نحن والغرب (مالي أنموذجاً)
أحمد بن عبد الرحمن القاضي
زرع اليهودَ في فلسطين، وتدخل في أفغانستان، وعبث في باكستان، وغزا العراق، وبعثر الصومال، واحتزَّ شمال السودان عن جنوبه، وغض الطرف عن مجازر سوريا، وخنق العمل الخيري، والدعوي، في عقر دار المسلمين، واتخذ من الأنظمة ألعوبةً بين يديه؛ ترحل إليه، وتسجد بين يديه، وتقدم له فروض الولاء، وهاهو الآن يفتح جبهة جديدة في مالي، ولا ندري ما تخبؤه الليالي!
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فقد أعادت الحملة العسكرية الفرنسية على الإسلاميين في شمال مالي، الأيام الماضية، والتي لا تزال قائمة، السجال القديم حول علاقتنا بالغرب.
وهو سجال لم تنطفئ ناره، ولم يخبُ أواره، مذ طوى الإسلام بساط الإمبراطورية الرومانية النصرانية، من بلاد المشرق، وسلبها سُرَّة الكرة الأرضية، ومهد العالم القديم، وأرض الأنبياء، ومقار أربعٍ من مدائنهم المقدسة (القدس، وأنطاكية، والقسطنطينية، والإسكندرية) حتى صار البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) حاجزاً طبيعياً تتقابل على ضفتيه حضارتان متمايزتان:
إحداهما: الحضارة الإسلامية التي يؤمن أهلوها أنهم على الدين الحق، وأن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وأن كتابهم، القرآن العظيم ناسخ للكتب السابقة، التي طالتها يد التحريف، وأنهم خير أمة أخرجت للناس.
الثانية: الحضارة الغربية التي تنتمي إلى ثلاث مكونات ثقافية: الإغريقية، واليهودية، والنصرانية، صيغت في قالب كهنوتي ترعاه الكنيسة وبابواتها، ونظام سياسي يقوده أباطرة وإقطاعيون.
وظلت العلاقة بين الحضارتين علاقة عداء، على مر القرون؛ كر وفر، وغزوٍ، وغزوٍ مضاد، وحتى بعد قيام الثورة الفرنسية، وظهور ما يسمى (الدولة المدنية)، في سجال تاريخي طويل، من أبرز محدداته:
1- الفتح الإسلامي الأول لبلاد الشام، والعراق، ومصر، والمغرب، والأندلس.
2- الحملات الصليبية المتعاقبة على الشام، ومصر، وتونس، وما يسمى بحرب الاستعادة الإسبانية.
3- الفتوحات العثمانية لأقاليم أوربا الشرقية الأرثوذكسية (اليونان، والمجر، وبولندا، ومقدونيا، وصربيا، والبوسنة، والهرسك، وألبانيا).
4- الاستعمار الغربي الحديث لتركة الرجل المريض، إثر اتفاقية (سايكس بيكو).
وصدق الله العظيم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)[محمد: 4].
وصدق رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال للتنوخي، رسول هرقل: (يَا أَخَا تَنُوخَ، إِنِّي كَتَبْتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، وَاللَّهُ مُمَزِّقُهُ، وَمُمَزِّقٌ مُلْكَهُ، وَكَتَبْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِصَحِيفَةٍ، فَخَرَقَهَا وَاللَّهُ مُخْرِقُهُ، وَمُخْرِقٌ مُلْكَهُ، وَكَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ، فَأَمْسَكَهَا فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا مَا دَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ)[مسند أحمد: 3 /442)] إي والله! هذا الغرب هو الروم ذات القرون، والبأس.
(الغرب) وصف جِهَوي من حيث الوضع، لكنه اكتسب دلالة اصطلاحية، فهو وريث الإمبراطورية الرومانية بوجهيها الديني، والدنيوي، وهو اليوم، بعمقه الأوربي، وامتداده الأمريكي، يمثل السلطة السياسية والثقافية المهيمنة على العالم، التي نريد إخضاع المعمورة لمبادئها الليبرالية، العلمانية، وتطبيق الأنموذج الغربي على كافة المجتمعات الأرضية.
و(الغرب) الذكي يدرك أن أشد المجتمعات استعصاءً عليه المجتمعات الإسلامية، رغم ما مارسه حيالها من صنوف المسخ، والفسخ. ويدرك أيضاً أن جذوةً تحت الرماد، في المجتمعات الإسلامية، يمكن في وقتٍ قصير أن تستحيل قوةً هادرة تجتاح زيف النموذج الغربي وتفضح تزويقاته.
ولأجل ذا، لم يفتر دهاته، وساسته، عن التدسس في مفاصل العالم الإسلامي، فهو الغائب الحاضر، والرقم الذي لم نتمكن من إلغائه في كل مناقشة، والذراع الممتد من وراء البحار خلف كل قضية. ياله من بليَّة!
زرع اليهودَ في فلسطين، وتدخل في أفغانستان، وعبث في باكستان، وغزا العراق، وبعثر الصومال، واحتزَّ شمال السودان عن جنوبه، وغض الطرف عن مجازر سوريا، وخنق العمل الخيري، والدعوي، في عقر دار المسلمين، واتخذ من الأنظمة ألعوبةً بين يديه؛ ترحل إليه، وتسجد بين يديه، وتقدم له فروض الولاء، وهاهو الآن يفتح جبهة جديدة في مالي، ولا ندري ما تخبؤه الليالي!
