تناقضاتنا الفكرية حول فكرة (القَدَر)
أحمد كمال قاسم
إن كلا الاحتمالين هما (قدر الله) إن القدر ليس حدثًا واحدًا محتومًا! بل هو كل الأحداث التي يمكن للمرأ الاختيار منها، نعم! إن مفهوم (القدر) لدينا مشوش! إن القدر يا سادة ليس هو سلسلة الأحداث التي ستحدث رغمًا عنا -إلا إننا يجب أن نأخذ بالأسباب-! لا، إن القدر من (القَدر) وهو الحصر والتحديد، هو حصر الخيارات أمامنا في كل لحظة في حياتنا إلى خيارات معدودة محصورة (مقدورة)! إنه ليس اختياراتنا! بل هو ما يمكن أن نختاره!
- التصنيفات: تربية النفس -
تناقضاتنا الفكرية حول فكرة (القَدَر) وأثرها السلبي على هِمَّتنا:
لي فترة أفكر في فهم المسلمين لقضية القدر، وعلاقة هذا الفهم بحال المسلمين الآن من تقهقر بالنسبة لباقي أمم الأرض. بعد ملاحظة لمقولات الناس من كافة الأطياف واستشهاداتها، خلصت أن أغلب الناس تنقسم إلى نوعين:
أ- العامة البسيطة والتي يردد أغلبها مقولات مثل: "اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"، أو "كله قسمة ونصيب"، أو "محدش حياخد غير نصيبه"، وهذه العامة هي أقرب للجبرية في هذا القول وأمثاله، لكنهم متناسقون مع أنفسهم إلى حد كبير لأنهم لا يُفَلسِفوا الأمور، ولا يحاولون الجمع بين المتناقضات رغمًا عنها..
ب- الخاصة المتدينة وهم كثيرًا يستخدمون عبارات تدور حول محورين:
1- لا يغني حذر من قدر، أو القدر أمر محتوم، لكن..!
2- يجب أن نأخذ بالأسباب لأننا إن لم نأخذ بها يكون تواكُلًا!
في الحقيقة فكرت كثيرًا في تناغم هذين المحورين مع بعضهما البعض، فوجدت أنهما متناقضين إلى حد بعيد!
إذ أن التصريح بـ(حتمية القدر) لا ينسجم أبدًا مع ما يسميه الخاصة "الأخذ بالأسباب"، إلا أنهم يجمعون بينهما قسرًا بتفلسف مثل: القدر المحتوم فيما قد مضى، لكن ما هو آت يجب أن نعمل فيها قدر استطاعتنا حتى نأخذ بالأسباب.
وجدت أن الخلفية الفكرية للقدر التي تجعل منها (حوادث محتومة) لها تأثير نفسي سلبي على المسلم يدفعه للاستسلام إلا أنه يحاول دفع هذه الخلفية الاستسلامية كل حين بقوله لنفسه قبل غيره: "يجب الأخذ بالأسباب"! إن "الأخذ بالأسباب" في ظل هذه الخلفية الحتمية ما هو إلا (عبادة) -في نظر أغلب الخواص- لأن الله أمرنا أن نأخذ بالأسباب، وكأنما الأخذ بالأسباب لا يغير شيئًا، وأنه تحصيل حاصل، إلا أننا نتعبد الله به!
والسؤال هنا هو: أليس الأخذ بالأسباب جزء من القدر؟ فأين ما يُسمى بحرية الإرادة؟!
إلا أن الخاصة يبذلون جهدهم بحجج ذكية لإثبات عدم تناقض الحرية مع القدر المحتوم (الجبرية)!
- أصل المشكلة؟!
أصل المشكلة في رأيي هو في مفهوم القدر نفسه! هل نفهم القدر فهمًا صحيحا؟ وهل القدر هو الأحداث التي ستحدث شئنا أم أبينا؟
- ما هو القدر؟
قرأت وكتبت كثيرًا في هذا الأمر! فوجدت أن من أبلغ العبارات التي قيلت في هذا الأمر كانت في حوار عمر بن الخطاب مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء..
فقال: ارتفعوا عني ثم قال ادعوا لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء..
فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فاصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله".
قال: "فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « »، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف" (صحيح البخاري:5729).
لقد قال أبو عبيدة لعمر: أفرارًا من قدر الله؟!"، وكأن أبا عبيدة يلمح بأننا يجب أن نمضي لنمتثل لقدر الله!
واستهجن عمر قول أبي عبيدة لغرابته قائلاً: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟!".
ثم قال كلمته العبقرية التي حسمت الأمر للأبد!: "نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله".
ثم أعطى مثالاً بسيطًا عبقريًا:
"أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله"، يا له من فهم واضح ثاقب!
إن كلا الاحتمالين هما (قدر الله) إن القدر ليس حدثًا واحدًا محتومًا! بل هو كل الأحداث التي يمكن للمرأ الاختيار منها، نعم! إن مفهوم (القدر) لدينا مشوش! إن القدر يا سادة ليس هو سلسلة الأحداث التي ستحدث رغمًا عنا -إلا إننا يجب أن نأخذ بالأسباب-! لا، إن القدر من (القَدر) وهو الحصر والتحديد، هو حصر الخيارات أمامنا في كل لحظة في حياتنا إلى خيارات معدودة محصورة (مقدورة)! إنه ليس اختياراتنا! بل هو ما يمكن أن نختاره!
إن القدر هو كامتحان الاختيار من متعدد! إن كل سؤال له مجموعة اختيارات يجب أن تختار منها اختيارًا واحدًا فقط! وما هو محتوم هنا هو فقط أننا لا يمكننا أن نتخطى السؤال ونتركه دون اختيار! هذا هو فقط الأمر الحتمي.
