نوازل في الحج

هذا والحج جهاد وليس ترفهاً، ولا أدري كيف يشعر هؤلاء بالعبادة والإنابة وهم ينتقلون إلى البيت رفاهية، وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحج نوعاً من الجهاد في سبيل الله حينما سألته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- هل على النساء جهاد؟ قال: (( عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -

1- الحج مع حملات باهظة الثمن:

إنه لا ينبغي الحج مع تلك الحملات لما في ذلك من الإسراف، والتبذير الذي نهى الله عنه، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف من الآية:31].

هذا والحج جهاد وليس ترفهًا، ولا أدري كيف يشعر هؤلاء بالعبادة والإنابة وهم ينتقلون إلى البيت رفاهية، وقد جعل الرسول  صلى الله عليه وسلم  الحج نوعًا من الجهاد في سبيل الله حينما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- هل على النساء جهاد؟ قال: «عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» (الترغيب والترهيب [2/165]).

هذا وعلى الحاج وغيره أن يقتدي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم «حجّ النبي صلى الله عليه وسلم على رحلٍ رثٍّ وقَطيفةٍ تساوي أربعة دراهمٍ أولا تساوِي ثم قال: اللهمّ حجّةَ لا رياءَ فيها ولا سمعةً» (السنن والأحكام [4/28]).

 قال ابن القيم رحمه الله: "وكان حجّه على رحل لا في محمل ولا هودج ولا عمارية"، وقد تذكَّر صاحبُه ابن عمر رضي الله عنهما  بعد سنين حاله صلى الله عليه وسلم تلك حينما مرت به رفقة يمانية، ورحالهم الأدم، وخُطُم إبلهم الخُزُم، فقال: "من أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت العام برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ قدموا في حجة الوداع فلينظر إلى هذه الرفقة"، وفيها أن راحلته  صلى الله عليه وسلم  كانت زاملته التي يحمل عليها متاعه وزاده، ولم تكن له ناقة أخرى خاصة بذلك كما جاء في حديث ثمامة قال: "حج أنس رضي الله عنه على رحل ولم يكن شحيحًا، وحدَّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته" (فتح الباري لابن حجر [3/445]).

ومنها إردافه صلى الله عليه وسلم  أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة والفضل بن العباس رضي الله عنهما من مزدلفة إلى منى، ومنها عدم تميزه في الموسم عن الناس بشيء، وأعظم ما تجلى فيه ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: "يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: «اسقني». قال: "يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه"، قال: «اسقني فشرب منه» (رواه البخاري)، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال حين قالوا نأتيك به من البيت: «لا حاجةَ لي فيهِ اسقوني ممَّا يشربُ منهُ الناسُ» (مسند أحمد [3/253]). انتهى هذا.

وبعد هذا العرض الموجز لشيء من سيرته  صلى الله عليه وسلم  في حجه، أوصي الإخوة الذين يتنافسون في اختيار الحملات الباهظة الثمن ويفتخرون بذلك: أنهم قد خالفوا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالحج ليس نزهة أو رحلة ترفيهية، بل هو عبادة فيها معنى الجهاد كما تقدم.

2- تغطية الرأس من أجل البرد:

إن من محظورات الإحرام على الذكر تغطية الرأس ولبس المخيط، فقد قال صلى الله عليه وسلم  في المحرم الذي وقصته راحلته: «كفّنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة» (سنن أبي داوود [3238]).

لكن إن احتاج المحرم إلى تغطية رأسه أو إلى لبس المخيط من أجل الحكة أو الحساسية أو البرد الشديد ونحو ذلك ،فله فعل ذلك وعليه الفدية: وهي ذبح شاة، أو إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام أو صيام ثلاثة أيام، قياساً على فدية الأذى، قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة من الآية: 196]، وهذه الفدية على التخيير.

هذا ولو أنه دفع البرد بأن غطى جسمه ما عدا رأسه بقباء أو فرو ولم يدخل يديه في الكُمين أو بطانية ونحو ذلك مما لا يُعَدُّ مخيطاً جاز له ذلك ولا فدية عليه.