ولقائل أن يقول، وحُقَّ له أن يقول: ألا تكفون عن إلقاء فشلكم على غيركم؟! ما ذا تتوقعون من عدوكم إلا أن يقوم بخطوات احترازية، واستباقية، ليؤمن نفسه أولاً، ويستغل ضعفكم ثانياً، ولو كنتم مكانه لسعيتم سعيه! ما كان للغرب أن ينال منكم كل منال، إلا من عند أنفسكم، ولأن فيكم (سماعون لهم).
صحيح! غير أنَّا في مقام وصف وتفسير، لا في مرافعة تسويغ وتبرير. ومع ذلك كله فنحن أمة تمتلك مخزوناً عقدياً هائلاً، وثقافةً، وحضارة، وشريعة مغيبة، لو أتيح لها أن تتنفس لأتت بالعجب العجاب.
حين تغزو فرنسا (مالي) نيابة عن الغرب، فهي لا تهدف، بالدرجة الأولى إلى المحافظة على مناجم اليورانيوم، والثروات المعدنية، والمصالح الاقتصادية، كما يصوِّر البعض، وإن كان ذلك ضمن الأهداف، ولا لتحافظ على التراث الإنساني، وتتباكى على الأضرحة التاريخية، التي قوضتها معاول السلفيين، ونعتها اليونسكو، ولا لتنصر حكومة شرعية في باماكو، ضد انفصاليين شماليين، ولا لتنجد شعباً مضطهداً من قبل الإسلاميين في الشمال، كما تدعيه، وإلا فأين هم عن شعب يذبح في سوريا؟! ليس هذا كله!.
باختصار، ووضوح، الغرب لن يسمح بنشوء أي شكل من أشكال (الدولة الدينية الإسلامية)، التي يمكن أن تعيد الصورة النمطية للمواجهة، وتعيد الهُوية لشعوب كبيرة سُلخت من انتمائها. وسواءٌ كان ذلك الناشئ الإسلامي مصطبغاً بعنف(القاعدة) و (طالبان)، أو كان ملوناً برخاوة بعض مخرجات ما يسمى بالربيع العربي. خصومة (الغرب) مع (الإسلام) الحي الديناميكي، وبعبارة أوضح: مع (الإسلام السلفي).
وربما عدَّ بعضنا هذا التكييف للعلاقة، نوعاً من التشدد، والتطرف، تحت تأثير الديبلوماسية الغربية الحاذقة، التي تعزف ألحان (الحوار) الرومانسية في الداخل، في حين تدق طبول الحرب المدوية في الفناء! فما يصنعون بتصريحات كبار الساسة الفرنسيين، لتبرير تدخلهم في مالي: نحن نخوض حرباً ضد (السلفيين)! هكذا، ودون مواربة، وليس كعادتهم حين كانوا يقولون: ضد (الإرهابيين) أو (المتشددين)!
وأحسب أننا، في هذه المرحلة الزمنية من المواجهة مع الغرب، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات، والجهود الجبارة، تتمثل في:
أولاً: الوحدة الداخلية بين أهل الإسلام، وحدةً تقوم على أساس إيماني، معرفي، راشد، يجمع ولا يفرق، يبني ولا يهدم. وتلك مهمة العلماء الراسخين أن ينشروا في الأمة خطاباً، متعقلاً، ينبذ الفرقة والاختلاف، ويدعو للوحدة والائتلاف، ويقصي جميع صور التحزب، والمحاصصة، ويحرر مختلف الفرقاء من أسر التصنيف والتنابز بالألقاب، ويعيد روح الأمة الواحدة.
ثانياً: عدم الانجرار إلى مزالق الاحتراب الداخلي التي تسوِّقها بعض الاتجاهات الغالية، مع الأنظمة. والسعي المطمئن لإصلاح البيت من الداخل، فنحن جميعاً شركاء في العقيدة، والشريعة، واللغة، والتاريخ، والجغرافيا، والمصير، ولا يجوز شرعاً، ولا عقلاً أن يقتل بعضنا بعضاً.
ثالثاً: الانخراط في التنمية الداخلية، وتعزيز الاقتصاد والبنية التحتية، والأخذ بجميع صور القوة والإعداد، وحسبان ذلك من الفروض الشرعية الجهادية.
رابعاً: إعادة الروح للعمل الخيري، بوصفه الظهير الكبير للبرامج الحكومية، وعدم الاستجابة لمشاريع الإجهاض، والقضاء على خيرية الأمة، تحت أي مبرر.
خامساً: الإدراك الواعي لعنصر (الزمن)، وسنن الله في التغيير، والبعد عن الاستعجال، وارتكاب المجازفات بدوافع عاطفية. والقيام لله بما يقتضيه الموقف الشرعي المدروس، فقد قيل للمؤمنين يوماً (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [النساء: 77].
والله المسؤول وحده، أن يعز دينه، ويعلي كلمته.