(9) استغفروا ربكم أو الاستغفار المتدفِّق

خالد أبو شادي

ولم يفارق الاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبضت روحه ليكون آخر ما يختم به حياته: الاستغفار! روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة هذا الكمال البشري الرائع فقالت: "فنزع يده من يدي وقال : «اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى»، قالت : فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه".

  • التصنيفات: الزهد والرقائق - التوبة -

جرعة متعدِّدة المفعول تستخدم للوقاية والعلاج في آن واحد، فالاستغفار فضائله كثيرة وبركاته غزيرة لا تحصى ولا تعد، ومنها:
الأول: وقاية من السقوط.

الثاني: يمحو الخطايا والذنوب.
الثالث: يصقل القلب ويجعله أصفى وأقرب، ألم تر إلى الأرض التي تُمسح كل يوم مرات عديدة ألا تبهرك بلمعانها وبريقها؟ وكذلك القلوب مع الاستغفار.
الرابع: أنه مما يُعجِب الرب من عبده، فعن علي بن ربيعة أنه شهد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب سمى الله ودعا بدعاء الركوب ثم ضحك، فقيل: "يا أمير المؤمنين.. من أي شيء ضحكت؟"، قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله!! من أي شيء ضحكت؟" قال: «إن ربك يعجب من عبده إذا قال اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري» (صحيح أبي داود [2602]).

وبعد كل هذا الفضائل ما الذي تبقى لك حتى تواظب على الاستغفار؟!


الصيغة الشاملة
وقد علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام هذه الصيغة الرائعة لتغطي كل الذنوب التي تخطر ببال العبد والتي لا تخطر بباله، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اغفر لي خطيئتى وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير» (الجامع الصغير [1559]).

ولم يفارق الاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبضت روحه ليكون آخر ما يختم به حياته: الاستغفار! روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة هذا الكمال البشري الرائع فقالت: "فنزع يده من يدي وقال : «اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى»، قالت : فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه" (السلسلة الصحيحة [2775]).

وهي سنة الأنبياء من قبل، فنوح عليه السلام دعا: " {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح:28]. 
وإبراهيم عليه السلام نادى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
وموسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف من الآية:151].

وعند هذا.. يقف المرء مذهولًا: وأي خطيئة ارتكبها أنبياء الله حتى يستغفروا؟! ماذا جنت هذه النفوس الطاهرة؟! وأي خطيئة أسرّها وأعلنها وقدَّمها وأخَّرها هؤلاء الشوامخ؟!

اللحظة الفارقة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ صاحبَ الشمال ليرفعُ القلم سِتَّ ساعاتٍ عن العبدِ المسلمِ المخطئ أو المسيء، فإنْ ندمَ واستغفرَ اللهَ منها ألقاها، وإلا كتب واحدة» (السلسلة الصحيحة [1209]) .وهو ما يجعل توقيت الاستغفار في غاية الأهمية، والمبادرة إليه على الفور سر فاعليته، فالتأخر عنه يجعل الذنب ثابتًا ومحوه من الصحائف أصعب.

بقي أن نقول لأخواتنا أن حظهن من الاستغفار على قدر عددهن في النار، فهو في حقهن أوجب، قال صلى الله عليه وسلم مخاطبا حواء: «يا معشر النساء! تصدَّقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير» (صحيح الجامع [7980]).

شروط ثلاثة
ولكي يحدث الاستغفار أثره الفعَّال فلابد معه من الإكثار والاستمرار وعدم الإصرار، فأما الإكثار فلحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم غاليين يغريان كل كسول بالنهوض وكل عاص بالإقدام: «طوبى لمن وُجِد في صحيفته استغفارًا كثيرًا» (صحيح ابن ماجة [3093])، والثاني: «من أحب أن تسرَّه صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار» (الجامع الصغير [8322]، حديث حسن).

فأينا لا يحب أن تسره صحيفته؟!
وقد سنَّ الله لنا الاستغفار في مواضع كثيرة ليساعدنا على نفوسنا وينصرنا على غفلتنا: 
- بعد الخلاء: غفرانك.
- وعند دخول المسجد: ربِّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك.
- وعند الخروج منه: رب اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك.
- وفي الصلاة في الركوع والسجود: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي. 
- والجلوس بين السجدتين: رب اغفر لي.. رب اغفر لي.. رب اغفر لي. 
- وبعد التشهد: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
- وعقب الصلاة: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه.
- وفي السحر: لقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]
-  وعند ختام المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

إضافة إلى الاستغفار بعد كل ذنب وزلة: لقوله صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد يذنب ذنبًا، فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له» (صحيح الجامع [5738]) . حتى يكون آخر موعد لك مع الاستغفار عند غروب شمس يومك: نومك!! لتكون جلسة الحساب الختامي التي أوصاك بها مكحول الشامي:  "من أوى إلى فراشه ثم لم يتفكَّر فيما صنع في يومه، فإن عمل خيرًا حمد الله، وإن أذنب استغفر ربه عز وجل، وإن لم يفعل كان مثل التاجر الذي ينفق ولا يحسب، حتى يفلس وهو لا يشعر".

وكل هذا هدفه أن تلين الألسنة بالاستغفار وتعتاد عليه، وتجد نفسها تتقلب على مدار اليوم بين جرعات استغفار متكرِّرة، وبذلك يدفعنا ربنا إلى المغفرة والرحمة دفعًا. 

وأما الاستمرار فلما رُوي عن لقمان أنه قال لابنه: "يا بني!! عوِّد لسانك اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلًا"، وهي نفس وصية الحسن: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلي موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متي تنزل المغفرة".

والاستغفار أوجب عند وقوع الذنب، قال بكر بن عبد الله المزني: "أنتم تكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار، فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفار سرَّه مكان ذلك".

وأما عدم الإصرار فبالجمع بين استغفار اللسان والقلب لأن "الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما، فالأول فيه نفع لأنه خير من السكوت، ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدًا، والثالث أبلغ منهما". 

المصدر: موقع الكلم الطيب.