في ظل النخلة
محمد علي يوسف
تلك الناسكة التي أجرى الله لها الكرامات والخوارق منذ نعومة أظفارها، التي كلما دخل عليها كفيلها زكريا عليه السلام في محراب صلاتها وجد عندها فاكهة الشتاء صيفًا، وفاكهة الصيف شتاءً! رزقًا من عند الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب، إنها مريم البتول، تلك الطاهرة المطهرة الطهور، كيف تحتمل وجود مخلوق لا تعرفه معها في مكان واحد، وهي على ما نعرفه من العفة والحياء؟!
- التصنيفات: التاريخ والقصص - قصص مؤثرة -
- {...إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18].
بهذه الكلمات صاحت بينما تنزوي بعيدًا، متسترة بعفافها متسربلة بحيائها، صاحت بها وهي التي كانت قد اعتزلت المخلوقين، وانتبذت حتى من أهلها مكانًا شرقيًا، محتجبة منعزلة، تخلو فيه بربها، وتأنس عنده بمليكها، فإذا بها تفاجأ بهذا الغريب يدخل عليها!
من أين جاء؟ وكيف وصل إليها؟ ماذا يفعل ها هنا؟ وماذا يريد منها؟ وهل يُطمع في مثلها؟!
وهل يظن مخلوق أنها يمكن أن تُمس؛ وهي البتول الحصان الرزان التي لا تنفذ إليها ريبة، إنها الكاملة المصونة، نذر أمها الصالحة المتقبل بقبول حسن، إنها العذراء العفيفة، ما دنا منها إنسان وما مسها بشر، العابدة الزاهدة الراكعة الساجدة القانتة، التي كملت من بين النساء، كريمة النسب، سليلة الأنبياء عليهم السلام، المنسوبة لهارون تيمنًا بعبادته وتنسكه..
هي تلك الناسكة التي أجرى الله لها الكرامات والخوارق منذ نعومة أظفارها، التي كلما دخل عليها كفيلها زكريا عليه السلام في محراب صلاتها؛ وجد عندها فاكهة الشتاء صيفًا، وفاكهة الصيف شتاءً رزقًا من عند الله، والله يرزق من يشاء بغير حساب، إنها مريم البتول، تلك الطاهرة المطهرة الطهور، كيف تحتمل وجود مخلوق لا تعرفه معها في مكان واحد، وهي على ما نعرفه من العفة والحياء؟!
صاحت به مذكرة إياه مخاطبة فيه مروءته: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}، لعله إن كان يريد شرًا أن يقصر إذا هو سمع كلمة التقوى، كما فعل صاحب الصخرة فقام عن المرأة التي راودها حين خاطبت تقوى نفسه بقولها: "اتق الله..".
{..إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19].
رسول ربها؟ غلامًا زكيًا؟ ماذا يقول؟! وعن أي غلام يتحدث؟!
غلام وهي العذراء الشريفة العفيفة، التي لم يمسها بشر قط! لزوال الدنيا أهون من تصور بعض ما يقول، الأمر صار يفوق الاحتمال..
{..أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20].
هكذا صاحت مستنكرة، هي لم تك يومًا على ريبة، لم تنطق حرف النون في كلمة "أكن" للدلالة على الامتناع التام، والبعد الخالص عن مطلق فعل البغايا، وما أكثرهن في بني إسرائيل.. أما هي وأمها الناذرة وأهلوها وأجدادها فما أبعدهم عن السوء، فعن أي غلام يتحدث الناموس؟! وبأي عرف في الكون أو قانون، أو مثل هذا يمكن أن يكون؟!
{...كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم:21].
الموضوع منتهٍ، والأمر مقضي، والمعجزة تمت، والله حكم وأمر، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، قد نفخت روح الغلام فيك يا مريم وانتهى الأمر، وقضى الملك أن تكوني من يحمل آيته ومعجزته، سيولد ولدك بغير أب، ومثله عند الله كمثل آدم ولد بغير أب ولا أم؛ خلقه من تراب ثم قال له كن فكان..
حقًا إنه ابتلاء وأي ابتلاء، وحقًا إنها محنة وأية محنة، لكنك أهل لها يا مريم، ومن يكون إن لم تكوني؟
ومن يتحمل إن لم تتحملي أنت؟ ومن يصبر إن لم تصبري أنت؟ أنت يا مريم من النماذج التي تجعل كل عنصري مغرض يدعي أن شقائق الرجال لا قيمة لهن ولا مقام، يبتلع لسانه وينزوي ببهتانه، أنت من القلائل اللائي أثبتن أن المرأة إذا صلحت وصدقت فإنها قد تعلو على آلاف الرجال، أنت من اللائي أكدن معنى أن الله يتقبل أمته كما يتقبل عبده، ألم يصطفك الله؟ ألم يطهرك؟ ألم يفضلك على نساء العالمين؟! بلى قد كان، وقد فعل الرازق الحكيم الكريم المنان.
الآن حان الوقت لتتعبدي بالصبر، كما تعبدتِ في محرابك من قبل بالقنوت والسجود والذكر والشكر، ستمر الأيام بسرعة، وستأتي اللحظات الحاسمة التي يظهر فيها معدنك النفيس، ها هو المخاض قد ألجأك إلى جذع النخلة، ها قد اقتربت اللحظة الحاسمة، وحدك في ظلها، لا رفيق ولا عضد، ولا أم تسعى، ولا قابلة تعين على آلام المخاض، لم يكن لدعوة أحد من سبيل، وكيف كنت ستخبريهم؟ إن الأمر معقد، وإن القوم بسطاء؛ لن يفهموا الآية وحولهم من رعاع بني إسرائيل من سيظل مجترئًا على القدح في عرضك، رغم ما جاءهم من الحق وعرفوه، لقد كنت مضطرة إلى هذا المكان القصيّ، لا أحد يدرك حقيقة حالك إلا مولاك..
{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم من الآية:23].
ياله من حزن ذلك الذي يقطر من حروفك أيتها الصديقة، هم وغم لا تقدره إلا العفيفات، حزن وكرب لا تعرفه البغايا ومن هُنَّ على أنفسهن حتى رضين أن يكن سلعًا تباع وتشترى، وتلتهم بالأبصار، أما أنت أيتها الحيية فالموت والنسيان أحب إليك من أن يصمك عربيد لا يقدرك حق قدرك بريبة، ما أشبه جملتك بجملة أحد آبائك الأقدمين، ما أشبه حياءك بحيائه وحرصك وبحرصه، لقد فضل يوسف السجن علي الغواية، وقال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، لعل من دمائه العفيفة ما يجري في عروقك أيتها الصديقة..
ما هذا الصوت؟! واقع هو أم خيال؟ كيف وقد انتبذت من أهلها مكانًا قصيًا؟!
لا يوجد مخلوق في هذا المكان البعيد، معقول؟! الصوت من تحتها! {أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم من الآية:24]، إنها المعجزة، إنها الآية؛ إنه الغلام الذي لم يكد يخرج بعد.. يتكلم؟! سبحان الفاطر الخالق القادر الحكيم!
ها هو النبع يتفجر من أجلها، لتجد الماء الذي ترطب به حر الألم، وشدة الجهد الذي ألم بها..
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا . فَكُلِي وَاشْرَبِي...} [مريم:25-26]، وهل مجرد هزة واهنة بيد نفساء ضعيفة لجذع نخلة راسخة؛ تسقط ثمارًا يصعد الرجال الأشداء ليأتوا بها؟!
نعم! وما ذلك على الله بعزيز، ولله في طلاقة قدرته آيات، إنها لعطية، وإنها لهبة من عند من يقول للشيء كن فيكون، وأنت جديرة بالكرامة أيتها الصديقة البتول، {وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم من الآية:26]، ما أرحمك يا الله! ما أعظم ودك! تريد أن تقر عين أَمتك، تريد أن تفرحها وتقر عينها، كما أقررت عين أم موسى برد وليدها إليها فقلت، وأصدق القول قولك: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص من الآية:13]، ألهذه الدرجة تتودد لأحبابك وأوليائك؟ سبحانك سبحانك ما أعظم شأنك!
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم من الآية:26].
وماذا تملكين أن تقولي؟ وهل سيصدقونك مهما كان ما تقولين؟ ليس أفضل من الصمت الآن والصيام عن الكلام، ودعي هذه المعجزة المتكاملة، والآية الباهرة التي ترينها أمام ناظريك، دعيها تفصح عن ذاتها بنفسها، وبعين إبهارها، وببليغ حديثها عن بديع صنع ربها، فأتت به قومها تحمله، كما هو متوقع بدأ الصراخ من أسرة مكلومة تخشى الفضيحة، وتدرك فداحة ما ترى، أنت يا مريم؟! أنت تفعلين هذا؟!