إن القدر ليس هو حلي لامتحان الخيار من متعدد! بل هو الامتحان ذاته، ولكل منا امتحانه المتشعب الذي تحدد إجابة كل سؤال فيه السؤال الذي يليه! كالذي يحدث في امتحانات تحديد المستوى التى تُجرى باستخدام الكمبيوتر! إن حل الأسئلة ليست مفروضة علينا بشكل مطلق! بل إن حل كل سؤال هو ما يحدد السؤال الذي يليه! يحدده من مجموعة محدودة -مقدورة مسبقًا- من الأسئلة المحتملة قبل حلك للسؤال! فالسؤال القادم هو سؤال واحد فقط من مجموعة الأسئلة المحتملة، وهذا السؤال الواحد هو ما تختاره أنت بشكل غير مباشر عن طريق حلك للسؤال الحالي!
إن مفهوم القدر بسيط جدًا، لكنه ملتبس بشكل واضح وصارخ لدينا مع مفهوم القضاء، ومع مفهوم ما هو (مكتوب في اللوح المحفوظ)!
- ما هو القضاء؟
القضاء هو تفعيل الله عز وجل لما سنختاره.
فنحن نختار اختيارًا في امتحان الاختيار من متعدد -الامتحان نفسه هو القدَر- لكن الأمر كأنه كالتالي:
في امتحان الاختيار من متعدد بالحاسب قد اخترت أنا الإجابة رقم (3) مثلاً بضغطي على لوحة المفاتيح, لكن الاختيار لا يقع بضغطي على اللوحة! فقد تكون اللوحة مفصولة كهربيًا عن الحاسب! وقد يكون هناك جزء من برنامج الامتحان يمنع وقوع اختياري هذا! فالقضاء هو الاختيار النهائي الذي حدث بالفعل وكان واقِعًا ملموسًا بإذن الله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:١٧].
فقد رميت أنا بضغطي على لوحة المفاتيح (باختياري للإجابة) وقد رمى الله فحسم الأمر، وذلك بجعل اختياري هذا أمرا واقعًا أم لا! إنها إرادة الله هي التي تحدد ما كان اختياري في الامتحان سيُعتَمَد أم لا: {إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:29-30].
بالطبع يوجد نوع آخر من القضاء، وهو ما يحدث من أحداث وليس لنا فيه يد من قريب أو بعيد، مثلاً كمكان وزمان ولادتنا وأبوينا وأخوتنا إلى آخره من أمور ليس لنا إليها سبيل!
- ما هو المكتوب في اللوح المحفوظ؟
إن الله تعالى هو من وضع امتحان القدر وهو أيضًا يعلم مسبقًا باختياراتنا في هذا الامتحان, وكل من الامتحان –القدر- وخياراتنا التي سيفَعِّلهَا الله –القضاء- مدون في اللوح المحفوظ, وهذا العلم لا يمنع حريتنا في الاختيار بل إنه سَردٌ -تقرير واقع- لما سنختاره بإرادتنا ويجعله الله واقعًا بقضائه.
- وأخيرًا: توضيح حول: (الإيمان بالقدر خيره وشره)
هل رأيت تشبيه القدر بأنه امتحان الاختيار من متعدد بكل أسئلته؟
إن السؤال في ذاته قد يستحسنه الإنسان فيراه (خيرًا) وقد لا يستحسنه فيراه (شرًا).
فمثلاً قد يكون السؤال أن توفى الله عزيزًا على قلبي، لا شك أنه أمر جلل تعافه النفس فتستقبله أنه شر، لكن الإيمان بالقدر هنا يعني أن أدرك أن هذا سؤال في امتحان وليس مجرد أمر محزن، بل هو من قبيل {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة من الآية:216]، لذا يجب علي أن أختار الإجابة الصحيحة في هذا السؤال؛ كي أرى الخير المختبئ وراء الشر الظاهري، وهي أن أختار إجابة أن أصبر وأحتسب، وليس إجابة أن أجزع وأسخط.
وفي المقابل فإنه إن رزقني مالاً مثلاً فإنه من الطبيعي أن تفرح به النفس وتستقبله أنه خير، لكن الإيمان هنا بالقدر يعني أن أدرك أن هذا سؤال في امتحان وليس مجرد أمر مفرح، وأنني -كي يكون هذا الأمر خيرًا فعلاً- يجب علي أن أختار الإجابة الصحيحة، وهي أن أنفقه في رضا الله وليس في سخطه.
إن الأمور الكونية كالغيث أو الزلزال ليست خيرًا أو شرًا محضًا في ذاتها، بل هي تحتمل أن تكون خيرًا إن كان رد فعلي لها طاعة الله، وتحتمل أن تكون شرًا إن كان رد فعلي عليها معصية الله, لذا فكونها خيرًا أم شرًا هي في يدي، وهي حل سؤال القدر! {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: ٣٥].
الخلاصة:
إن مفهوم القدر لدينا يجب أن يُصَحَح؛ لأن التشويش الذي نحمله في أذهاننا حوله يُثَبِّط الهِمم دون أن نشعر، مهما أخذنا بالأسباب، فإننا نأخذ بها نوعًا من تحصيل الحاصل!
لا أيها السادة، لا، إن (القدر المحتوم) هو فقط أننا ليس لنا حيلة في اختيار الامتحان ذاته، لكن ما يقع فعلاً من أحداث -وهو القضاء- هو ما نختاره نحن بإرادتنا الحُرّة، ويشاء الله أن يجعله واقِعًا ملموسًا، وأيضًا ما يحدث من أحداث ليس لنا إليها سبيل كمكان وزمان ولادتنا، وأبوينا وأخوتنا إلى آخره..! والله أعلم.