(38) اسم الله الجواد

هاني حلمي عبد الحميد

هذا الاسم لم يَرد ذكره في القرآن الكريم إنما جاء ذلك في السنة المطهرة ففي الحديث: «إن الله جواد يحب الجود ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها».

  • التصنيفات: الأسماء والصفات - الدعوة إلى الله -

هذا الاسم لم يرد ذكره في القرآن الكريم إنما جاء ذلك في السنة المطهرة ففي الحديث: «إن الله جواد يحب الجود ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها» (صحّحه الألباني).

وورد في حديث الترمذي الذي رواه أبو ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين لما أخبر عن رب العزة قوله: «يا عبادي! إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا. فلا تظالموا» (صحيح مسلم).

هذه الزيادة حسّنها الترمذي لكن ضعّفها الشيخ الألباني من باب الأمانة العلمية؛ لكن الحديث الذي يستدل به على ثبوت هذا الاسم هو حديث ابن عباس الذي ذكرناه. فالله سبحانه وتعالى جواد يحب الجود..

فما معنى الجود؟ وما الفرق بينه وبين الكرم؟

أهل اللغة يقولون: إن الجود هو التسمح بالشيء وكثرة العطاء، يقال: رجل جواد أي سخي، وجاد عليك بالمال أي تكرم.

ويقال يجود بنفسه أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله، وهذا في شأن الذي يبذل نفسه لله تبارك وتعالى، وقال أهل العلم الجود اصطلاحًا: إفادة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض. فلو أعطيت أحدهم شيئًا لن ينتفع به فهذا ليس بجود؛ كمن يطلب منك طعامًا فتعطيه كتابًا فهذا ليس جودًا لذلك قالوا: إفادة ما ينبغي.

إذًا الجود يكون من غير سؤال الشيء، أما لو سألك أحدهم شيئًا فأعطيته فهذا يُسمّى كرم. وهذا هو الفرق بين الكرم والجود.

والله عز وجل هو الكريم الأكرم.. يُعطي السائلين أفضل و أكثر مما يطلبون أو يأملون، وهو الجواد سبحانه يعطيهم من غير سؤال ولا يريد في ذلك عوض منهم. لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معاصينا سبحانه وتعالى ولا لغرض وليس ثمة مصلحة ولا منفعة لله تبارك وتعالى في ذلك.

والجود يكون من غير سؤال ولا استحقاق:

أي من تجود عليه أصلًا لا يستحق عطيتك ولا جودك ولا كرمك. وهذا شأن الله الجواد الذي يُعطي بلا استحقاق، يعطينا من غير ما نستحق ويعطينا من غير أن نسأل سبحانه وتعالى..

وإذا ما نظرنا في الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى إنه قال: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا. فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته. فاستهدوني -أطلبوا مني الهداية- أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته. فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته. فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا. فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني. ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم. كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم. ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم. وإنسكم وجِنّكم. كانوا على أفجر قلب رجل واحد. ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم. وإنسكم وجِنّكم. قاموا في صعيد واحد فسألوني. فأعطيت كل إنسان مسألته. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم. ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرًا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

وفي رواية: «إني حرّمت على نفسي الظلم وعلى عبادي. فلا تظالموا».

فالله سبحانه وتعالى هو الجواد، يقول ابن القيم رحمه الله:

وهو الجواد فجوده عم الوجود *** جميعه بالفضل والإحسان
وهو الجواد فلا يخيب سأله *** ولو أنه من أمة الكفران

وتحدّث ابن القيم رحمه الله عن آثار جود الله تبارك وتعالى فقال:

"إن الرب هو القادر الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، الجواد، المعطي، المُقدِّم، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويُسعِد من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء إلى غير هذا من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه سبحانه وتعالى".

فانظروا إلى جود الله تبارك وتعالى، فالله جواد يحب الإحسان ويحب العطاء ويحب أن يتفضل على عبده، فالفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسع عليهم فضله، ويغمرهم بالإحسان وبالجود سبحانه وتعالى، ويتم عليهم النعمة، ويضاعف لديهم المنة، ويتعرّف إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبّب إليهم بنعمه وآلائه، فهو الجواد لذاته، وجود كل جواد خلقه الله أبدًا، فليس الجود على الإطلاق إلا له، وجود كل جواد فمن جوده، ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والأنعام والأفضال فوق ما يخطر ببالك.

فالله عز وجل يحب أن يعطيك ولو لم تستحق لا لعوض ولا لغرض ويعطيك من غير أن تسأل. فهو سبحانه وتعالى الجواد لذاته فإذا تعرّض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وعد له أنواع كراماته وفضّله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتبه وأنزل عليه رسله واعتنى بأمره ولم يكمله ولم يتركه سُدىً، إذا تعرّض لغضبه وأرتكب مساخطه وما يكره وأبق منه ووالى عدوه وظَاهره عليه وتحيّز إليه وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام؛ فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر وتعرّض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان.

فتدبر وافهم أنك تمنع نفسك جود الجواد سبحانه وتعالى إذا تعرّضت إلى شيء مما يسخطه عليك، الجواد الذي عم جوده جميع الكائنات وملأها من فضله وكرمه ونعمه وخص بجوده السائلين بلسان المقال وبلسان الحال من بَرٍ وفاجر ومسلم وكافر.

حظ المؤمن من اسم الله الجواد:

نحن قلنا في اسم الله الكريم واسم الله الأكرم واسم الله المنان أنه ينبغي على العبد أن يتحلى بشيءٍ من ذلك. أن يكون جوادًا كريمًا فيعطي من غير سؤال، وأيضًا يعطي من يستحق ومن لا يستحق.

ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة:

يقول أنس رضي الله عنه والحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس"، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري لحديث ابن عباس رضي الله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: «لم تراعوا، لم تراعوا». وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: «لقد وجدته بحرًا. أو: إنه لبحر». وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا".

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين. فأعطاه إياه. فأتى قومه فقال: أي قوم! أسلِموا. فوالله! أن محمدًا ليُعطي عطاء ما يخاف الفقر. فقال أنس: إن كان الرجل ليُسلِم ما يريد إلا الدنيا. فما يُسلِم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".

وأيضًا في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: "أنه بينما يسير هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس، مقفله من حنين، فعلقه الناس يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العِضاه نِعمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا كذوبًا، ولا جبانًا»".

وفي الصحيحن واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود -يعني أنا جائع وألم بي شيئًا من سوء العيش- فأرسل إلى بعض نسائه. فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى أخرى. فقالت مثل ذلك. حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا. والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء. فقال: «من يضيف هذا، الليلة، رحمه الله» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا. يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله. فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا. إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء. فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنَّا نأكل. فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة».

وفي صحيح مسلم من حديث المقداد رضي الله تعالى عنه قال: "أقبلت أنا وصاحبان لي. وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد. فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليس أحد منهم يقبلنا. -كانوا يلقون السلام عليهم لعل أحدهم يضيفهم فلم يفعل أحد- فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله. -لم يفته أمرهم صلى الله عليه وسلم- فإذا ثلاثة أعنز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احتلبوا هذا اللبن بيننا». قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان مِنّا نصيبه. ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه.

قال: فيجيء من الليل فيُسلِّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا. ويسمع اليقظان. قال ثم يأتي المسجد فيصلي. ثم يأتي شرابه فيشرب. فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي. فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم. ما به حاجة إلى هذه الجرعة. فأتيتها فشربتها..

فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل. قال ندمني الشيطان. فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك. فتذهب دنياك وآخرتك. وعلي شملة -غطاء-. إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي. وجعل لا يجيئني النوم. وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت".

قال: "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يُسلِّم. ثم أتى المسجد فصلّى. ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئًا. فرفع رأسه إلى السماء. فقلت: الآن يدعو علي فأهلك. فقال: «اللهم! أطعم من أطعمني. وأسق من أسقاني»، قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليَّ. وأخذت الشفرة -السكين- فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا هي حافلة. وإذا هن حفل كلهن. فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطعمون أن يحتلبوا فيه -لم يكونوا يستعملونه فأخذت إناء منهم-".

قال: "فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أشربتم شرابكم الليلة؟» قال: قلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب ثم ناولني. فقلت: يا رسول الله! اشرب. فشرب ثم ناولني. فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى، وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إحدى سوآتك يا مقداد» -يبدو أنك صنعت أمرك- فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا. وفعلت كذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذه إلا رحمة من الله. أفلا كنت آذنتني -نبهتني-، «فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها» قال فقلت: والذي بعثك بالحق! ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من الناس".

تأمّل موقف النبي صلى الله عليه وسلم من مقداد بعد أن علم فعلته، لم يعاتبه ولم يؤنبه أو يؤدبه بل تغاضى عن الأمر برمته.. صلى الله عليه وسلم.

صور من جود أهل الجود:

جود أبي بكر رضي الله عنه:

- أُنظر إلى أبي بكر الجواد، ففي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر: «لو قد جاءنا مالُ البحرَينِ لقد أعطيتُكَ هَكذا وَهكذا وَهكذا»، وقالَ بيديْهِ جميعًا -كناية عن الكثرة- فقُبضَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قبلَ أن يجيءَ مالُ البحرينِ. فقدمَ على أبي بَكرٍ بعدَهُ فأمرَ مناديًا فنادى من كانت لَهُ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عِدَةٌ أو دينٌ فليأتِ. فقمتُ فقلتُ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: «لو قَد جاءنا مالُ البحرينِ أعطيتُكَ هَكذا وَهكذا وَهكَذا» فحثى أبو بَكرٍ مرَّةً ثمَّ قالَ لي: عدَّها فعددتُها فإذا هيَ خمسمائةٍ، فقالَ: خُذْ مثليْها".

- وكان جعفر ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مضرب المثل في الجود، يقول أبو هريرة رضي الله عنه في الحديث عند البخاري رحمه الله في (كتاب فضائل الصحابة) في مناقب جعفر، وذكره في باب (الأطعمة) في باب: الحلوى والعسل:عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أن الناسَ كانوا يقولونَ: أكثرَ أبو هُرَيْرَةَ، وإني كنتُ ألزمُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشِبَعِ بطْني، حين لا آكلُ الخميرَ ولا ألبَسُ الحَبيرَ، ولا يَخْدُمُني فُلانٌ ولا فُلانةُ، وكنتُ أُلْصِقُ بطني بالحَصْباءِ مِن الجوعِ، وإنْ كنتُ لأسْتَقْرئُ الرجلَ الآيةَ، هي معي، كيْ يَنْقَلِبَ بي فيُطْعِمَني، وكان أخيرَ الناسِ للمسكينِ جَعْفَرُ بنُ أبي طالِبٍ، كان يَنْقَلِبُ بنا فيُطْعِمُنا ما كان في بيتهِ، حتى إنْ كان لَيُخْرِجُ إلينا العُكَّةَ التي ليس فيها شيءٌ، فَنَشُقُّها فَنَلْعَقُ ما فيها" فكان أحب شيء إليه أن يفيض ويجود على المساكين.

- وهذا الحسن ربيب بيت النبوة سيد شباب أهل الجنة؛ رفع رجل إليه رقعه فقال قبل أن يفتحها: حاجتك مقضية. فقيل له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذاك. فقال: ويسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته؟!

- أما الحُسين رضي الله عنه فقد ذكر ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق: قال بعضهم: قدمت بأباعر -جمع بعير- عشرين أو ثلاثين بعيرًا أريد الميرة -أي تمرًا- فقيل لي: إن عمرو بن عثمان في ماله والحسين بن علي في ماله لو تريد أن تأخذ. -يعنى الرجل أتى يريد أن يجود عليه أحد-، قال: فجئت عمرو بن عثمان فأمر لي ببعيرين أن يحمل لي عليهما.

فقال لي قائل: ويلك ائتِ الحُسين بن علي قال: فجئته ولم أكن أعرفه فإذا رجل جالس بالأرض حوله عبيده بين يديه جفنه -وعاء- فيها خبز غليظ ولحم وهو يأكل وهم يأكلون. فسلّمت فقلت: والله ما أرى أن يعطيني هذا شيئًا. فقال: هلم. فأكلت معهم. ثم قام إلى ربيع ماء مجراه فجعل يشرب بيديه ثم غسلهما وقال: ما حاجتك؟ فقلت: أمتع الله بك قدمت بأباعر أريد الميرة من القرية فذكرت لي فأتيتك لتعطيني مما أعطاك الله. قال: أذهب فأتني بأباعرك. فجئت بها، فقال: دونك هذا المربد فأوقرها من هذا التمر. قال: فأوقرتها والله ما حملت، ثم انطلقت. قلت: بأبي وأمي هذا والله الكرم".

فالأول أعطاه على بعيرين فقط أما الحسن فأعطى له كل الأباعر من دون حتى أن ينظر في شأنه.

- وهذا ابن عباس اجتمع إليه قُرّاء البصرة وهو عامل عليها، فقالوا: "لنا جار صوّام قوام يتمنى كل أحد منّا أن يكون مثله يريد أن يزوج ابنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده مال يُجهِزها به. فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيدهم وأدخلهم داره وفتح صندوقه وأخرج منه ست بدر -والبدر: حقيبة بها مال من ألف إلى عشرة آلاف- فقال: احملوا. فحملوا، فقال ابن عباس: ما أنصفناه.. أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه. ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها، فليس من الدنيا من القدر ما يشغل مؤمن عن عبادة ربه وما بنا من الكبر أن لا نخدم أولياء الله".. ففعل.

فعل وهو ابن عباس.. فعل وهو والي على البصرة، أشفق على الرجل أن يلهيه المال عن صيامه وقيامه فأراد معاونته فكان مضرب المثل رضي الله عنه في الجود والكرم ومكارم الخلق.

- وكان رجل يُدعى عبد الحميد بن سعد، كان أميرًا من الأمراء، لما أجدب الناس بمصر قال: "والله لأعلمنّ الشيطان أني عدوه. فعال محاويجهم -تكفل بالمحتاجين منهم- إلى أن رخصت الأسعار فأتى بالفقراء قال لهم: خذوا حتى استدان لهم. ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم، فرهن بها حُلي نساءه فكان قيمتها خمسمائة ألف ألف -خمسمائة مليون- فلما تعذّر عليه ارتجاعها كتب إليهم فقال لهم ببيعها ودفع الفاضل منها إلى من لم تنله صلته.

انظر.. هذا والي يستدين من أجل أن يُطعِم الفقراء...!

- وكان معن ابن زائدة من ولاة البصرة، فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول عليه فلم يفلح، فقال لبعض خدامه: إذا دخل الأمير البستان فعرفني. فلما دخل الأمير البستان أعلِمه. فكتب الشاعر بيتًا على خشبه وألقاها في الماء، فلما بصر معن بالخشبة أخذها وقرأها فإذا بها مكتوب عليها:

أيا جود معن، ناجِ معنا بحاجتي *** فما لي إلى معنٍ سواك شفيع

فقال معن: من صاحب هذه؟ فدعي، فقال له: كيف قلت؟ فقال: قلت:

أيا جود معن، ناجِ معنا بحاجتي *** فما لي إلى معنٍ سواك شفيع

فأمر له بعشر بدر. فأخذ الأمير الخشبة ووضعها تحت بساطه فلما كان من اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها، فدعي بالرجل فدفع له مائة ألف درهم فلما أخذها الرجل تفكّر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج. فلما كان اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعي بالرجل فطُلب فلم يوجد، أخذ المال وهرب.

قال معن: حقًا عليَّ أن أعطيه حتى لا يبقى في بيتي مال ولا دينار.

- وذكر بن فلكان في كتاب وفيات الأعيان أن مروان ابن أبي حفصة الشاعر أخبر عن معن ابن زائدة وهو يومئذ تولى بلاد اليمن، أن المنصور جد في طلبه -وكان أبو جعفر المنصوري من ولاة الظلم- قال: فجعل لمن يحملني إليه مال. فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرّضت للشمس حتى لوّحت وجهي وخففت عارضي ولبست جبة صوف وركبت جملًا. قال: وخرجت متوجهًا إلى البادية فلما خرجت من بابي حر -باب من أبواب بغداد- تبعني أسود متقلد سيفه حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه فقبض علي فقلت له: ما بك؟ ماذا تريد؟ قال: أنت طلبت من أمير المؤمنين.

قلت: ومن أنا حتى أطلب؟! قال: أنت معن بن زائدة. قلت: يا هذا اتقِ الله وأين أنا من معن؟! -وكان شكله قد تغير من الشمس والنحول وسمت الفقراء عليه- فقال الرجل: دع هذا فوالله لأني أعرف بك منك. قال: فلما رأيت منه الجد قلت له: هذا جوهر قد حملته بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه أبى فخذه ولا تكن سببًا في سفك دمي. قال: هاته. فأخرجته إليه فنظر فيه ساعة، فقال: صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا. قال: فثلثه؟ قلت: لا. حتى بلغ العشر فاستحييت فقلت أظن أني فعلت. قال الرجل: ما ذاك بعظيم وأنا والله رجل ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهمًا وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك. فلا تعجبك نفسك...

يقول: ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجبل وولّى منصرفًا. فقلت: يا هذا قد والله فضحتني ولسفك دمي أهون عليَّ فخذ ما دفعته لك فإني غنيًا عنه. فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقالي هذا؟ والله لا آخذه ولا أخذ لمعروف ثمنًا أبدًا ومضى لسبيله. قال معن: فوالله فقد طلبنه بعد أن أمنت ومات المنصور فما عرفت له خبرًا وكأن الأرض ابتلعته!

وهنا لفتة.. كيف ربى الله معن بأن ساق إليه من ينفي عنه العجب ويكون أعلى منه حتى لا تغتر نفسه.. إنها وسيلة من وسائل التربية أن تنظر دومًا لمن هو أنشط منك وأكثر بذلًا فتنكسر عندك نفسك وتستصغرها وتحتقر عملك.

عاقبة الجود:

- الجود هو مفتاح الأرزاق وليس العكس كما يظن الناس، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل بفلاة إذ سمع رعدا في سحاب، فسمع فيه كلاما: اسقِ حديقة فلان» -رجل كان يسير في صحراء فسمع صوت يتكلم ويأمر السحاب بأني يسقي حديقة فلان- فجاء ذلك السحاب إلى حرة -أرض مليئة بالأحجار- فأفرغ ما فيه من الماء، ثم جاء إلى أذناب شرج -مكان سيل الماء وسيره- فانتهى إلى شرجة، فاستوعبت الماء، و مشى الرجل مع السحابة حتى انتهى إلى رجل قائم في حديقة له يسقيها فقال: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: ولم تسأل؟ قال: إني سمعت في سحاب هذا ماؤه: اسقِ حديقة فلان، باسمك، فما تصنع فيها إذا صرمتها ؟ قال: أما إن قلت ذلك فإني أجعلها على ثلاثة أثلاث، أجمل ثلثًا لي ولأهلي، و أرد ثلثًا فيها، وأجعل ثلثًا للمساكين والسائلين وابن السبيل».

- الجود يؤلف القلوب ويزيل الكراهية والبغضاء:

ففي صحيح مسلم من رواية طارق ابن شهاب رضي الله عنه قال: غزا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غزوةَ الفتحِ، فتحَ مكةَ. ثم خرجرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمن معه من المسلمين. فاقتتلوا بحُنَينٍ. فنصراللهُدينَه والمسلمين. وأعطى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومئذٍ صفوانَ بنَ أُميَّةَ مائةً من النّعَمِ. ثم مائةً. ثم مائةً. قالابنُ شهابٍ: حدَّثني سعيدُ بنُ المُسيَّبِ؛ أنَّ صفوانَ قال: واللهِ! لقد أعطاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما أعطاني، وإنه لأبغضُ الناسِ إليَّ. فما برح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناسِ إليَّ".

وكان صفوان بن أميه أحد رءوس قريش الذين كانوا يظاهروا العِداء للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كانت الغلبة للمسلمين؛ أسلم مع من أسلم على غضاضة، فأراد النبي أن يتألفه بجوده.

فالإحسان يزيل البغضاء والكراهية، لذلك دائمًا تألف الذي بينك وبينه عداوة بمثل ذلك.

قال الماوردي في (أدب الدين والدنيا): "جود الرجل يحببه إلى أضاده وبخله يبغضه إلى أولاده فكونوا من أهل الجود لتكونوا من أهل الإيمان فهذه صفة المؤمنين".

وقال مالك بن دينار رحمه الله: "المؤمن كريم في كل حال لا يحب أن يؤذى جاره ولا يفتقر أحد من أقربائه". ثم كان يبكي ويقول: "وهو مع ذلك غني القلب لا يملك من الدنيا شيئًا، إن أذلته عن دينه لم يزل وإن خدعته عن ماله انخدع".

وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: "من خدعنا بالله انخدعنا له". وكان إذا وجد أحد عبيده يجتهد في العباده يعتقه، فكان العبيد يتحرّون دخوله المسجد. فجاءه أحد أولاده يقول: "إنهم يخدعونك. فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له".

وقال جعفر الصادق: "لا مال أعظم من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ألا وإن الله عز وجل يقول: إني جواد كريم لا يجاورني لئيم" فاللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار، والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة".

وقال الحسن البصري: "بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود".

أنواع الجود:

ذكر ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين) عشرة مراتب للجود، قال:

"الجود عشر مراتب جود بالنفس، جود بالرياسة، جود بالراحة، جود بالعلم، جود بالجاه، جود بنفع البدن، وجود بالعِرض، وجود بالصبر، وجود بالخلق، والجود بترك ما في أيدي الناس دومًا".

1- جود بالنفس: أن تكون دومًا نفسك رخيصة عليك تبذلها بذلًا لله. قالوا: أقصى غاية الجود نفسك.

2- جود بالرئاسة: كما صنع الحسن بن علي رضي الله عنه حين جاد بالرياسة وأعطاها للأمويين.

3- جود بالراحة: أي يبذل راحته ورفاهيته وإجمام نفسه في مصلحة غيره، كأن يجود بنومه له فيقف له قائمًا، أو يمشي مع أخ له في حاجة وقت راحة له.. وهكذا.

4- جود بالعلم: وهذا لأهل العلم وطلبته. لأن العلم أشرف من المال. فإذا كان هذا يجود بالمال فعلى طالب العلم أن يجود بعلمه. والناس في هذا الجود على مراتب متفاوتة وقد اقتضت حكمة الله أن لا ينتفع بالعلم به بخيلًا أبدًا. فجد بعلمك وابذله لمن يسألك عنه واطرحه عليه.

5- جود بالجاه: إن كنت من أهل الوجاهات فأبذل جاهك شافعًا أو ماشيًا مع رجل إلى ذي سلطان حتى تدفع عنه مضره أو تقضي له حاجة ملحة.

6- الجود بنفع البدن: وهذا ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة. فكل تسبيحة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن المنكر صدقة. ويجزئ، من ذلك، ركعتان يركعهما من الضحى» (صحيح مسلم).

7- جود بالعِرض: وهذا كما يؤثر عن أبي ضمضم من الصحابة أنه كان يقول: "اللهم إني لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعِرضي فمن شتمني أو قذفني فهو في حل". فكان يتصدّق بعِرضه. وهذا الجود يحمل على سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من المعاداة.

8- الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء: وهذه مرتبه شريفة أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له.

9- الجود بالخص والبِشر والبسط: أن تستقبل الناس بالتبسم والبشر حتى وإن كانوا لا يستحقونه منك.

10- الجود بترك ما في أيدي الناس: فلا يلتفت إليه ولا يستشرف لهم. فهو يجود بترك الدنيا لأهل الدنيا ولا يتمنى ما عندهم.

* الفرق بين الجود والإسراف:

الرجل الجواد حكيم، يضع المال في نصابه، ويضعه فيما يحب الله عز وجل من مصالح المسلمين وما يعم نفعه عليهم وما سوى ذلك من الإنفاق هنا وهناك وبدون داعٍ أو حاجة فهذا الذي يُسمّى إسراف وتبذير والله عز وجل لا يحب المبذرين {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء من الآية:27].

فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل الجود، وأن يجعلنا من أهل الكرم، وأن يتفضل علينا بمَنِّه وجوده إنه سبحانه وتعالى الجواد الكريم الأكرم.

 

المصدر: موقع الكلم الطيب