیقین، فقاتلوا ھؤلاء المحلین المحدثین المبتدعین، الذین قدجھلوا الحق فلا یعرفونه، وعملوا بالعدوان فلیس ینكرونه".

وقال أبو البختري: "أیھا الناس، قاتلوھم على دینكم ودنیاكم، فوالله لئن ظھروا علیكم لیفسدن علیكم دینكم، ولیغلبن علیكم دنیاكم".

وقال الشعبي: "یا أھل الإسلام، قاتلوھم ولا یأخذكم حرج في قتالهم، فوالله ما أعلم قومًا على بسیط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منھم في الحكم، فلیكن بھم البدار".

وقال سعید بن جبیر: "قاتلوھم ولا تأثموا من قتالهم بنیةٍ ویقین، وعليّ آثامھم، قاتلوھم على جورھم في الحكم، وتجبرھم في الدین، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتھم الصلاة"، وقد قال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو بكر بن عیاش، قال: كان العلماء یقولون: "إنه لم تخرج خارجة خیر من أصحاب الجماجم والحرّة". وھم العلماء الذین خرجوا بالمدینة على یزید یوم الحرة سنة 61هـ، والقُرّاء الذین خرجوا على عبد الملك سنة 81هـ.

وظل سعید ابن جبیر متخفیًا في مكة ھاربًا من الحجاج، حتى قُبِضَ علیه عام 95هـ ودار بینه وبین الحجاج الحوار الشھیر.

وقد أشار عمر بن عبد العزیز في أول خطبة له بعد الخلافة إلى ھذه القضیة حیث قال: "إن الرجل الهارب من الإمام الظالم لیس بظالم، ألا إن الإمام الظالم ھو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوقٍ في معصیة الخالق عز وجل".

وھنا السؤال: كیف آلت الأمور بعد كل ھذا الجھاد والنضال ضد الاستبداد والظلم إلى "الجبریة" وكل ذلك التراث من تأصیل الاستبداد والتعامل معه باعتباره واقع لا یمكن تغییره فضلًا عن الدافع عنه والاستماتة دونه؟!

نقطة التحوُّل: كان لهذه الهزیمة في "دیر الجماجم" أثر كبیر على الفكر السیاسي والعقائدي، حیث شاع القول بالإرجاء والجبر من جھة، ووجوب السمع والطاعة للإمام الجائر وإن كان مثل الحجاج من جھةٍ أخرى، إذ إن الله ھو الذي سلطھم، ولا یمكن رفع ھذا البلاء إلا بالدعاء، وھذا ھو القضاء الذي یجب التسلیم له والصبر علیه؟!

وقد كان الحسن البصري رحمه الله ھو داعیة ھذا الفكر، فقد قیل له: ألا تخرج فتغیّر؟ فكان یقول: "إن الله إنما یغیّر بالتوبة ولا یُغیِّر بالسیف؟!".

وقال لأخیه سعید بن أبي الحسن -وكان مع ابن الأشعث- فقال الحسن: "أیھا الناس إنما سلّط الله الحجاج علیكم إلا بعقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسیف، ولكن علیكم بالسكینة والتضرُّع".

وكان شیوع ھذه الأفكار في نفوس أھل البصرة وغیرھا من الأقطار بسبب الهزیمة التي حدثت في دیر الجماجم، حتى قال الشافعي: "ظھر الإرجاء بعد ھزیمة القُرّاء"، وقال قتادة: "إنما أُحدِث الإرجاء بعد ھزیمة ابن الأشعث" كما شاع التصوف والزھد والعزوف عن الحیاة وشئونھا -ومنھا الشئون السیاسیة- بعد أن كان القُرّاء والعُبّاد ھم الذین یقودون حركات المقاومة ضد الانحراف، وقد أصبحت البصرة أشھر مركز لحركة التصوف والاعتزال عن شئون الحیاة.

وكذلك سُجِن سعید بن المسیب بالمدینة لما أبى البیعة للولید بن عبد الملك وعُذِّب وطِیف به، وقد سُجِن خالد بن عبد الله القسري -أمیر مكة 89هـ- في عھد بني أمیة فقھاء مكة: (عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دینار، وطلق بن حبیب، وصھیب مولى ابن عامر، وسعید بن جبیر).

وكل ھذه الحوادث تؤكد قیام الفقھاء بالتصدي للظلم -في بدایة ھذه المرحلة- وقد بلغ الأمر ذروته في حركة آل البیت السریة الداعیة لإسقاط دولة بني أمیة، وقد بدأت ھذه الدعوة سِرًا سنة 100هـ، عندما وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رسالة إلى العراق وخرسان للدعوة إلى آل البیت وإسقاط دولة بني أمیة، وقد اختار سنة 103هـ اثنى عشر نقیبًا من سبعین رجلًا اقتداءً بالنبي صلى الله علیه وسلم، لتنجح في الإطاحة بحكم الأمویین عام 132هـ.

بالطبع انحرفت الدعوة العباسیة بعد ذلك عن منھج الشورى وكانت أكثر دمویة من بني أمیة، ولكن المھم أننا نلاحظ أن في ھذه المرحلة كان الأمر واضحًا جلیًا بأن الانحراف عن الشورى یجب مقاومته حتى "بالسیف" وقد قاد ھذه الحركة كبار الصحابة رضوان الله علیھم في ھذه الفترة كالحسین وابن الزبیر ثم العلماء والفقھاء كابن جبیر، ورأینا كیف أثرت معركة دیر الجماجم في شیوع أفكار الأرجاء والجبر من جھة، والسمع والطاعة للإمام الظالم من جھةٍ أخرى.

أتمنى لو أننا ندرس ھذه الفترة دراسة بحثیة جادة لنخرج ھذه الفترة الناصعة من تاریخ الثورة الإسلامیة على الظلم والاستبداد والتي اُخفیت وسُكِتَ عنھا عمدًا لنكون أسرى الجبر والسمع والطاعة للمستبدین حتى الآن.

إن الأمة لم تكن مُھیأة مثل الآن لتلك المواجھة مع الذات وإعادة قراءة التاریخ فيسیاقه الصحیح لنُحرِّر العقول من ذلك الإرث المُثقل من فقه التغلب والسمع الطاعة والملك العضوض ثم الحكم العسكري الجبري. ولنعرف أن حركتنا الحالیة لتحریر الأمة من العسكر وملوك النفط ما ھي إلا امتداد لتلك الحركة التاریخیة التي قادھا الصحابة والعلماء رضوان الله علیھم للدفاع عن حقوق الأمة ودفعًا للظلم والاستبداد، فنحن على درب الحسین ثائرین، وابن الزبیر صابرین، ورھط القراء مكملین![5].

وجوب الثورة والخروج على الطواغيت:

قبل التعرُّض للثورة ومسألة الخروج، ومدى مشروعة الثورة على الطواغیت؛ لا بد من توضیح الفارق بین الطاغوت والإمام الذي تجب له السمع والطاعة، وتعقد له الإمامة، ویحرم الخروج علیه، فكما قال علماء المنطق قدیمًا: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره. فما معنى الطاغوت؟

وأجمع ما قیل في تعریفة ما ذكره ابن القیم رحمه الله بأنه: "كل ما تجاوز به العبد حدّه من متبوعٍ أو معبودٍ أو مطاعٍ ومراده منه راضیًا بذلك، أو يقال ھو طاغوت باعتباره عابده وتابعه ومطیعه لأنه تجاوز به حدّه حیث نزّله فوق منزلته التي جعله الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود وأتباعه لمتبوعه وطاعته لمطاعه طغیانًا لمجاوزته الحد بذلك: "فالمتبوع مثل الكھان والسحرة وعلماء السوء، والمعبود مثل الأصنام. والمُطاع مثل الأمراء الخارجین عن طاعة الله"، فإذا اتخذھم الإنسان أربابًا یحل ما حرّم الله من أجل تحلیلهم له، ویُحرِّم من ما أحل الله من أجل تحریمھم له، فھؤلاء طواغیت والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء من الآية:51].

والطاغوت نحن مأمورین أن نكفر به لا أن نطیعه ونتبعه في معصیة الله. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة من الآية:256].

فتقویض وإزالة حكم ھؤلاء الطواغیت قربى لله والإنقیاد لهم بالسمع والطاعة ھي خیانة ولدینه ولرسوله.

