ثمن العزة في زمن الهوان

أحمد كمال قاسم

إن أصحاب البطش والطغيان لن يتركوا المؤمن لحاله يمارس عزته بالله وفي سبيل الله، ذلك لأن عزة المؤمن مذلةٌ وخزيٌ لخصومه وضرر لمصالحهم وشهواتهم الرخيصة.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

تقدمة:

إن أيسرَ ما يكونُ لِلْمُهِينِ نَفسَهُ في هذهِ الدنيا هو أن يُقاد كما يقادُ قطيعُ الأغنامِ من طواغيتَ تحكمُ بالجورِ وتأمرُ بالمنكرِ وتنهى عنْ المعروفِ. وهذا اليسر لم يأتِ إلا لأنه مصحوبٌ بإلفِ الخنوع وطأطأةِ الرأسِ وعدمِ مقاومةِ المغتصبِ، مغتصبِ الدينِ والفكرِ والكرامةِ بلْ مغتصبِ الإنسانيةِ، حتى يصيرُ البشرُ كالخرافِ، تنقادُ ذليلةً بحبالِ تلتفُ حولَ رقابها، وعزاؤُها في ذلكَ أنها تأكلُ وتشربُ وتتناسلُ وهذا ما لا يليقُ إلا بالبعيرِ وحسبْ. فإذا مضا بها الزمانُ على هذا الحالِ الذي ارتضَتهُ لنفسها، أصبحَ الذلُ والهوانُ راحتَها ومطلبَها بعدَ أنْ كانَ مجردَ عادةٍ لها!! التي إن خرجتْ عنها تشعر بالقلقِ البالغِ لما في ذلكَ من ثورةٍ على صاحبِ القطيعِ وتمردٍ عليه.

وهذا، في نظرِها، يعرضُها لأحدِ احتمالين، أحلاهُما مرٌ، فإما الذبحُ، وإما التجويعُ والتقييدُ، ومنَ العجبِ أن إدمانَ الهوانِ يُنسِي الخِرافَ التي كانتْ أناساً، أن مصيرَها التي تُهَدَدُ بِهِ، هُوَ حاصلٌ حاصلٌ لا محالَ طالما استمرَأت الهوانُ.

وما تثمرُ الطأطأةُ والخنوعُ إلا عن زيادةٍ في فترةِ الهوانِ والذلِ فقطْ لا غيرَ، حتى تلقى مصيرَها المحتومَ الذي لا يغيرُه الهوانُ أبدًا بلْ يزيدُ منْ حتميةِ وقوعِهِ، بعدَ أنْ يقضي منها المُسْتَعْبِدُ وطَرَه!!

أما منْ يستمدُ عزتَه مِنْ عزةِ اللهِ فإنهُ يكونُ عبدًا لهُ وحدَه وبالتالي سيدًا لما سِواه، فلا ينحني إلا للهِ ولا يتوكلُ إلا على اللهِ ولا يخشى إلا اللهَ، فيحيا بقلبٍ متماسكٍ غيرَ متهتكٍ ولا مهترئٍ نتيجةَ انصرافِهِ إلى عبادةِ أصنامٍ شتى بأنواعٍ شتى، بلْ هوَ متجهُ نحوَ الإلهِ الحقِ يستمدُ منْهُ تماسَكَهُ وصحَتَهُ وعِزَتَهُ.

ولكن مع ذلك، ينبغي للمؤمنِ ألا يحسبَ أن تمسكَه بعزتِه سوفَ يمرُ عليه مرورَ الكرامِ في هذه الدنيا المكتظةِ باللئام، فإنَ لهذه العزةِ ثمنًا وثمنُها ليسَ بسيطًا ولا سهلا مُتاحًا.

عزةُ المؤمنِ وهوانُ غيرِه:

العزة التي تتملك المؤمن ويتملكها هي قبس من عزِة الله عز وجل لا تتأتى إلا بالذل له حقٍا، حيث أن الذل لله هو وسيلة التقرب إليه، والتقرب إليه هي وسيلة الاقتباس من نوره وعزته عزةً وأنفةً على من يريد أن يكون لديه ندًا لله تعالى، الإلهِ الحق. قال تعالى في سورة العلق: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] ونتيجة لهذا الاقتراب فإن المسلم يُرْزقُ العزةَ من رب العالمين؛ قال تعالى في سورة فاطر: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].

وقال عز وجل في سورة المنافقون: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]. وذلك ليبين ويؤكد أن عزة المؤمن هي من عزة الله وذلك بطاعته والتقرب إليه والتذلل إليه حتى يرتفع بهذا التذلل فوق الكون كله ليكون سيدًا مُطاعًا بأمر الله بتسخير اللهِ الكونَ له ليستخدمَهُ في نشر الحق في تلك الحياة الدنيا.

وعلى النقيض من ذلك فهوانُ غير المؤمن في الدنيا والآخرة ظاهر جلي لأنه يعبد كل شيء إلا الله العزيز المُتعال، فيصبح ذليلاً خاضعًا خَنوعًا لمخلوقات الله جميعًا من النفس والهوى والشياطين، إنسِهم وجنِهم، وطواغيت الأرض الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. وأما في الآخرة فهو مُهان من الله عز وجل، جزاءً لإهانته نفسَه في الدنيا بالبحث عن العزةِ في غير عبادة الله. وهكذا فهو مهانٌ دنيا وآخرة، فياله من خسرانٍ مبين.

ولا يفوتنا في هذا المقام استحضار قول عمرَ ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلامِ، فإذا ابتغينا العزة في غيره، أذلنا الله". قال تعالى في سورة الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج:18]. وقال تعالى في سورة مريم: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81، 82].

الخلاصة: ثمن العزة في زمن الهوان:

إن أصحاب البطش والطغيان لن يتركوا المؤمن لحاله يمارس عزته بالله وفي سبيل الله، ذلك لأن عزة المؤمن مذلةٌ وخزيٌ لخصومه وضرر لمصالحهم وشهواتهم الرخيصة. وهذا الأمر تقديرٌ من الله العزيز الحكيم حتى يسبر غور تمسك المؤمن بإيمانه وبعزة إسلامه. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

وهذه الضراء هي تقع على كل من يحاول جاهدًا أن يثني أسباب هوانه في الدنيا والآخرة عن طريقه ولا يلتفت إلا لطاعة الله وحده. وهي ثمن العزةِ في الدنيا والآخرة والبعدِ عن الهوان في كليهما.

والله أعلم.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام