(37) اسم الله الحليم

هاني حلمي عبد الحميد

هذا المعنى في حق الله سبحانه وتعالى.. فيقول العلماء: الحليمُ.. أي الذي لا يعجُل على عباده عقوباتهم بذنوبهم.. حليمًا عمن أشرك وكفر به من خلقه فيترك تعذيبه أو تعجيل عذابه له.. حليمًا فهو ذا صفحٍ وأناة لا يستفزه غضب ولا يستفزه جهل جاهل ولا عصيان عاصٍ.. فلا يستحق الصافح مع العجز اسم الحِلمْ.. إنما الحليم الذي يصفح مع القدرة والمُتأني الذي لا يعجل بالعقوبة..

  • التصنيفات: الأسماء والصفات - الدعوة إلى الله -

ورد هذا الاسم في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، من ذلك:

قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235].

وقول الله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].

ومن ذلك قوله في سورة الأحزاب: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب:51].

وقوله في سورة فاطر: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41].

معنى الاسم في اللغة:

* الحليم من الحِلم، والحِلم -بالكسر- معناه في اللغة: الأناة والعقل. ويُجمع على أحلام وحُلُوم. وأحلام القوم: أي حُلماءهم. والحِلمُ نقيض السفه، أما الحُلمْ والحُلُمْ: فهو الرؤيا، والجمع أحلام، يُقال: حلم يحْلُم إذا رأى في المنام.

* الحِلمُ.. معناه الأناة والعقل. قال الراغب الأصفهاني: "الحِلْمُ ضبط النفس والطبعِ عن هيجان الغضب".

قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا} [الطور من الآية:32]: أي.. عقولهم، فجاءت من هنا حَلُمَ: أي ضبط نفسه وسيطر عليها.. وهذا هو المعنى اللغوي.

أما هذا المعنى في حق الله سبحانه وتعالى.. فيقول العلماء:

الحليمُ.. أي الذي لا يعجُل على عباده عقوباتهم بذنوبهم.. حليمًا عمن أشرك وكفر به من خلقه فيترك تعذيبه أو تعجيل عذابه له..

حليمًا فهو ذا صفحٍ وأناة لا يستفزه غضب ولا يستفزه جهل جاهل ولا عصيان عاصٍ.. فلا يستحق الصافح مع العجز اسم الحِلمْ.. إنما الحليم الذي يصفح مع القدرة والمُتأني الذي لا يعجل بالعقوبة..

وقد أنعم بعض الشعراء بيان هذا المعنى فقالوا:

لا يدركُ المجد أقوامٍ وإن كَرَموا *** حتى يذلوا وإن عزُّو الأقوام
ويُشتموا فترى الألوان مُسفرة *** لا صفح ذلٍ ولكن صفح أحلام

يقول الغزالي رحمه الله: "الحليم هو الذي يُشاهد معصية العصاة ويرى مُخالفة الأمر ولايستفزُه غضب ولا يعتريه غيظ ولايحمله على المُسارعة على الانتقام مع غاية الاقتدار ولا يحمله عجلة وطيش"، ألا ترى قول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61]، لكن الله سبحانه حليم.. فلو كان غير هذا لعجَّل بعقوبته على العصاة والمذنبين..

واسمع إلى قول الله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11].

وقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58].

وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].

كُل هذه الآيات تُشير إلى هذا المعنى وهو حلمُ الله تعالى على عباده.

قِيل: "حلم الله.. تأخيره العقوبة عن المُستحِق لها.. فيؤخر العقوبة عن بعض المستحقين ثم قد يُعذبهم وقد يتجاوز عنهم".

وقال بعضهم: حليم سُبحانه لأنه يعفو عن كثير فهو يعفو عن كثير من سيئاتهم ويُمهلهم بعد المعصية ولا يُعاجلهم بالعقوبة والانتقام بل يقبل توبتهم بعد ذلك..

يُقال: الحلمُ قرين للحكمة فلا يكون الحليمُ إلا حكيمًا لأنه يضع الأمور في مواضعها فيلزم من كونه أنه حليمًا أنه حكيمًا عليمًا قادرًا.. لأنه إن لم يكن قادرًا كان حلمه مُتلبِّسًا بالعجز والوهن والضعف.

وقالوا كذلك: الحليم عز وجل هو الصبور..

فالحِلمُ مع القدرة على الفعل ولايُشترط ذلك في الصبر.. فالحليم لا يتأثر بالمرارة ولايشعر بوجودها وقد يشترك معه في ذلك الصبر ولكن لا يُشترط وجوده فيه.

فالحليم الصبور المُتصفُ بالحلم يتمهل ولا يتعجَّل بل يتجاوز عن الزلات ويعفو عن السيئات فهو سُبحانه وتعالى يُمهلُ عباده الطائعين ليزدادوا من الطاعة والثواب ويُمهل العاصين لعلهم يرجعون للطاعة والصواب ولو عجَّل لعباده الجزاء ما نجى أحدًا من العقاب ولكن الله هو الحليم ذو الصفح والأناة استخلف الإنسان في أرضه واسترعاه في مُلكه واستبقاه إلى يومِ موعود وأجلٌ محدود فأجَّل بحِلمه عقاب الكافرين وعجٍّل بفضله ثواب المؤمنين.

وخُلاصة المعاني في تفسير الحليم أنه الذي لا يتعجٍّلُ بالعقوبة والانتقام ولا يحبسُ عن عباده بذنوبهم الفضل والإنعام بل يرزقُ العاصي كما يرزُق المطيع وإن كان بينهما تفاضُل على مُقتضى الحكمة لكنه سبحانه وتعالى ذو الصفح مع القدرة على العقاب.

فلا شك أنه ذا اسم جميل.. وسيحتاج منَّا إلى نظرٍ وتأمّل وتمعُّن وتدبّر.. ونُريد أن نتخلَّق بهذا الخُلق العظيم.. هذا الخُلق خُلق الحلم.. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشجع بن القيس.. قال: «إنَّ فيكَ لَخَصْلَتينِ يحبُّهُما اللَّهُ الحِلمُ والأناة» (رواه مسلم).

فالحِلمُ شرفه أنه سبب لمحبة الله سبحانه وتعالى وكفى بها من منقبة لهذا الخُلقُ العظيم فهو صفة تُكسِبُ المرء محبة الله ورضوانه وهو دليلٌ على كمال العقل وسعة الصدر وامتلاك النفس.. فالذي يتخلَّق بهذا الخُلق سيكون في منزلةٍ عُليا في تهذيبه وتربيته لنفسه..

لذلك إذا أردت أن ترى أحدًا أين وصل مع نفسه في حدود التربية انظرإلى حلمه.. أي ضبط النفس.. فالأصل في الإنسان أن يتشفَّى لنفسه وأن يُعاجل بالعقوبة أو يرد عنه أو يجد في نفسه شيئًا.. إنما الحليم لا يُبالي بمثل ذلك، فنفسه ليست أسيرة به ولا يهمه مثل هذه الجهالات ولا يلتفت إليها.. فهو لا يلتفت إلى سفاسف الأمور وهذا دليل على الوصول إلى منزلة عليا من الإيمان ومن تهذيبه لنفسه..

والله سبحانه وتعالى يؤيد الحليم وكذلك يُلقي قدْره في قلوب العباد لكن من البداية ينبغي فهم أمرًا مهمًا وهو أن الحِلمُ لا يُستخدم مطلقًا.. فقد نحتاج لأن نخرج عنه أحيانًا لردع السفيه..

فالأصل في التعامل عند تربية النفس أن تحلُم.. لكن هنا كبعض المواقف تحتاج الردع وتحتاج القوة في التعامل مع السفيه لا سيما إذا استشرى، فلو تُرك هكذا ستكون مفسدته أعظم وقد يُساء فهم الحليم في هذا الموقف.

ومن الأمور المتعلقة بالحلم أيضًا أنه لا يكون إلا مع القدرة على إنزال العقوبة وإلا سُمِّي ذلك خَوَر وضعف وذُل.. فالحليم من يقدر على الرد ولكنه يترك السفيه لجهله وذلك شرط على الحليم.. أن يقدر على إنزال العقوبة.

ومن فضل الحلم كذلك أن قليل من الخلق من يتصفُ به.. فالذي يتصف بهذا الخُلق صار بمنزلهم ميزة وصار في النادر القليل وقد يكتسبه الإنسان بالتعود وبالرغبة فيما عند الله بالثواب الجزيل فإذا تحلَّم العبد وتكلفه شيئًا فشيئًا يعتاده «إنما الحلمُ بالتحلُّم» (صحّحه الألباني) وذلك إذا كان دائمًا أبدًا ينظر إلى ما عند الله ولا يلتفتُ إلى الناس.. فسيكون ذلك دافعٌ له للتخلُّق بهذا الخُلُق العظيم.

الحلمُ يعمل على تآلف القلوب وينشُر المحبة بين الناس ويُزيل البغض ويمنعُ الحسد ويُميل القلوب ويستحق صاحبها لدرجات العلا والجزاء الأوفر.

ولذلك فهو خُلق عظيم نحتاج لأن نفقه عنه الكثير من الأمور حتى نستطيع أن نتخلَّق بهذا الخُلق فأولًا نعرفه في حق ربنا فنزداد محبةٌ له سُبحانه فالمتأمِّل في أحوال الناس يقول: فالغني غير راضٍ عن حاله..

تجده يقول: لو أن ذاك المال ليس عندي بتلك الكيفية يقصد إن حصل عليه من والده!

ويقول: كُنت أريد أن أتعب في الحصول عليه ليكون الإحساس بمتعة الحصول على المال موجود! وأما الفقير فيتسخط لعدم وجوده!

فسُبحان الله العظيم.. لا يرضى عنه أحد! لا الغني راضٍ ولا الفقير راضٍ ولاالصحيح راضٍ ولا السقيم والمريض راضٍ! الكُل لا يرضى عن الله.. فما أحلمه عنا مع أنه يستحقله الغضب علينا.. فهو يُغدق على هذا بالنعم ليُحبه بها فيطغى بها! وهذا يبتليه ليرجع إليه فيتسخط ويغضب.. فما أحلم الله سبحانه وتعالى!

كيفية التخلق بهذا الخُلُق؟

قالوا الأسباب الدافعة للحلم كثيرة خصٍّها الماوردي في أدب الدُنيا والدين بعشرةِ أمور، فقال:

"الحلمُ من أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد. والأسباب الباعثة عليه عشرة:

1- الرحمة للجُهَّال:

فينظُر إليهم بعين الرحمة لعدم علمه وعدم فهمه في رحمه ويتجاوزعنه ويحلُم عليه.. وذلك من خيرٍ يُوافقُ رقه وقد قيل في مأثور الحكم من: "أوكد أسباب الحلم رحمة الجُهَّال".

2- القدرة على الانتصار:

وذلك من سعة الصدر وحُسن الثقة فيبعثُه على حلمه معرفته التامة بأنه يستطيع أن ينتصر.. ولكن يتسع صدره بحُسن ثقته في ربه وما عنده من جزيل الثواب.. وأن الله سينتصرُ للمظلوم ولو بعد حين وأن الله سيكُف عنه ذلك ويدفع عنه وذلك شيء يعرفه المؤمن من نفسه وحاله مع ربه... فيتركه ويقول لو أراد الله أن يُردُ عنى ذلك الظلم سيكون.. فذاك قدر هو لا راد له! فيمنعه ذلك من أن يتشفَّى لنفسه ويقول: يا رب كُف عني أذى المؤذين في القدرة على الانتصار.

3- أنه من الأصل مُهذَّبٌ مؤدب فيترفَّع عن السباب:

فيستشعر من نفسه ومن لسانه العفة على أن ينطق بمثل السباب الموجه إليه! ويكون كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم: «لم يكن فاحشًا ولامُتَفَحِّشًا ولا صَخَّابًا في الأسواقِ، ولا يَجْزِي بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ» (رواه الترمذي)، فيترُكه ويترفَّع عن سبابه.. قالوا: وذلك من شرف النفس وعُلو الهمة ومن الجميل هاهنا أنهم قالوا الله سُبحانه وتعالى سمَّى يحيى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بسيدًا وذلك لحِلمه.. لأنه كان حليمًا فصار سيدًا.

4- الاستهانة بالمُسيء:

وذلك فيه نظر لأنه قد يؤدي إلى نوع من الكِبر! لكن الضابط هنا العِزَّة فإن كان عزيزًا فإنه يحلُم على الجُهَّال.. فمثل ذلك -ذُكر سابقًا في اسم الله العزيز- عندما أتى سُفيان أحدُهم فقال له: إنك مُتكبر فقال: لا إنما عزيز! أي لا أحب أن يجلب لنفسه الاستصغار بأن يُنزله المستوى من يجهلُ عليه بالقول أو الفعل.. وذلك عزة نفس وليس كِبرًا.. فالكبر بطرُ الحق وغمط الناس أما عندما يعزُّ بنفسه على أمر ربه فهو كِبر!

إنما الاستهانة بالمُسيء قريبة من معنى القدرة على الانتصار..

فأحذر من أن تكون العزة لديك بأن لا تخضع لأمر الله أو تستمع النصيحة من أحد أو أن تذلل له أو تذلل لمؤمنين.. بل فقط تكون عزيزًا على الكافرين والمجرمين فهنا لا تلين لهم.. أما إذا كُنت هينًا لينًا مع الناس مُتقبلًا لأمر ربك فقد نفيت عن نفسك الكبر.. ثم كُنت صعب في التعامل مع أعداء الله حتى لا يُستباح عِرضك.. فهذه عزة.

يقولون: رُوي أن مُصعب ابن الزبير لمّا وُلي العراق جلس يوما لعطاء الجُند وأمر مناديه ونادى: أين عمر ابن جرموز -وهو الذي قتل أباه الزبير ابن العوام رضي الله عنهما- فقيل له: قد تباعد في الأرض فقال: أو يظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله! فليظهر آمنًا ليأخذ عطاءهم وفرًا.. فقالوا استهانة بصنيعة.. فترك العقاب لله!

5- الاستحياء من جزاء الجواب:

والباعثُ عليه صيانة النفس وكمال المروءة ولذلك قيل: ما أفحش حليم ولا أوحش كريم.

أي: لا يُعقل أن يقع الحليم في مثل هذا الفُحش في الكلام.. فيجب أن يصون لسانه ويترفع أن يرُد عنه وكذلك يستحي من جزاء الجواب وهو أن يزيد الفاحش فيكُف عن نفسه بسكوته هذا الأذى!

6- الكرم والتفضُّل وحُب التآلف:

فقد حُكي عن الأحنف ابن قيس أنه قال: "ما عاداني أحدٌ قط إلا أخذت في أمري بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفتُ له قدره، وإن كان دوني رفعت قدْري عنه، وإن كان نظيري تفضَّلتُ عليه".

أي: لو أعلى مني أوقره امتثالًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: «ليس منّا من لم يوقر كبيرنا» وإن كان أدنى مني يمثل بقوله ليس منّا من لم يرحم صغيرنا وإن كان مثلي فأتميز عليه بالكرم وأتفضل عليه فأكون ذو الشأن.

7- الحزم:

فيقولون إن الحليم يستنكِفُ السباب وفي نفس الوقت يُريد أن يقطع أسباب مثُل ذلك فيبعثُه الحزم على التحلُّم.

قال الشعبي: "ما أدركتُ أمي فأبرها ولكن لاأسبُ أحدًا فيسُبها.. فقالوا: في إعراضك صونُ أعراضك!".

وقال الشاعر:

وفي الحِلمُ ردعٌ للسفيه عن الأذى *** وفي الخُرق إغراءٌ فلا تكُ أخرقًا!

فلو سفَهت ستُستباح وليس كما يُزيِّن لك الشيطان أنك لو صمت فذلك سيجعلهم يتكالبوا عليك وتزداد في الأذى بالعكس فلو كان ينبح فلا عليك به.. دع القافلةُ تسير والكلاب تنبح!

8- الخوف من العقوبة على الجواب:

بمعنى.. الخوف من العقوبة من الله سبحانه وتعالى إذا وقع في السفه فقد قالوا: الحلمُ حجاب الآفات.

9- الوفاءُ وحسن العهد:

إذا كان من وقع في حقك تعرف له مكرُمة عليك فترعى له هذه اليد السالفة وتكون له عليك حُرمة لازمة.. أي تفتكر له الخير وتتغاضى له عن خطأه في لحظة الغضب.

10- بعض الناس يحلمون ويكون الباعثُ عليه المكر والدهاء -وذلك مذموم وليس من مكارم الأخلاق- فقال بعضُ العقلاء: غضب الجاهل في قوله وغضب العاقل في فعله.

قال إياس:

تُعاقبُ أيدينا ويحلُم رأينا *** ونشتُمُ بالأفعال لا بالتكلم

ومثلُ ذلك: أن تترك أحدهم يشتمك ويُسيء لك أمام الناس.. فتحلُم عليه حتى يُثني على صنيعك الناس وتظهر أنت المظلوم أمامهم! فيكون الباعثُ على ذلك الدهاء وليس طلبِ رضا الله.

الفرقُ بين الحِلمُ وكظم الغيظ؟

يقول الغزالي في (الإحياء) والجاحظ في (تهذيب الأخلاق): "الحلم أفضل من كظم الغيظ لأن كظمُ الغيظ عبارة عن التحلُّم ولا يحتاج في الحلم إلى مثل ذلك..."، ففي كظم الغيظ تكلُّف أما في الحلم هو سجيَّة فلا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة عندما يلحق به الأذى لكن إذا أعتاد ذلك صار ذلك اعتيادًا فلا يُهيِّجه الغيظ. وهذا الأمر يحتاجُ لأن يدرس المرء شخصية عمر رضي الله عنه من بداية إسلامه إلى أنصار أميرًا للمؤمنين.. ويدُل على ذلك مواقف منها:

موقف له قبل الإسلام عندما ضرب أخته فاطمة عِداءً لله.. ثم في صُلح الحديبية بعد إسلامه عندما دخل على الرسول وهو غاضب وهو يقول: "لما نُعطي الدنيِّة في ديننا، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟"، وكانت تلك غضبه لله.

وبذلك نرى أثر الدين العظيم على شخصية عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كيف انتقل غضبه لنفسه إلى الغضب لله وحده وذلك بمُدارسة القرآن ومُجالسته للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. فسبحان الله جل في علاه.

ومن هنا يجب أن تنتبه إلى درسٍ مهم وهو: يجب أن يضيف لك الدين خُلق جديد، ومن ليس كذلك ففي التزامه مشكلة، لأن الإيمان يزيد وينقص فإن لم يكن يزيد فإنه ينقص.. فتبحث دائمًا عن أثر الإيمان عليك.. لأن الله شكور فإذا لم تجد للعبادة بعدها سعادة وانشراح فأعلم أن هذا العمل مدخول.

الحلمُ في السنة:

ورد ذكر ذلك الخُلق العظيم على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أحاديث كُثُر ومنها:

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، والعَجَلَةُ مِنَ الشيطانِ، وما أحدٌ أكثرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللهِ، وما من شيءٍ أحبَّ إلى اللهِ مِنَ الحَمْدِ» (حسّنه الألباني) وهنا نرى حلم الله.. إنهم ليدعون له الولد سُبحانه ويعذرهم ويدعوهم إلى التوبة!

انظر إلى حلمه وهو يقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، فقد آذوا أولياءه ويظهر هذا إن وضعت نفسك في نفس الموقف إن آذى أحدهم أقاربك أو عائلتك وأصبحت المسألة ثأر! لو عاقبتهم فلك الحق ولا لوم عليك حتى لو عاقبتهم بمثل ما عاقبوك به! أما الله فيُؤذون أولياءه ويدعوهم للتوبة فإذا لم يتوبوا يستحقون حينذاك العقاب الشديد منه سبحانه.. فما أحلم سبحانه فما أحد أكثر معاذيرًا من الله.

والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أعظم المثل في سيرته في هذا الخلق، ففي الحديث: "أنَّ رجلًا أَتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يتقاضاهُ فأَغْلَظَ فهَمَّ بهِ أصحابُهُ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «دَعُوهُ، فإنَّ لصاحِبِ الحقِّ مقالًا». ثم قال: «أعطوهُ سِنًّا مثلَ سِنِّهِ». قالواْ: يا رسولَ اللهِ لا نجدُ إلا أمثلَ من سِنِّهِ، فقال: «أعطوهُ، فإنَّ من خيرِكُمْ أحسنُكُمْ قضاءً» (رواه البخاري).

 

شرح الحديث:

فقد جاء ذلك الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم يختصم إليه وينال من عدله فأغلظ له قائلًا ما أعطيتني حقي! فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما همَّ الصحابة أن يُنكِّلوا بهذا الرجل فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقال هو خيركم أحسنكم قضاءً صلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدمَوهُ وهو يمسح الدمع عن وجهه ويقول: «ربي اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (رواه البخاري).

وكأن هذا حدث بعد أُحد.. فكأنه يحكي هذا عن نبي من الأنبياء ضربه قومه فأدموه فقال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وعن أنس أنه قال : "كُنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشيه فأدركه أعرابي فجبذه برداءه جبذه شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البُرد فقال: يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك فالتفت له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاءه" (رواه مسلم).

وهذا من شدة حلمه صلى الله عليه وسلم.. فتخيل نفسك مكانه وأنت تمشي ثم شدك أحدهم من قميصك وقال لك دونما أي مقدمه: أنت! فكيف ستتصرف معه! أما النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به يضحك للأعرابي.. فلميسكُن حتى.. إنما نظر إليه ثم ضحك ثم أمر له بأن يعطوه عطاءه.

وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها: "أنه استأذن رهط من اليهود فقالوا: السام عليك فقلتُ: بل عليكم السام واللعنة فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله رفيق يُحب الرفق في الأمر كُله». فقلت: أولم تسمع ما قالوا؟! فقال: «قُلت: وعليكم»" (رواه البخاري)، صلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومنها ما حدث في أحد أيضًا حينما قالت عائشة رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم: "هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيت وكان أشدُ ما لقيتُ منهم يوم العقبة إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يُجبني إلى ما أردتُ فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قدأظلتني فنظرت فيها فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله لك ملك الجبال لتأمره ما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبُد الله وحده ولا يُشرك به شيئًا» (رواه البخاري).

التعليق على الحديث:

يُقال: أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل من يأويني؟ من ينصرني؟! وفي أحد الأحداث وهو يعرض نفسه صلى الله عليه وسلم فأتاه سيدُ القبيلة التي يكلمها وبعد أن ركب النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته، فجذبه فوقع صلى الله عليه وسلم على الأرض وكان قد بلغ أكثر من خمسين عامًا! ويقال أن الارتفاع من الناقة إلى الأرض حوالي خمسة أمتار..

فانظر إلى ما لقي النبي الشريف الكريم عظيم الخُلق صلى الله عليه وسلم.. وانظر إلى ردّه عندما قال له ملك الجبال مُرني ما شئت.. ولكن ذلك هو نبينا الحليم محمد صلى الله عليه وسلم.

إذا الحلم خُلق عظيم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديدُ الذي يملك نفسه عند الغضب» (رواه البخاري).

وأوصانا بأن لا نغضب ثلاثًا وقال: «طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته» (حسّنه الألباني).

وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «السمتُ الحسن والتُؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءً من النبوة» (رواه الترمذي).

وكأنه يقول للدعاة وكل من يسير في دربها.. أن هذه شروط لازمة لأي داعية لأنها جزء من أربعة وعشرين جزءً من النبوة والمفترض أن العلماء والدعاة إلى الله هم ورثة الأنبياء فينبغي أن يكون ذلك الأساس عندهم:

أولًا: هو السمْت الحسن.. بمعنى السمْت الظاهري، بأن يكون مظهره حسن وذلك ليس لشخصه ولا تلك قضيته بل لأنه يحمل راية الإسلام. وسمته أيضًا السلوكي والخُلُقي.. فلا ينبغي لطالب علم أو داعية أو من بلغ منزلة عظيمة في العلم أن لا يتوافق سمْته الخُلقي والظاهر يمثل أن يلبس الملابس المُشجرة وغيرها! أما الأخلاق فهو أول شيء يُعلَّم للدعاة.

ثانيًا: التٌؤدة.. فلايصلُح العجلة.. فتجد من يدخل في سلك الدعوة من الشباب تجده متهور.. وهذا لا يصح! الأمر يحتاج للصبر والأخذ من خبرة السابقين ليعرف كيف يسير في هذا الأمر فلا تُصبح لديه القضية قضية حماس سرعان ما ينجلي.. فلا بُد من التُؤدة والحكمة.

ثالثًا: الاقتصاد ما بين الأمرين.. فلا يغلو ولا عنده تفريط.. فلا يتعبد الناس بالرُخص ولا بالعزائم طيلة الأمر.. فلا بد أن يعرف من يقول له هذا ومن يقول له الأمرالآخر.. فلا بُد أن يقتصد..

فلمَّا يخرج أحدهم ويكون لديه شيء من الغلو يتسبب في خروج جيل فيه شيء من الشدة.. ويظُن في نفسه أنه أكثر الناس التزامًا.. والأمر ليس كذلك. فالأمر ليس بالغلو وليس بأن يأخذ الناس بشديد وغليظ الأقوال.. وحتى في خاصة نفسك فقد يؤدي ذلك لنتائج عكسية فالقلب إناء يوجد فيه جزء مُضيء وآخر مُظلم.. والجزء المضيء هو الجزء الذي يدفعك وهو الذي يمدك بقوة في النفس فإذا أخذت تلك الطاقة وأخرجتها مرةً واحدة كما يفعل الذين يغلون في الدين.. فإذا أردت فعل المزيد من الطاعات ستجد أن الطاقة الإيمانية قد استُنفذت.. فيجب على الإنسان الملتزم المتزن أن يُخرج طاقته شيئًا فشيئًا مثلما يفعل الرياضيين من تمارين الإحماء قبل القيام بأي رياضة.. فيتدرج في الطاعات شيئًا فشيئًا إلى أن يعلو الإيمان في قلبه شيئًا فشيئًا فيُحقق بذلك الاقتصاد.

بعض تطبيقات السلف في الحلم:

قالوا: أن مفتاح الحلم العلم، قال عمر رضي الله عنه: "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم".

كان معاوية رضي الله عنه يقول: "لا يبلُغُ العبد مبلغ الرأي حتى يبلُغُ حلمُه جهله وصبره شهوته ولا يبلُغ ذلك إلا بقوة العلم".

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل سبَّه: "يا عكرمة هل لرجلٍ حاجة فنقضيها فنكَّس الرجل رأسه واستحى من حلم ابن عباس به".

ومن المواقف التي نختم بها أن علي ابن الحُسين سبَّه رجل فأتاه عليٌ بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فقال بعضهم: جمع في ذلك الموقف خمسً خصال محموده:

أولًا: الحلم.

ثانيًا: إسقاط الأذى.

ثالثًا: تخليص الرجل مما يُبعده عن الله.

رابعًا: حمله على الندم والتوبة.

خامسًا: رجوعه إلى مدح بعد الذم فاشترى بجميع ذلك بشيءٍ يسير من الدنيا.

فينبغي علينا أن نلاحظ مثل هذه الأمور جيدًا.. فصفة عباد الرحمن أنهم رُحماء إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا.

وتذكر دائمًا أن الله سُبحانه وتعالى يُعامل الحليم بالحلم فكلما ازددت حلمًا ازداد حلم الله بك وكلنا يحتاج لمثل ذلك فكلنا أصحاب ذنوب ومعاصي ونخشى من عاجل العقوبة، وذلك حلًا في كبيرة العقوق والبغي، فيُقال له: عليك أن تتعود الحلم لأن الحديث يقول قال صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنبٍ أعجل عقوبة من البغي والعقوق».. فحلها حتى يدفع العقوبة عنه أن يحلُم على بعض الناس ليُعامله الله بذلك حتى لا يُعجِّل الله له العقوبة.

 

المصدر: موقع الكلم الطيب