أما الإمام أو الإمامة عند أهل السنة:

فالإمامة كما ذكر الماوردي الحنبلي في كتاب (الأحكام السلطانیة): "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدین وسیاسة الدنیا"، فالإمام یكون خلیفة لرسول الله وحارس لدینه. ویقول أیضًا قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب (إحیاء علوم الدین): "الدنیا مزرعة الآخرة، ولا یتم الدین إلا بالدنیا، والمُلك والدین توأمان، فالدین أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمھدوم، وما لا حارس له فضائع"، فبدون حراسة الملك یضیع الدین وبدون الدین كأصل للملك فالملك مھدوم.

وھؤلاء الطواغیت المُبدِّلین للشرع ھم أصلًا حربٌ على الدین وأھله، فكیف یكون ھؤلاء حُرّاس للدین؟! فمن یكون مضیع له؟

وھل المضیع للدین والمُبدِّل للشرع تُعقد له إمامة، وتجب له السمع والطاعة، ویحرم الخروج علیه؟

ھذا ما سنُجیب علیه..

يستحق الحاكم العزل في ثلاث حالات:

أولًا: إذا لم يحكم بما أنزل الله:

- قال تعالى:

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة من الآية:44].

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة من الآية:45].

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة من الآية:47].

- عن یحیى بن حصین عن جدته أم الحصین قال: "سمعتھا تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا كثیرًا ثم سمعته یقول: «إن أُمِّرَ علیكم عبدٌ مجدع -حسبتھا قالت: أسود- یقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطیعوا» (أخرجه مسلم).

وفي لفظ: «یَا أَیُّھَا النَّاسُ، اتَّقُوا الله عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْمَعُوا وَأَطِیعُوا وَإِنَّ أُمِّرَ عَلَیْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ، فَاسْمَعُوا وَأَطِیعُوا مَا أَقَامَ فِیكُمْ كِتَابَ الله عَزَّ وَجَلَّ» (أخرجه الترمذي، وابن ماجة وأحمد).

- عن محمد بن جبیر بن مطعم قال: "بلغ معاویة وھو عنده في وفدٍ من قریش أن عبد الله بن عمرو بن العاص یُحَدِّث أنه سیكون ملكٌ من قحطان، فغضب معاویة، فقام فأثنى على الله بما ھو أھله، ثم قال: "أما بعد، فإنه بلغني أن رجالًا منكم یتحدّثون أحادیث لیست في كتاب الله ولا تُؤثَر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأولئك جُھّالكم، فإیّاكم والأمانيّ التي تُضِلُّ أھلها، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله علیه وسلم یقول: «إن ھذا الأمر في قریش، لا یُعادیھم أحد إلاّ كبّه الله على وجھه، ما أقاموا الدین» (رواه البخاري).

قال ابن حجر: "«ما أقاموا الدین...» مدة إقامتھم أمور الدین"، وقیل تحمل أن یكون مفھومه، فإذا لم یقیموه -لا یُسمَع لهم"- وقد نقل الإمام النووي إجماع الأمة الذي نقله القاضي عیاض: قال القاضي عیاض: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ علیه كفر -انعزل، وقال كذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إلیھا فلو طرأ علیه كفر وتغییر للشرع أو بدعة- خرج من حكم الولایة، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمین القیام علیه وخلعه، ونُصِّب إمامٌ عادل إن أمكنھم ذلك".

وھذا شرح لحدیث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبایعناه فكان فیما أخذ علینا أن بایعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرھنا وعسرنا ویسرنا وأثرة علینا وألا تنازع الأمر أھله".

قال: «إلا أن تروا كُفرًا بواحًا عندكم من الله فیه برھان». وفي روایةٍ: «كفرًا براحًا» (صحیح مسلم شرح النووي).

فكلام القاضي عیاض واضح بعدم انعقاد الإمامة للمبُّدل والمغیّر للشرع ووجوب القیام علیه وخلعه ونصب إمام عادل.

- وذكر الماوردي في كتاب (تسھیل النظر وتعجیل الظفر في أخلاق الملك) ثلاثة أسباب تتعلّق بالدین یفقد السلطان بھا ملكه:

"الأول: أن یخرج من منصب الدین حتى یتولى علیه غیر أھله ویظھر منه خلاف عقده، فتنفر منه النفوس إن لان أو تعانده خشن تعصیه القلوب وإن أطاعته الأجساد، فیتطلب الناس للخلاص منه أسباب ویفتحون للوثوب علیه أبواب یبذلون فیھا النفوس والأموال حفظًا لدینھم، فیصیر ملكه عرضة للطالب وحریمه غنیمة للسالب.