بدأت الاتهامات اللاذعة تنهمر على أسماعها، وبدأت النظرات القاصفة تخترق كيانها، يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا، يا أخت هارون، نادوها مذكرين إياها بهارون، أنت يا من كنت تشبهين هارون في عبادته وزهده، أنت يا من كنت آخر من نتوقع أن يصدر هذا منها، ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا، غريب شأنكم! ما هذا؟! أصدرتم عليها حكمكم، وأبرمتم فيها أمر قراركم، رغم ما تعلمونه من عفتها! عمومًا لن ترد هي عليكم، لسوف تشير! فقط ستشير إليه، تاركة معجزتها تنجلي، مطفئة نار شككم، مجهزة على شرر اتهامكم..
قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا؟! هل حدث لك شيء يا مريم؟! وهل الرضع يتكلمون؟!
ماذا ألم بك وقد كنت العاقلة الأريبة؟ مالك؛ علينا لا تردين؟ {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، من؟! ماذا يحدث؟! رضيع يتكلم؟! إن هذا لشيء عجاب! إنه يخطب فيهم خطبة ما أفصحها وما أجمعها؛ فأول تصديرها تقرير العبودية لله؛ إني عبد الله، فما هو إلا عبد أنعم الله عليه..
إنه يستفتح حياته بإقامة الحجة، على كل من سيزعم ألوهيته، أو يدعي بنوته لله، أو يفتري فرية امتزاج لاهوته بناسوته، سبحان الله جل في علاه، ما هو إلا عبد بهذا بدأ كلامه في الناس، وهكذا استفتح حجته، وبرأ أمه الطاهرة النقية: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:30-33].
ذلك ببساطة هو عيسى بن مريم، فلم الجدال ولم المراء؟ هو عبد عابد نبي، مبارك حيثما حل، مأمور بصلاة وزكاة كسائر العباد، بشر يولد ويموت، وابن بار، وحامل رسالة ومبلغ كتاب، هذا هو المسيح ببساطة ووضوح، ليس إلهًا، ولا ابنًا لله، وما قال للناس يومًا: اتخذونى وأمى إلهين..
ظهر الحق للناس، وظهرت براءة مريم، وأنجاها الله بهذه المعجزة، ووهبها أعظم الهبة، وأكرمها بولد نبي رسول بار، وقد أذعن الناس جميعًا وقتئذ لجلال الآية وعظمتها، لكن ستمر الأيام ويكذبونه، ويتآمرون عليه، ويسبونه وأمه بأبشع الألفاظ، وأشنع التهم، وسيحاولون قتله وصلبه، بل سيظنون إلى يومنا هذا أنهم فعلوا، وما قتلوه يقينًا، ولسوف يغلو فيه آخرون، ويألهونه وأمه وينسبونه ولدًا للذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدًا، وستبقى العقيدة الإسلامية النقية البسيطة، التي تقبلها القلوب وتتشربها العقول، إنها عقيدة التوحيد المصونة بحفظ ورعاية الواحد الجليل..
عقيدة: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ . وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [مريم:35-36]، إن هذا لهو القصص الحق، وإن تلك لهي الحقيقة الناصعة، وإن ذلك لهو عطاء الله لأوليائه؛ عطاء الله الذي رأيناه جليًا في سورة مريم، التي استرسلت حول بعض من معانيها في تلك الكلمات اليسيرة..
سورة مريم التي سميت باسم تلك الصديقة تكريمًا لها، وإعلاءً لقيمتها، ورفعًا لشأن قصتها العظيمة، والتي توجت بعطاءات الله لها ولولدها؛ من معجزة باهرة وبركة ونجاة، لم يكن يظن بالله جل وعلا أن يعاملها بغيرها، وكذلك عطاءات الله لأوليائه وأنبيائه، والتي ازدحمت بذكرها بها السورة العظيمة..
عطاءاته تعالى لزكريا ويحيى وإبراهيم وموسى وإدريس وباقي من انتظمتهم السورة، ممن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، عطاءات تملأ القلب بالرغبة والأمل في أن يصيب من تلك العطاءات والكرامات {أوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم من الآية:58]، لماذا؟! ما الذي ميزهم وما سبب إكرامهم؟ {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم من الآية:58]، هذه درجتهم، وتيك ميزتهم، وتلك خصوصيتهم، فهل عرفت الدار أم أنكرتها؟
هيا قم فوفِ حقها، واطرق بيدا عزمك بابها، واشهد الجمع الغفير عامرًا بروضة رغبها ورهبها، وابتغِ القرب والزلفى حينها، قم فتقنت.. واسجد واركع.. وابتهج؛ أنت في باحة الراكعين الساجدين.