3- الأعذار التي تجيز للحاج المبيت خارج منى:

المبيت بمنى واجب من واجبات الحج على القول الصحيح مع الإمكان، فإذا لم يتمكن الحاج من وجود مكان بمنى يصلح للمبيت فإنه يسقط عنه، ولا تصلح الأرصفة ولا الطرقات مكانًا؛ للمبيت لوجود الضرر والخطر فيها، وعدم صلاحيتها للمبيت، وعندئذٍ فإذا لم يجد الحاج مكانًا بمنى يصلح للمبيت سقط عنه ولا شيء عليه؛ لأن التكليف مشروط بالقدرة على العمل؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن من الآية: 16]، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة من الآية:286]؛ ولذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة مفادها "لا واجب مع العجز" والواجبات كلها تسقط بالعجز، ومن ذلك إذا عجز الحاج عن المبيت بمنى أيام التشريق لعدم وجود مكان بها فبات خارج حدودها فإنه لا شيء عليه؛ لأن الواجبات جميعها تسقط بالعجز.

4- دخول الحاج في الخيام غير المسكونة بمنى ومزدلفة وعرفة:

من سبق إلى مكان فهو أحق به فيكون من اختصاصه، وقد روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منى مناخ من سبق» (مختصر الأحكام [4/118]).  وهذه الخيام المنصوبة بمنى لا شك أن لها أصحاب وعليكم أن تستأذنوا أصحابها إن وجدتموهم، فإن لم تجدوهم وأنتم بضرورة أو حاجة إليها فلكم البقاء فيها حتى يأتي أصحابها فإن أذنوا فبها ونِعْمَتْ، وإن لم يأذنوا فعليكم الخروج منها؛ لأن لهم حق الأسبقية.

هذا وإن كان المقصود من السؤال هو الأماكن الفارغة حول تلك الخيام فنقول: إن كان قد عُمل حولها أروقة دائرية عليها فالحكم كما تقدم؛ لكن على من حجزها وهو غير محتاج لها أو ينتظر من يؤجرها عليه أو يهبها، له الإثم وعلى من عرف وعلم بحال هؤلاء من أنهم يحجزون الأماكن من غير حاجة قائمة ومن ثَمَّ يحرمون غيرهم ممن هم في أمس الحاجة إلى تلك الأماكن أن يرفع بهم إلى الجهة المختصة لتمنعهم من ذلك وهذا من باب النهي عن المنكر، والله أعلم.

5- اعتبار البرد عذرًا شرعيًا في المبيت خارج منى:

في نظري أن البرد وحده ليس عذرًا للسكن خارج منى كما أن الحر كذلك، فالبرد يمكن دفعه بوسائل التدفئة وباللباس؛ لأن الحاج في منى ليالي أيام التشريق قد حل التحلل الأول الذي يبيح له ما شاء من الثياب، أما إذا لم يجد الحاج مكانًا في منى فإنه لا حرج أن يبيت خارج منى لكن يكون منزله متصلاً بمنازل الحجاج؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن من الآية:16]، فهذا الذي يستطيع  والحالة هذه كالنازل في منى، كالجماعة إذا امتلأ المسجد يصفون عند نهاية الصفوف ويكون لهم حكم المصلين داخل المسجد، هذا ولا يلزمه أن يذهب إلى منى يدور بسيارته معظم الليل أو يجلس على الأرصفة بين السيارات وقد يكون ذلك خطرًا عليه.

6- ترك الحاج بعض أعمال الحج بسبب خشية فوات رحلة دولية:

من أراد الحج، فالغالب أنه معلوم لديه أن أعمال الحج لا تنتهي إلا بالثاني عشر من شهر ذي الحجة للمتعجل فهو بلا شك لا يحجز إلا بعد هذه المدة. نعم قد يختلف دخول شهر ذي الحجة بالرؤية عنه في الحسابات الفلكية والتقاويم كما حصل في أحد الأعوام الماضية، حيث صار اليوم الثالث عشر بالحساب هو الثاني عشر بالرؤية، فإذا حصل مثل هذا أو كان جاهلاً بأيام الحج -وهذا نادر لمن أراد الحج- فكان حجزه مثلاً في الحادي عشر ونحو ذلك من الأمور القهرية، وكان أيضاً قد طاف طواف الحج وسعى إن لم يكن سعى مع طواف القدوم فإننا نرى والحالة هذه: أن عليه جزاء ما تركه من واجبات الحج. ولنفرض أنه سافر في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة نقول: تطوف للوداع، وعليك فدية تذبح في مكة عن ترك الرمي، وعليك أيضًا إطعام عن ترك المبيت ليلة الثاني عشر، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله: "أنه في ترك ليلة يطعم شيئًا، ولو يسيرًا". أقول: ويكفي أن يتصدق بشيء من المال ولو خمسة ريالات أو عشرة.