الثاني: أن یكون ممن أستھان بالدین وھو من أھله، فأھمل أحكامه، وطمس أعلامه حتى لا تُؤدي فروضه، وتوفي حقوقه إما: لضعف عزمه في الدین، وأما لإنھماكه في اللذات، فیرى الناس أن الدین أقوم وحقوقه وفروضه ألزم، فیصیر دینه مدخولًا وملكه محلولًا.

الثالث: أن یكون ممن قد أحدث بدعة في الدین تقضي إلى تبدیله، وتؤول إلى تغییره، فتأبى نفوس الناس بغیر دین، فتصبح لهم معتقده أو استقراب في القلوب أصوله وقواعده، فیصیر دینه مرفوضًا وملكه منقوضًا.

- ویقول الشیخ الألباني: وھو من المعاصرین لهؤلاء الطواغیت المبدِّلین للشرع.. نص كلام الشیخ مُفرّغ من فیدیوا على الیوتیوب https://www.youtube.com/watch?v=gPVAl2qqmRQ

"ھذه الكلمة التي تشاع في ھذا الزمان: وھي مخالفة ولي الأمر ھذا مع الأسف كلمة یستعملها كثیرٌ من الدعاة الذین یزعمون أنھم من الدعاة؛ لا یجوز مخالفة ولي الأمر"..

ویقول الشیخ: "فالولایة قسمان" وذكر الشیخ عن الولایة عند غلاة الصوفیة وقال: "ھؤلاء أولیاء ولكن أولیاء الشیطان..".

وقال: "لا نرید أن نقیس على أولیاء الشیطان في ذلك الزمان، ولكن أرید أن أُبیِّن أن الحكم من أولیاء الأمر الذي یجب أطاعتھم؟ ھم الذین ینطلقون في حكمھم لأمتھم ولشعبھم على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله علیه وسلم، ومن سار سیرھم من بعض الملوك الذین جاءوا بعدھم" انتھى.

ولبیان عظم أمر الحكم بالشرع وبیان أھمیتھا وضرورتھا وأنھا لیست مسألة ھامشیة:

- یقول الإمام أبو یوسف صاحب أبو حنیفة: "أن الدیار التي لا یحكم فیھا الشرع حتى لو كان أكثر أھلها مسلمون، فھي دار كفر والبلاد التي یحكم فیھا بالشرع حتى ولو كان أكثر أھلها كفرة فھي دار إسلام".

- ويقول القاضي أبو یعلى الحنبلي في كتابه (المعتمد في أصول الدین): "كل دار كانت الغلبة فیھا لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فھى دار الكفر".

وجاء في (السیل الجرار) للشوكاني رحمه الله قوله: "الاعتبار بظھور الكلمة، فإن كانت الأوامر والنواھي في الدار لأھل الإسلام، بحیث لا یستطیع من فیھا من الكفار أن یتظاھر بكفره، إلا لكونه مأذونًا له بذلك من أھل الاسلام - فھذه دار الإسلام، ولا یضر ظھور الخصال الكفریة فیھا، لأنھا لم تظھر بقوة الكفار ولا بصولتھم، كما ھو مشاھد في أھل الذمة من الیھود والنصارى، والمعاھدین الساكنین في المدائن الإسلامیة، وإذا كان الأمر بالعكس - فالدار بالعكس".

- وقال ابن القیم رحمه الله في (أحكام أھل الذمة): "قال الجمھور: دار الإسلام ھي التي نزلها المسلمون وجرت علیھا أحكام الإسلام، وما لمتجر علیه أحكام الإسلام - لم یكن دار إسلام، وإن لاصقھا، فھذه الطائف قریبة إلى مكة جدًا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل".

وكذلك فإن الحاكم بغیر ما أنزل الله راضیًا ومُقِرًّا وقادرًا فإنه كافرٌ بإجماع المسلمین:

- یقول ابن تیمیة في (مجموع الفتاوي): "والإنسان متى حرّم الحلال، وحلّل الحرام، وبدّل الشرع المجمع علیه - فھو كافر مرتد بإجماع العلماء".

