يا غافلاً!
إن داء الغفلة عن الله والدار الآخرة ينتهي بالمجتمعات والأفراد إلى نهاية مخيفة! فالغرب قد شبع من متاع الدنيا وأسرفوا وبذروا، ولكن هل ارتاحت نفوسهم الراحة الحقيقة؟ كلا والله! فحوادث الانتحار فيهم تتكرر وتشاهد كل يوم وصباح مساء، وحياتهم البهيمية قد سئمتها حتى البهائم، لماذا؟ لأن تلك الشهوات الحيوانية المفرطة بلا قيود ولا ضوابط! لا يردعها رادع ولا يصدها صادّ، وذلك بسب افتقاد الكفار والمنافقين لأمر هام لم يبلغوه، وشيء عظيم يفتقدوه.
- التصنيفات: أعمال القلوب -
الحمد لله الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، عَزَّ جاهُه، وجَلَّ ثناؤُه، وتقدَّست أسماؤه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله على حين فترة من الرسل بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياًَ إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن الغفلة عن الله تعالى مُهلكة للإنسان، فكم من غافل عن مولاه لم يستفق إلا وهو صريع بين الأموات! فما نفعه ما كان يجمعه من متاع الدنيا الفاني.
أخي المسلم الحذر الحذر أن تكون من الغافلين عن ذكر الله وعبادته، أو أن يأتيك الموت وأنت على غير أهبة واستعداد، تخوض في السيئات وتنتهك الحرمات.
يا غافلا ً وله في الدهر موعظة *** إن كنت في سنة فالدهر يقظان!
لقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ونحن تبعاً له بذكر الله والحذر من الغفلة، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
وقد ذم الله سبحانه الغافلين عن ذكره فقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1-3].
وذم الله تعالى الكفار الذين يتفننون في مختلف أمور الدنيا من معايش ومآكل ومشارب، وصناعات، واختراعات، ولكنهم غافلون عن الله تعالى وعن معرفته وعبادته، منهمكون في الدنيا ومشاغلها وأتعابها، ولا يرجون لله وقاراً، ولا يقيمون لطاعته وزناً، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
إن الحضارة الغربية بما أوتيت من أسباب التقدم والقوة المادية، بما لم تبلغه الحضارات السابقة في هذا المجال، لم تعرف إلى الآن الهدف الذي خلقت لأجله! لقد علموا عن أمور الدنيا أموراً هائلة أوصلتهم إلى الصعود في طبقات الجو والغوص في ظلمات البحار، والغور إلى مكنون الأرض لاستخراج الثروات المختلفة، ولكن مع كل ذلك لم يجدوا الراحة التي يؤملونها ويؤملها كل إنسان على ظهر الأرض، لقد اهتموا بالجسد والمادة وغفلوا عن الروح، راحوا وراء أجسادهم وتركوا الروح التي براحتها يرتاح الجسد، وبنكدها يكون العناء والنكد.
إن داء الغفلة عن الله والدار الآخرة ينتهي بالمجتمعات والأفراد إلى نهاية مخيفة! فالغرب قد شبع من متاع الدنيا وأسرفوا وبذروا، ولكن هل ارتاحت نفوسهم الراحة الحقيقة؟ كلا والله! فحوادث الانتحار فيهم تتكرر وتشاهد كل يوم وصباح مساء، وحياتهم البهيمية قد سئمتها حتى البهائم، لماذا؟ لأن تلك الشهوات الحيوانية المفرطة بلا قيود ولا ضوابط! لا يردعها رادع ولا يصدها صادّ، وذلك بسب افتقاد الكفار والمنافقين لأمر هام لم يبلغوه، وشيء عظيم يفتقدوه.
إنه الاتصال بالله وتلبية نداء فطرة الله في نفوسهم والوفاء بعهده الذي واثَقَهم به {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:172-174].
وكم من شباب المسلمين ورجالاتهم من يتركون طاعة الله ،ويتجهون لتفريج الهموم -بزعمهم- إلى السفريات في كثير من دول الكفر، ثم يعجبون بما هم عليه من بهرج، ولكن ما إن تنقضي تلك السفريات وتلك الإجازات حتى يعود الهم والغم من جديد، والسبب في كل ذلك الغفلة عن الله سبحانه وتعالى. فوا عجباً ممن اتخذ العميان هداة له!
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم *** قد ضل من كانت العميان تهديه
فيا أخي الكريم: هل عشت مع الله، ولله تعالى، تروح وتغدو في طاعته وعبادته وذكره. والله لو ملكت من متاع الدنيا ما ملكت، وأنت في ضياع وتيه وبعد عن ربك ومولاك فلن يغني عنك ملكك ومالك ومنصبك وولدك من الله شيئاً، ستلاحقك الهموم، وستطاردك الغموم وينغص حياتك شبح القلق، وتؤزك الشياطين أزاً.
إن أخطر شيء في حياة الإنسان هو الغفلة عن أعظم شيء في الوجود وهو الصلة بالله والتقرب إليه بإقامة الصلوات، لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً يتهاونون بالصلوات بالختم والطبع على قلوبهم والغفلة المطبقة -والعياذ بالله- حيث قال: « » (رواه مسلم).
ولقد حذر الله الغافلين من صدمة يوم القيامة وسمى ذلك اليوم يوم الحسرة، يوم يتحسر فيه الغافلون على تقصيرهم في جنب الله، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].
ألا تعلم يا أخي أن أشد ما يتحسر عليه أهل الجنة ساعة قضوها في غفلة! فكيف بأهل النار، إنهم لأشد حسرة وحسرات على ما فات! قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه: "ليس تحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها".
كم من مبدد للأيام والليالي في لهو وغناء، ونزهة وضياع، وقيل وقال، غفلة تلو غفلة، فلا يصحى المرء إلا وهو في معسكر الموتى ثاوياً!
سبحان الله! كيف غدت الأمة المحمدية في آخر عهدها! بقايا من الصالحين والمصلحين والدعاة من العلماء العالمين، وأغلب الأمة في غفلة عظيمة، وسبات عميق، وكأنهم لم يخلقوا إلا للأكل والشرب والمُتع، دونما هدف وغاية.
يقول ابن القيم رحمه الله: "لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى بيت"، وقال أيضاً: "على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله" (الوابل الصيب لابن القيم ص [59])، وقال أيضاً: "إن حجاب الهيبة لله تعالى رقيق في قلب الغافل" (الوابل الصيب لابن القيم ص [59]).
اعلم أخي وفقك الله: أن الغافل بينه وبين الله تعالى وحشة لا تزول إلا بالذكر، واعلم أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به ، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة (الوابل الصيب لابن القيم ص [65]).
أيها الغافل عن ذكر الله وعبادته: اعلم أن الغفلة عن ذكر الله تعالى لها مضار كثيرة تشقيك في دنياك، وتهلكك في أخراك، إن لم يتداركك الله برحمته، ومن ذلك:
1. أنها تجلب الشيطان وتسخط الرحمن، ولقد رأينا وسمعنا من كان غافلاً عن الله لاهياً مستمعاً للغناء معرضاً عن ذكر الله قد صرعته شياطين الجن حقيقية لا معنى، فلم يأمن الشيطان بجسم ويرتاح له كتلذذه بالسكون والقرار في جسد هذا الغافل، أعاذنا الله من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
2. أن الغفلة سبب في الهموم والغموم والبعد عن السعادة، لأن الله تعالى قد قضى بأن من اتبع هداه فإنه لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكره فإنه له معيشة ً ضنكاً.
3. تورث العداوة والبغضاء، وتذهب الحياء والوقار بين الناس، ومن أراد مصداق ذلك فليذهب إلى أبغض البقاع إلى الله: الأسواق، ولينظر حال كثير من الناس فيها: لغط وصياح وغفلة عن الصلوات والذكر، وترتب على ذلك خصومات ومشاجرات وعداوات، وقد يصل الحال إلى سفك الدماء.
4. تُبلد الذهن وتسد أبواب المعرفة الحقيقية.
5. تبعد العبد عن الله تعالى وتجره إلى المعاصي، وعامة معاصي الناس وجرأتهم على الحرمات ما أتت إلا بغفلتهم عن ربهم، ولو عرفوا الله -تعالى- حق المعرفة وقدروه حق قدره لما حصل منهم تجرؤٌ على أحكام الله ووقوع في معاصيه.
نسأل الله أن يجنبنا الغفلة والبعد عنه، ونسأل أنه يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.