هذا وليعلم أن الفداء الذي يدفعه لترك بعض الواجبات ليس بدلاً عن ذلك على وجه التخيير بينها وبين هذه العبادات؛ وإنما هي جبر لما حصل من الخلل بترك هذه العبادات فلا يصح لحاج أن يقول: أنا أترك بعض الواجبات وأفدي.

هذا ويحسن أن أنقل فتوى عن فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله  فقد جاء مجموع فتاواه جـ23 ص 304 سؤال رقم 1377 ما نصه "سئل فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى: بالنسبة لكثير من الحجاج بالطائرة حاجزين في اليوم الثالث عشر، وقد تغير دخول الشهر فصار اليوم الثالث عشر هو اليوم الثاني عشر فإذا رموا قبل الزوال تمكنوا من رحلتهم فهل يجوز لهم الرمي قبل الزوال لأنهم إذا تأخروا لن يجدوا حجزاً بالطائرة؟

فأجاب رحمه الله بقوله: أرى أنهم في هذه الحالة ينزلون مكة ويطوفون طواف الوداع ويمشون، والقادر منهم يذبح فدية بمكة لترك الواجب الذي هو: الرمي ولا يسقط عنهم؛ لأن النبي  صلى الله عليه وسلم  لم يرخص للضعفاء الذين رخص لهم في العيد أن يرموا قبل الزوال، فإذا كان الرسول لم يرخص مع وجود السبب دل هذا على أنه لا يجوز؛ لكن نقول: إنهم حُصروا عن فعل الواجب وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة من الآية:196] هذا أقرب شيء" انتهى. والله أعلم.

7- حصر الحجاج بسبب الأمطار والسيول وفوات الحج بسبب ذلك:

اختلف أهل العلم بماذا يكون الحصر: أهو خاص بالعدو، أو يكون بالعدو ونحوه من كل مانع من إكمال النسك. فمنهم من يرى أن الحصر بالعدو خاصة، ويرى آخرون أن كل مانع من إكمال النسك من عدو أو مرض أو ضياع نفقة أو غير ذلك فهو حصر لعموم قول الله  تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرةمن الآية:196]، ومعنى (أُحْصِرْتُمْ )أي: منعتم من الوصول إلى البيت لإكمال النسك بمرض أو ضلالة أو عدو ونحو ذلك من أنواع الحصر الذي هو المنع، فعلى هذا المحصر: من يصير ممنوعًا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غيره، وهذا ما صححه كثير من أهل العلم وذلك لعموم الآية، فعلى هذا من أصابه عذر منعه من إكمال نسكه من كسر أو مرض أو حادث فإنه يحل من إحرامه بحصول ذلك المانع.

أما من فاته من الحجاج وقت الوقوف بعرفة ولم يستطع الوصول إليها إلا بعد طلوع الشمس يوم النحر من أجل المطر ونحوه فكل من لم يقف بعرفة في شيء من زمان الوقوف المحدد من طلوع الفجر الثاني يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني يوم النحر، فمن لم يدرك الوقوف هذا الوقت، فقد فاته الحج بلا خلاف بين أهل العلم، سواءً فاته الوقوف لعذر من مرض أو عدو أو مطر، أو ضل الطريق أو أبطأ به سيره أو ضاعت نفقته، وحينئذٍ يتحلل بعمرة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، وعليه فإن كان حجه فرضًا فعليه قضاؤه وإن كان نفلاً فلا قضاء عليه، ولا يفوت الحج إلا بفوات وقت الوقوف بعرفة، وحينئذٍ فمن فاته وقته فاته الحج، ومن أدرك وقت الوقوف أدرك الحج ويأتي ببقية أفعاله، ومن ترك شيئًا من الواجبات فعليه دم.


 أ.سليمان العيسى.
أ.حسين العبيدي.