- قال ابن القیم في (أعلام الموقِّعین): "ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غیر ما جاء به الرسول - فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إلیه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاع، فطاغوت كل قوم من یتحاكمون إلیه غیر الله ورسوله أو یعبدونه من دون الله أو یتبعونه على غیر بصیرة من الله أو یطیعونه فیما لا یعلمون أنه طاعة له".

- ویقول ابن كثیر في تفسیر آیة {أَفَحُكْمَ الْجَاھِلِیَّةِ یَبْغُون}: "یُنكِر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خیرٍ، الناھي عن كل شرٍّ، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأھواء والاصطلاحات، التي وضعھا الرجال، بلا مستند من الشریعة، كما كان أھل الجاھلیة یحكمون به من الضلالات والجھالات، مما یضعونھا بآرائھم وأھوائھم، وكما یحكم به التتار من السیاسات الملكیة، المأخوذة عن مَلكھم جنكیز خان، الذي وضع لهم (الیاسق)، وھو عبارة عن كتاب مجموع من أحكامٍ قد اقتبسھا من شرائع شتى، من الیھودیة والنصرانیة والملة الإسلامیة وغیرھا... وفیھا كثیر من الأحكام أخذھا من مجرد نظره، وھواه؛ فصارت في بنیة شرعًا متَّبعًا یُقدِّمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله... فمن فعل ذلك منھم - فھو كافر یجب قتاله حتى یرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا یحكم سواه في قلیل أو كثیر".

- وجعل الشیخ محمد بن عبد الوھاب الحكم بغیر ما أنزل الله من (نواقض الإسلام العشرة) في النقیضة الرابعة: "من اعتقد ان غیر ھدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من ھدیه أو أن حكم غیره أحسن من حكمه كالذي یُفضِّل حكم الطواغیت على حكمه - فھو كافر مرتد.

قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} والغرض من نقل ھذا الكلام ھو لیس تكفیرًا لأحد؛ لأن تكفیر المُعین یلزم ما قال به الفقھاء من استیفاء للشروط، وانتفاء الموانع للمعین حتى یتم تكفیره وأعمال أحكام التكفیر علیه، فالغرض من ھذا الكلام ھو إیضاح أن: "عقد الإمامه لهؤلاء الطواغیت وإلزام الناس لهم بالسمع والطاعة إنما ھو قول محدث وبدعة في دین الله، وخرق لإجماع الأمة والعلماء كما نقله النووي عن القاضي عیاض".

ثانيًا: يستحق الحاكم العزل بالفسق أو الكفر: "ومن أھم الشروط في اختیار الحاكم الأعلى في الإسلام أن یكون عدلًا، فإن كفر بعد ذلك أو طرأ علیه فسق ظاھر - فإنه یفقد شرعیته، "قال القاضي أبو بكر الباقلاني في (التمھید): "إن قال قائل: ما الذي یٌوجب خلع الإمام عندكم؟ قیل له: یُوجب ذلك أمورٌ منھا: كفر بعد الإیمان، ومنھا: تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك، ومنھا عند كثیر من الناس: فسقُه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرّمة وتضییع الحقوق وتعطیل الحدود.

یقول أبو محمد بن حزم في كتاب (الفصل في الملل والنحل والأھواء): "والواجب إن وقع شيء من الجور -وإن قل- أن یُكلِّم الإمام في ذلك، ویُمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن - فلا سبیل إلى خلعه. فإن امتنع - وجب خلعه وإقامة غیره ممن یقوم بالحق، ولا یجوز تضییع شيء من واجبات الشرائع.

"یقول إمام الحرمین أبو المعالي الجویني رحمه الله في كتاب (غیاث الأمم): "قد ذھب طوائف من الأصولیین والفقھاء إلى أن الفسق إذا تحقق طریانه أوجب انخلاع الإمام كالمجنون).

ویقول القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن): "إذا نصب الإمام عدلًا ثم فسق بعد إبرام العقد - فإنه تنفسخ إمامته، وینخلع بالفسق الظاھر، فلو جاوزنا أن یكون فاسقًا أدى إلى إبطال ما أُقیم لأجله".

وقد جعل الإمام الماوردي الفسق على ضربین، فقال: "فأما الجرح في عدالته -أي الإمام- وھو الفسق، فھو على ضربین:

أحدھما: ما تابع فیه الشھوة، والثاني: ما تعلّق به بشبھة، فأما الأول منھما: فمُتعلِّق بأفعال الجوارح، وھو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكیمًا للشھوة، وانقیادًا للهوى، فھذا فسق یمنع من انعقاد الإمامة واستدامتھا، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته - خرج منھا.

وأما الثاني: فھو متعلِّق بالاعتقاد المتأول بشبھة تعترض، فیتأول لها خلاف الحق".

الشھرستاني رحمه الله تعالى: "وإن ظھر بعد ذلك -أي بعد التولیة- جھل أو جور أو ضلال أو كفر - انخلع منھا أو خلعناه".

وقال ابن عیینة رحمه الله تعالى: "لا یكون الظالم إمامًا قط، وكیف یجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما ھو لكف الظلمة؟! فإذا نصب من كان ظالمًا في نفسه، فقد جاء المثل السائر من استرعى الذئب ظلم".

وقد تشدد موقف ابن حزم رحمه الله تعالى في سلاطین الجور والفسق تشددًا كثیرًا، حتى ذھب إلى أن الأخبار التي فیھا خلاف الخروج على سلاطین الجور والفسق منسوخة، حیث قال: "وھذه الأحادیث -الآمرة بالخروج- ناسخة للأخبار التي فیھا خلاف ھذا، لأن تلك موافقة لما كان علیه الدین قبل الأمر بالقتال، ولأن الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر باقٍ مفترض لم ینسخ، فھو الناسخ لخلافه بلا شك.

ثالثًا: يستحق الحاكم العزل إذا قصّر في القيام بمهامه.

قال الشوكاني في (السیل الجرار): "المقصود من نصب الأئمة ھو: تنفیذ أحكام الله عز وجل، وجھاد أعداء الإسلام، وحفظ البیضة الإسلامیة -أي الأمة المسلمة- ودفع من أرادھا بمكر، والأخذ على ید الظالم، وإنصاف المظلوم، وتأمین السُبل، وأخذ الحقوق الواجبة على ما اقتضاه الشرع ووضعھا في مواضعھا الشرعیة، فمن بایعه المسلمون وقام بھذه الأمور - فقد تحمل أعباء الإمامة. ومن قام بتلك الأمور ونھضبھا - فھو المراد من الإمامة والمراد من الإمام".

فإن قصّر الإمام في القیام بھا - فقد خان الأمانة، وبذلك یفقد شرعیة بقائه في السلطة. وصرّح الفقھاء بأن للأمة حق عزل الحاكم إذا لم یقم بمھامه، وذلك لحدیث عقبة بن مالك قال: "بعث النبي صلى الله علیه وسلم سریة، فسلّحت رجلًا منھم سیفًا، فلما رجع قال: لو قال لو رأیت ما لامنا رسول الله قال: «أعجزتم أن بعثت رجلًا منكم، فلم یمضِ لأمري أن یجعلوا مكانه من یمضي لأمري» (أخرجه أبو داود، وأحمد، وحسّنه الألباني).

وفي لفظٍ: «أعجزتم إذا أمّرت علیكم رجلًا، فلم یمضِ لأمري الذي أمرتُ أو نھیتُ أن تجعلوا مكانه آخر یمضي أمري الذي أمرت»، یقول بن تیمیة تعلیقًا على ھذا الحدیث: "فقد فوّض إلیھم عزل من لا یقوم بالواجب من ولاته".

وھؤلاء الطواغیت الذین تملكوا رقابنا مُبدِّلین للشرع، وحاكمین بأھواء الرجال، بقوانین صاغھا طواغیت تعاند الدین والشرع، وھذا مع فسقھم الظاھر، وظلمھم الواضح بقتلهم وسجنھم وتعذیبھم للأبریاء المظلومین، ولن نُدلِّل على ظلمھم وفسقھم لأنه أوضح من الشمس في كبد السماء!

فكما قال الشاعر:

ولا یصح في الأذھان شيء *** إذا أحتاج النھار إلى دلیل

فكما قلنا سلفًا: إن إزالة وتقویض ملك ھؤلاء الطواغیت قربى إلى الله، وعدم السعي في إزاحتھم ھي خیانة ولدینه ولرسوله!

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنھما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لكعب بن عجرة: «أعاذك الله یا كعب من إمارة السفھاء»، قال: وما إمارة السفھاء یا رسول لله؟ قال: «أمراء یكونون بعدي، لا یھدون بھدیي، ولا یستنون بسنتي، فمن صدّقھم بكذبھم، وأعانھم على ظلمھم فأولئك لیسوا مني ولستُ منھم، ولا یردون على حوضي، ومن لم یُصدِّقھم بكذبھم ولم یُعِنھم على ظلمھم فأولئك مني وأنا منھم، وسیردون عليَّ حوضي».

ونحن والله لا نرجو من الله إلا أن یرزقنا أئمة ھداة مھدیین؛ نكون عونًا لهم، ونعادي من یعادیھم، ونوالي من یوالیھم طالما أقاموا فینا شرع الله، وحكموا بالعدل والسویة. أمَا وقد كثرت في زماننا منكرات الطواغیت، ووقع منھم ظلم، فإلم نأخذ على أیدھم - عمّنا الله بعذابٍ من عنده كما أخبر بذلك النبي صلى الله علیه وسلم، فلزم لإنكار ھذه المنكرات استخدام الوسائل العصریة في الإنكار كالمظاھرات والاعتصامات والإضرابات وغیرھا، فانتفض عُبّاد الطواغیت یقولون أن ھذه الوسائل ھي وسائل مُحدثة وبدعیة ابتدعھا الكفار وأنتم لهم متشبِھون!

ویقول الشیخ محمد بن شاكر الشریف في كتاب: (الحسبة السیاسیة والفكریة): "وقد وجدنا في التاریخ ما یستدل به على معرفة المسلمین بذلك الأمر وأنھم مارسوه فعلًا -وإن لم یُطلِقوا علیه الاسم نفسه- مما یدل على خطأ تعمیم القول: إن ھذه الأسالیب مقتبسة من الكفار وأن القیام بھا الآن ھو من المشابھة لهم".

فمن ذلك ما قام به المسلمون لمّا أظھر الشیعة سب ولعن الصحابة رضوان الله علیھم:

قال ابن كثیر: "یوم عاشوراء أغلق أھل الكرخ دكاكینھم وأحضروا نساءً فنِحن على الحسین كما جرت به سالف عادات بدعھم المتقدمة، فحین وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخلیفة أبا الغنائم نقیب الطالبیین، وأنكر ذلك علیه، فاعتذر بأنه لم یعلم بذلك، وأنه حین علم به أزاله وتردّد أھل الكرخ إلى الدیوان یعتذرون من ذلك، ویتنصّلون منه وخرج التوقیع بكفر من یسب الصحابة ویظھر البدع" (البدایة والنھایة).

وفي ھذا یقول ابن الجوزي: "واجتمع في یوم الخمیس رابع عشر المحرّم خلقٌ كثیر من الحربیة والنصریة وشارع دار الرقیق وباب البصرة والقلائین ونھر طابق بعد أن أغلقوا دكاكینھم وقصدوا دار الخلافة وبین أیدیھم الدعاة والقُرّاء وھم یلعنون أھل الكرخ -لكونھم كانوا یسبون الصحابة- وازدحموا على باب الغربة وتكلموا من غیر تحفُّظ في القول فراسلهم الخلیفة ببعض الخدم: إننا قد أنكرنا ما أنكرتم وتقدّمنا بأن لا یقع معاودة..." (المنتظم: [16]).

فھذه ولا شك مظاھرة حیث أغلق كثیر من الناس دكاكینھم واجتمعوا ومعھم الدعاة والقُرّاء وتوجھوا لدار الخلافة وھم یعلنون مطالبھم ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في حوادث سنة أربع وثمانین ومائتین قال: "وفي ھذه السنة أخذ نصراني، فشُھِد علیه أنه شتم النبي صلى الله علیه وسلم، فحُبِس ثم اجتمع من الغد العوام بسبب النصراني، فصاحوا بالقاسم بن عبید الله، وطالبوه بإقامة الحد على النصراني..

فلما كان یوم الأحد لثلاث عشرة بقیت من الشھر اجتمع أھل باب الطاق، وما یلیھا من الأسواق، ومضوا إلى دار السلطان، فلقیھم أبو الحسین بن الوزیر، فصاحوا به، فأعلمھم أنه قد أنھى خبره إلى المعتضد، فكذّبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه حتى ھربوا منھم، ومضوا إلى دار المعتضد، فدخلوا من الباب الأول والثاني، فمُنِعوا فوثبوا على من منعھم، فخرج إلیھم من سألهم عن خبرھم، فأخبروه فكتب به إلى المعتضد، فأدخل إلیه جماعة منھم وسألهم عن الخبر، فذكر له فأرسل إلى یوسف القاضي لینظر في الأمور، فمضى معھم الرسول إلى القاضي، فكادوا یقتلونه ویقتلون القاضي من كثرة الزحام، حتى دخل القاضي بابًا وأغلق دونھم" (المنتظم في تاریخ الملوك والأمم).

ومن ذلك ما قام به العامة مع الدیلم ففي سنه 329هـ وفي شوال: اجتمعت العامة في جامع دار السلطان وتظلمت من الدیلم ونزولهم في دورھم بغیر أجرة وتعدیھم علیھم في معاملاتھم فلم یقع إنكار لذلك، فمنعت العامة الإمام من الصلاة وكسرت المنبرین وشعث المسجد ومنعھم الدیلم من ذلك فقتل من الدیلم جماعة" (المنتظم في تاریخ الملوك والأمم).

الاعتصام السلمي:

فكما یقول الشیخ محمود عبد القادر المھدي في كتاب (فقه التعامل مع منكرات الحكام في ضوء الكتاب والسنة وفھم سلف الأمة): "الاعتصام السلمي من الأسالیب التي مُورِست عبر التاریخ الإسلامي، ولها ما یؤید صحتھا من الجانب الشرعي، وقد جاء تعریف الاعتصام في المعجم الوجیز، قال: "اعتصم به: امتنع به ولجأ ومنه اعتصام الطلبة ونحوھم بمعھدھم أو بمكان عملهم لا یعملون ولا یخرجون حتى یجابوا إلى ما طلبوا".

وفي السنة النبویة یمكن الاستشھاد به على صحة الاعتصام السلمي:

عن أبي ھریرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم یشكو جاره فقال: «اذھب فاصبر». فأتاه مرتین أو ثلاثًا، فقال: «اذھب فاطرح متاعك في الطریق»، فطرح متاعه في الطریق فجعل الناس یسألونه، فیخبرھم خبره، فجعل الناس یلعنونه فعل الله به وفعل وفعل... فجاء إلیه جاره فقال: له ارجع لا ترى مني شیئًا تكرھه" (صحیح: أخرجه أبو داود).

واعتبر ابن القیم ذلك من الحیل التي أباحھا الإسلام فھي تحیل الإنسان بفعلٍ مباح على تخلصه من ظلم غیره أو أذاه الطریق الحكمیة في السیاسة الشرعیة الإضراب:

یقول الشیخ محمد بن شاكر الشریف في كتاب (الحسبة السیاسیة والفكریة): "الإضراب في اللغة: ھو التوقف عن العمل بصورةٍ مقصودة وجماعیة وھدفه الضغط على رب العمل من قبل الأجراء. وتُسمّى أیضًا إضرابات الحوادث التي تؤلف توقفًا عن العمل غیر أجراء كإضراب التجار وإضراب أعضاء المھن الحرة وإضراب الطلاب وإضراب المواطنین عن دفع الضرائب".

الإضراب السیاسي:

فیراد به الامتناع عن القیام بالأعمال العامة الحكومیة أو المشاركة فیھا بقصد إعلان الاحتجاج على سیاساتٍ أو إجراءاتٍ حكومیة معینة، أو عدم قبولها والرضا بھا بقصد التأثیر في السلطة السیاسیة".

ومن ذلك ما فعله أبو حنیفة لمّا رفض القضاء من أبي ھیبرة ومن الخلیفة العباسي أبو جعفر المنصور، وسُجِن وضُرِب في المرتین. وكذلك أحمد بن حنبل كان لا یري ولا یقبل بتولي لا قضاءً ولا ولایةً للعباسین لأنھم ظلمة.

----------------------------
المراجع:

[1]- (أي الحرب).

[2]- (جزءٌ من حديثٍ رواه مسلم).

[3]- (رواه الهيثمي في مجمع الزوائد: [7/272] وقال عنه: "رجاله رجال الصحيح").

[4]- (رواه الألباني في الجامع الصغير: [ 4747]).

[5]- (للاستزادة أكثر في ھذا الباب: كتابا الدكتور حاكم المطیري: الحریة أو الطوفان، وتحریر الإنسان وتجرید الطغیان).

 

أحمد عز الدين

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام