هل يحتفل المسلم بالمولد النبوي؟
فقد أصبح الاحتِفال بالمولد النبوي عادة منتشِرة في بلاد المسلمين، تتكرَّر كل عام، وتُقام الاحتفالات وتُلقى الخِطابات والمدائح النبوية، وتُذاع عبر وسائل الإعلام المختلفة، وكأنَّ الاحتفال بالمولد النبوي شرعٌ منزَّلٌ من عند الله، وما هو من عند الله، وكأنه سنة مؤكَّدة، وما هو بسنة بل بِدعة، وهذا وإن دلَّ فإنما يدُل على ذَهاب العلم، وانتِشار الجهل، وظهور البدع، واختفاء السُّنن، فما اجتَهد قومٌ في بِدعة إلا وأضاعوا سنَّةً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - محبة النبي صلى الله عليه وسلم -
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أصبح الاحتِفال بالمولد النبوي عادة منتشِرة في بلاد المسلمين، تتكرَّر كل عام، وتُقام الاحتفالات وتُلقى الخِطابات والمدائح النبوية، وتُذاع عبر وسائل الإعلام المختلفة، وكأنَّ الاحتفال بالمولد النبوي شرعٌ منزَّلٌ من عند الله، وما هو من عند الله، وكأنه سنة مؤكَّدة، وما هو بسنة بل بِدعة، وهذا وإن دلَّ فإنما يدُل على ذَهاب العلم، وانتِشار الجهل، وظهور البدع، واختفاء السُّنن، فما اجتَهد قومٌ في بِدعة إلا وأضاعوا سنَّةً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اختلاف أهل السير والتاريخ في تحديد يوم وشهر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
إن المُتتبِّع لكتب التاريخ والسير يلاحِظ اختلاف العلماء في تحديد الشهر الذي ولِد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من قال: في صفر، ومنهم من قال: في ربيع الآخر، ومنهم من قال: في رجب، ومنهم من قال: في شهر رمضان[1]، وإن كان جمهور العلماء أنه في شهر ربيع الأول[2]. وكما اختلَف العلماء في تحديد الشهر الذي ولِد فيه، فقد اختلَفوا أيضًا في اليوم من الشهر الذي ولِد فيه؛ فمنهم من قال: في اليوم الثاني من ربيع الأول، ومنهم من قال: في اليوم الثامن، ومنهم من قال: في اليوم العاشر، ومنهم من قال: في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول [3]، والذي صحَّحه كثيرٌ من الناس أنه الثامن منه[4]، وإن كان جمهور العلماء أنه في 12 ربيع أول[5]، ولا يوجد دليل صحيح خالٍ من معارِض معتبَر يفصل النزاع، وأغلب الظن هو عدم الجزم بتحديد يوم معيَّن من شهر ربيع الأول [6]. قال ابن الجوزي: "اتَّفقوا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولِد يوم الاثنين في شهر ربيعٍ الأول عام الفيل، واختلَفوا فيما مضى من ذلك الشهر لولادِته على أربعة أقوال: أحدها: أنه ولِد لليلتين خلَتَا منه، (والثاني): لثمانٍ خَلَون منه، (والثالث): لعَشْر خلون منه، (والرابع): لاثنتَي عشرة خَلَت منه"[7]، والاتفاق الذي ذكَره ابن الجوزي اتِّفاق الجمهور، وليس كل العلماء؛ فخلاف العلماء في تحديد شهر ولادته - صلى الله عليه وسلم - معروفٌ في كتب السِّير. وقال الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي: "لم يستطع العلماء تحديد ليلة بعينها ولِد فيها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بل ولا شهر بعينه، وبينهم في ذلك خلاف مشهور؛ فمنهم من قال: إنه ولِد في رجب، ومنهم من قال: في رمضان، ومنهم من قال: في ربيع الأول، حتى مَن قالوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - ولِد في ربيع الأول اختلَفوا في تحديد يوم مولده: أهو الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر، أو الثامن عشر، أو الثاني والعشرين"[8]. وقال الدكتور محمد النجار: "ولعلَّ السرَّ في هذا الخلاف أنه حينما ولِد لم يكنْ أحدٌ يتوقَّع له مِثل هذا الخَطَر، ومن أجل ذلك لم تتسلَّط عليه الأضواء منذ فجر حياته، فلما أَذِن الله أن يبلِّغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوته بعد أربعين سنة من ميلاده، أخذ الناس يسترجِعون الذكريات التي عَلِقت بأذهانهم حول هذا النبي، ويتساءلون عن كل شارِدة وواردة من تاريخه، وساعَدهم على ذلك ما كان يَرويه الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن الأحداث التي مرَّت به أو مرَّ هو بها منذ نشأته الأولى، وكذلك ما كان يَرويه أصحابه والمتصِلون به عن هذه الأحداث. وبدأ المسلمون - حينئذٍ - يستوعِبون كلَّ ما يسمعون من تاريخ نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - ليَنقلوه إلى الناس على توالي العصور، ولكن مهما اختلَفت الروايات في وقت ميلاده، فيكاد يُجمِع المؤرِّخون على أن الميلاد كان في النصف الأول من شهر ربيع الأول، وفي عام الفيل"[9]. ولو كانت ليلة ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - يترتَّب على معرفتها حُكْم شرعي أو عبادة معيَّنة تَحدُث فيها؛ لكانت هذه الليلة معلومةً مشهورة لا يقع فيها اختلاف، والقول بأنها ليلة 12 من ربيع الأول، ونبْذ الأقوال الأخرى في تحديد ليلة ميلاده - صلى الله عليه وسلم -تَحكُّم بلا دليل.
وإني أسأل - ويَحِق لي أن أسأل - كيف تحتفلون بميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم معيَّن، وتحديد يوم الميلاد مختلَف فيه، ولا يوجد دليل يفصِل النزاع؟! والبعض - هداهم الله - يقولون لما لا تتعامَلون مع الخلاف في تحديد يوم مولِد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تتعامَلون مع الاختلاف في مسائل الفقه.
والجواب: العِبرة في الشرع بالدليل، وما يَغلِب على الظنِّ إن لم يكن هناك دليل قاطِع، وتحديد يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس عليه دليل، وتعيينكم يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتفالكم به تحكُّم بلا دليل.
وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في 12 ربيع أول، فكيف نحتفِل بيوم وفاته؟ ومن الأمور التي تَشُد الانتباه أن غالب علماء السِّير يتَّفِقون أن وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت في 12 ربيع أول. قال السهيلي: "واتَّفقوا أنه توفِّي- صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلا شيئًا ذكره ابن قتيبة في المعارف الأربعاء، قالوا كلهم: وفي ربيعٍ الأول، غير أنهم قالوا - أو قال أكثرهم -: في الثاني عشر من ربيعٍ، ولا يصحُّ أن يكونَ توفِّي - صلى الله عليه وسلم - إلا في الثاني من الشهر، أو الثالث عشر، أو الرابع عشر، أو الخامس عشر"[10]. قال محبُّ الدين الطبري: "وتوفِّي - صلى الله عليه وسلم - وقد بلَغ من السن ثلاثًا وستين سنة، وقيل: خمسًا وستين، وقيل: ستين، والأول أصحُّ في يوم الاثنين، حين اشتدَّ الضُّحى لاثنتي عشرة ليلة خلتْ من ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلَتَا منه"[11].
قال ابن كثير: "فائدة: قال أبو القاسم السهيلي في الروض ما مضمونه: لا يُتصوَّر وقوع وفاته - عليه السلام - يوم الاثنين ثاني عشر ربيعٍ الأول من سنة إحدى عشرة؛ وذلك لأنه - عليه السلام - وقَف في حجة الوداع سنة عشرٍ يوم الجمعة، فكان أول ذي الحجة يوم الخميس، فعلى تقدير أن تُحسَب الشهور تامَّة أو ناقصةً أو بعضها تامٌّ وبعضها ناقص، لا يُتصوَّر أن يكون يوم الاثنين ثاني عشر ربيعٍ الأول. وقد اشتَهر هذا الإيراد على هذا القول، وقد حاوَل جماعة الجواب عنه، ولا يمكن الجواب عنه إلا بمسلكٍ واحدٍ، وهو اختلاف المطالع، بأن يكون أهل مكة رأوا هلال ذي الحجة ليلة الخميس، وأما أهل المدينة فلمْ يَروه إلا ليلة الجمعة.
ويؤيِّد هذا قول عائشة وغيرها: "خرَج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمسٍ بقِينَ من ذي القعدة - يعني من المدينة - إلى حجَّة الوداع، ويتعيَّن كما ذكَرنا أنه خرج يوم السبت، وليس كما زعَم ابن حزمٍ أنه خرج يوم الخميس؛ لأنه قد بقي أكثر من خمس بلا شك، ولا جائز أن يكون خرج يوم الجمعة، لأنَّ أنسًا قال: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحُليفة ركعتين، فتعيَّن أنه خرج يوم السبت لخمسٍ بقين، فعلى هذا إنما رأى أهلُ المدينة هلال ذي الحجة ليلة الجمعة، وإذا كان أول ذي الحجة عند أهل المدينة الجمعة، وحسِبت الشهور بعده كوامِل يكون أوَّل ربيعٍ الأول يوم الخميس، فيكون ثاني عشر يوم الاثنين"[12]. فإحياء يوم 12 ربيع أول إحياءٌ لذِكرى موت النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أغلَب الظن عدم وجود من يَجزِم بأن يوم ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يوم كذا، لكن المؤكَّد أن يتذكَّر الجميع يوم موته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن العرب كانت تؤرِّخ للوفَيَات، ولم يكن معلومًا ولا مُتعارَفًا عليه تسجيلُ المواليد ذاك الحين، وتسجيل الوفيات كان يَعتمِد على قدْر المتوفَّى؛ لذا توافَرتِ الكتب والمجلدات التي تتحدَّث وتصِف أماكن ومواقيت وكيفية موته - صلى الله عليه وسلم -.
وإني أسأل - ويحِق لي أن أسأل - كيف تحتفِلون بميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم 12 ربيع أول مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفِّي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن احتفَلتُم بميلاده فأنتم أيضًا تحتفِلون بوفاته، وليس من المحبة أن نُقيم احتفالاً له في يوم وفاته، فهذا مُشعِر بالفرحة بموته؟! ولقد أحسَن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: "لا يزال الناس بخيرٍ ما تعجِّب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولِد فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفِّي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومِن الله - تعالى - نرجو حُسْن القَبُول[13]. قال ابن الحاج المالكي: "العجب العجيب: كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور كما تقدَّم لأجل مولده - صلى الله عليه وسلم - كما تقدَّم في هذا الشهر الكريم؟ وهو - صلى الله عليه وسلم - فيه انتقَل إلى كرامة ربه - عز وجل - وفُجِعت الأمة وأصيبت بمصابٍ عظيم، لا يَعدِل ذلك غيرها من المصائب أبدًا، فعلى هذا كان يتعيَّن البكاء والحزن الكثير"[14]. قال الدكتور عبد القادر بن محمد عطا صوفي: "والذي أجمَع عليه العلماء: أن الأمة الإسلامية أُصيبت في هذا الشهر بأعظمِ مُصابٍ، وهو وفاته - صلى الله عليه وسلم - والذي عليه جمهورهم أيضًا: أنها كانت في الثاني عشر من هذا الشهر، فمن احتَفَل بمولده - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول، وفي الثاني عشر منه، فإنما يحتفِل بمُصاب الأمة؛ لِما تقدَّم من إجماع العلماء على أن وفاته - صلى الله عليه وسلم - كانت يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول، وقول جمهورهم: إنها في الثاني عشر منه، وليس من محبَّته أن نُقيم احتفالاً يوم وفاته"[15]. وقال محمد بن عبد السلام الشقيري: "في هذا الشهر ولد، وفيه توفِّي، فلماذا يفرحون بميلاده، ولا يحزنون لوفاته؟! "[16]. ويقول الشيخ ناصر العلي: "كيف لي أن أحتَفِل بيوم وفاته - صلى الله عليه وسلم -؟! كيف لعقلٍ أن يجمع بين فرَح وسرور وحزن وألَمٍ في نفْس الوقت؟! يا إلهي، أيجوز لأحد يحبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يحتفِل بموته - صلى الله عليه وسلم -؟! بل لو دعا إنسان إلى جعل يوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم حزن لكانت شُبْهته أقوى من شبهة المحتفِلين بذلك اليوم، لماذا؟ لأن الأحزان غلابة على الأفراح، فلو قدِّر أنه توفِّي والد أحد الزوجين في ليلة عُرسهما، لعُدَّ احتفالُهم تلك الليلة ضربًا من الجنون، وهكذا لو مات ولدك يوم العيد، لانقلَب فرح العيد حزنًا ومأتمًا وعزاءً. إن أعداء المسلمين سيضحكون علينا: فإن نحن ابتهَجْنا وفرِحنا بولادته - صلى الله عليه وسلم - قالوا: انظروا إلى المسلمين، إنهم يفرحون بوفاة نبيهم! وإن نحن حزِنَّا وصنعنا مأتمًا لوفاته - صلى الله عليه وسلم - قالوا: انظروا إلى المسلمين، إنهم يحزنون لولادة نبيهم، فماذا نفعل؟ الأمر يسير، إننا لسنا بحاجة إلى احتفاء أو عزاء، إنما اتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم -"[17]. يقول الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ: "هبْ أن مولده - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول، فإن وفاته - صلى الله عليه وسلم - كانت أيضًا في شهر ربيع الأول؛ أي: في نفس الشهر، فليس الفرح بمولده بأولى من الحزن على وفاته - صلى الله عليه وسلم -"[18]. أول من احتَفَل بالمولد النبوي الفاطميون العبيديون الرافضة، فكيف نأتسي بهم في الاحتفال بالمولد؟!! إن المُتتبِّع لكتب التاريخ يجد أن أول من احتفَل بالمولد النبوي هم الفاطميون العُبَيْديُّون الرافضة، أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأعداء الدِّين، فكيف نأتسي بهم في الاحتفال بالمولد؟! قال الشيخ ابن جبرين: "الليلة التي يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولِد فيها، مع أنه لم يَثبُت في تحديد شهر ولادته ولا يومها شيء يُعتمَد عليه، بل في ذلك خلاف مشهور، وقد جَزَم وقطَع العُبَيْديُّون الرافضة في القرن الرابع الهجري أن مولده - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول، مع أنه ليس هناك ما يرجِّح هذا القول. وهذا الشهر قد أُصيبت فيه الأمةُ الإسلامية بأعظم مصيبة، وهي وفاته - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد كانت وفاته - عليه الصلاة والسلام - في شهر ربيع الأول بلا خِلاف. بل إن العُبَيْديين اختاروا يوم الثاني عشر منه، فأقاموا فيه احتفالاً وقت حكْمهم لمصر، زعَموا أنه من باب الفرح بولادته - صلى الله عليه وسلم - مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفِّي فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول عامَّة أهل العلم.
وكان كثير من هؤلاء العبيديين من الملاحِدة الحاقدين على الإسلام وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ادَّعى بعضهم الألوهيَّة، وعلى رأسهم الحاكم بأمر الله العبيدي الذي يؤلِّهه الدروز إلى الآن، ومنهم أو من أتباعهم: القرامطة، الذين قتَلوا الحُجَّاج في عرفات وعند الكعبة المشرَّفة، وهدَموا جزءًا من الكعبة، و أخذوا الحجر الأسود منها، ولم يُعيدوه إلا بعد عدة سنوات. والعبيديون هم أول من أقام الاحتفال بالمولد في القرن الرابع الهجري، وكان ذلك سنة 363هـ أثناء حكْمهم لمصر، فلا يَبعُد أن هؤلاء العُبَيْديين المنحرِفين الذين يُجزَم بأن بعضهم يُبغِض النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختاروا شهر ويوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - وقتًا لهذا الاحتفال، فرَحًا بوفاته - صلى الله عليه وسلم - وأظهَروا للناس أنه للفرح بولادته - عليه الصلاة والسلام -"[19]. وقال الشيخ عبدالرؤوف محمد عثمان: "ويرجِع تاريخ ظهور هذه البِدعة إلى الدولة العُبيدية التي تسمَّت بالدولة الفاطمية؛ حيث أحدَثت هذه البِدعة لجذْب قلوب الناس إليها، والظهور بمظهر من يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مع أنها من أكثر الدول التي فشا فيها الإلحاد والزندقة تحت شعار التشيُّع وحب آل البيت، فأحدَثوا ستة موالد: المولد النبوي، مولد علي - رضي الله عنه - ومولد فاطمة - رضي الله عنها - ومولد الحسن والحسين - رضي الله عنهما - ومولد الخليفة الحاضر في ذاك الزمان.
وعن طريقهم انتشَرت الموالد، وراجت رواجًا كبيرًا لدى الصوفية، فصارت كل طريقة تعمَل لشيخها مولدًا يتناسَب ومَقام الطريقة وشيخها!! هذا مع حرْصهم على مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل عام، وتسيير المواكب في الطرقات، وإنشاد القصائد، وإقامة الحفلات، إلى غير ذلك من مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي"[20]. وإذا أردت أن تعرِف من هم الفاطميون العبيديون فاقرأ ما كتَبه الإمام أبو شامة: "أظهَروا للناس أنهم شرفاء فاطميون، فملَكوا البلاد، وقهَروا العباد، وقد ذكَر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلاً، ولا نَسبهم صحيحًا، بل المعروف أنهم بنو عُبَيد.
وكان والد عُبيد هذا من نَسْل القداح الملحِد المجوسيّ، وقيل: كان والد عُبيد هذا يهوديًّا من أهل سلمية من بلاد الشام، وكان حدَّادًا، وعُبَيد هذا كان اسمه سعيدًا، فلما دخل المغرب تسمَّى بعبيدالله، وزعَم أنه عَلويٌّ فاطميٌّ، وادَّعى نسبًا ليس بصحيح لم يذكرْه أحد من مصنِّفي الأنساب العَلوية، بل ذكَر جماعة من العلماء بالنَّسب خلافه وهو ما قدَّمنا ذِكره، ثم ترقَّت به الحال إلى أن ملَك، وتسمَّى بالمهدي، وبنى المهدية بالمغرب، ونُسِبت إليه، وكان زنديقًا خبيثًا عدوًّا للإسلام، متظاهرًا بالتشيع، مُتستِّرًا به، حريصًا على إزالة المِلة الإسلامية، قتَل من الفقهاء والُمحدِّثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصْده إعدامهم من الوجود؛ ليبقى العالم كالبهائم، فيتمكَّن من إفساد عقائدهم وضَلالتهم: ( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8]. ونشأت ذريَّته على ذلك مُنطوين يَجهرون به إذا أمكَنتْهم الفرصة وإلا أسرُّوه، والدُّعاة لهم مُنبثُّون في البلاد، يُضِلون من أمكَنهم إضلاله من العباد، وبقي هذا البلاءُ على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها، وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة. وفي أيامهم كثرت الرَّافضة واستَحْكم أمرُهم، ووضِعت المُكوس على الناس، واقتدى بهم غيرهم، وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام...، والحشيشية نوعٌ منهم، وتمكَّن دُعاتهم منهم؛ لضعْف عقولِهم وجهْلهم ما لم يتمكَّنوا من غيرهم، وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة، إلى أن مَنَّ الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدَّمه، مثل: صلاح الدين؛ فاستردُّوا البلاد، وأزالوا هذه الدولة عن رِقاب العباد.وكانوا أربعة عشر مستخلَفًا، ثلاثة منهم بإفريقية؛ وهم الملقَّبون بالمهدي والقائم والمنصور، وأحد عشر بمصر؛ وهم الملقَّبون بالمعزِّ والعزيز والحاكم والظَّاهر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد يدَّعون الشَّرف - ونِسبَتهم إلى مجوسيّ أو يهوديّ -حتى اشتَهر لهم ذلك بين العوام، فصاروا يقولون: الدولة الفاطمية والدولة العَلوية، وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية الباطنية الملحِدة، ومن قحَّتهم أنهم كانوا يأمرون الخطباء بذلك على المنابر، ويكتبونه على جُدران المساجد، وغيرها.
وخطَب عبدهم جوهر الذي أخذ لهم الديار المصرية، وبنى لهم القاهرة المُعزية بنفسه خطبةً طويلة، قال فيها "اللهم صلَّ على عبدك ووليِّك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية مَعَدِّ أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين، كما صلَّيت على آبائه الطاهرين، وسلَفه المنتخَبين، الأئمة الراشدين. كذَب عدو الله اللعين، فلا خير فيه ولا في سلَفه أجمعين، ولا في ذريَّته الباقين، والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعْزل، رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول. وقد بيَّن نَسبَهم هذا وأوضَح محالهم وما كانوا عليه من التمويه وعداوة الإسلام جماعةٌ ممن سلَف من الأئمة والعلماء، وكل متورِّع منهم لا يُسمِّيهم إلا بني عُبيد الأدعياء؛ أي: يدَّعون من النَّسب ما ليس لهم، ورحمة الله على القاضي أبي بكر محمد بن الطيب؛ فإنه كشَف في أول كتابه المسمَّى بكشف أسرار الباطنية عن بُطلان نَسَب هؤلاء إلى علي - رضي الله عنه - وأن القدَّاح الذي انتسَبوا إليه دَعيٌّ من الأدعياء ممخرق كذَّاب، وهو أصل دُعاة القرامطة لعَنهم الله، وأما القاضي عبد الجبار البصري فإنه استقصى الكلام في أصولهم، وبيَّنها بيانًا شافيًا في أواخر كتاب تثبيت النبوة له"[21]. وإذا أردت أن تعرِف حكْم الفاطميين العُبَيديين عند العلماء فاقرأ ما كتَبه القاضي عياض: "وقال أبو يوسف بن عبد الله الرعيني في كتابه: أجمع علماء القيروان: أبو محمد، وأبو الحسن القابسي، وأبو القاسم ابن شبلون، وأبو علي بن خلدون، وأبو بكر الطبني، وأبو بكر بن عذرة: أن حال بني عبيد، حال المرتدين والزنادقة، بما أظهَروه من خلاف الشريعة، فلا يُورَثون بالإجماع، وحال الزنادقة بما أخفوه من التعطيل، فيُقتَلون بالزندقة"[22]. وقال ابن تيميَّة: "ومعلوم عند كل من عرَف دين الإسلام أن المصريين - بني عبيد الباطنية - كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقًا وإلحادًا في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نَسَبا ودينًا، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمْع ولا عقل، وقولهم في الصفات صريحُ قولِ جهمٍ، بل وشرٌّ منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقُله الجهم تلقِّيًا عن سلَفهم الدهرية"[23]. وقال الشيخ محمد بن عبدالوهاب: "بنو عُبيدالقداح الذين ملَكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدَّعون الإسلام ويُصلُّون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالَفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمَع العلماء على كفْرهم وقِتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنفَذوا ما بأيديهم من بُلدان المسلمين"[24].
وإني أسأل - ويحق لي أن أسأل - كيف تحتفِلون بميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سنَّةُ الفاطميين العُبَيديين، وهم روافِض زَنادقة، ولا يريدون للإسلام خيرًا، ولا يُستبعَد أنهم أقاموا الاحتفال بالمولد النبوي ظاهرًا، ويقصِدون الاحتفال بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! ليس من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة - رضي الله عنهم - ولا السلف الصالح الاحتفال بالمولد النبوي، فكيف نحتفل به؟! والمُتتبِّع لكتب السنة والسيرة لا يجد فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتفَل بمولده، فإذا كان صاحب الشأن نفسه لم يحتفِل، فكيف نحتفل، وكأن من يحتفل بالمولد النبوي أدرَكوا ما لم يُدرِكه صاحب الشأن، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومُحدَثات الأمور؛ فإن كل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))[25]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدَث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ))[26]. وكما لم يحتفِل النبي - صلى الله عليه وسلم -بمولده، فكذلك لم يحتفِل الصحابة بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أحرَص الناس على الخير، وأكثر الناس حبًّا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنقَل عن السلف الاحتفال بالمولد النبوي، وأول من احتفَل بالمولد النبوي حكام الدولة العبيديَّة الفاطميَّة في مصر، وهم أهل بِدعة وزندقة وليسوا أهل سنَّة. والمولد النبوي بِدعة ما حدَثت إلا بعد الصحابة - رضي الله عنهم - والسلف الصالح - رحمهم الله -؛ أي: إنهم لم يفعلوه، وعليه فمن يُحسِّن الاحتفال بالمولد النبوي يَلزَم من تحسينه: إما أن يكون الصحابة والسلف علِموا مشروعيَّته، ولم يَعملوا بما علِموا، بل أجمَعوا على ترْك ما علِموا مشروعيَّته، وهذا باطل؛ لأن الأمة لا تجتمِع على باطل، ويَلزَم من ذلك أيضًا تنقيصهم، وتفضيل من بعدهم عليهم، وهم أشد الناس اتِّباعًا للخير، وخير القرون. وإما أن يكون الصحابة والسلف علِموا المولد وحكْمه وترَكوا العمل به، ولم يتركوه إلا لموجِب أوجَب ترْكه، فكيف يمكِن فِعله، وتُجمِع الأمة في زمن الصحابة والسلف على ترْكه؟! وإما أن يكون الصحابة والسلف لم يعلَموا المولد النبوي وفضْله، فيكون من ادَّعى عِلمه بعدهم أعلم منهم، وهذا باطل، فما لم يكن في زمانهم دينًا لا يكون دينًا في زمان غيرهم، وما خالَف إجماعهم فهو خطأ؛ لأنهم لا يجتمِعون إلا على حقٍّ وهدى. وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف: "وبتتبُّع سيرته وسنته - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل لنا أنه أمَر بالاحتفال بمولده، أو أنه احتَفَل - صلى الله عليه وسلم - بمولده، أو أن أحدًا احتفَل بمولده في عهده - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّه، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد عاش ثلاثًا وستين سنة، وقد صحِبه وآمَن به رجال هم أشدُّ الناس محبة له وتوقيرًا وتعظيمًا وفَهمًا لمراد الله والرسول، بل بذلوا أرواحهم دفاعًا عنه - صلى الله عليه وسلم - وذبًّا عن دينه - صلى الله عليه وسلم - وحرَصوا على متابعته في كل صغيرة وكبيرة، ونقَلوا لنا سنَّته - صلى الله عليه وسلم - ولم يُخِلُّوا بشيء منها، حتى نقلوا لنا اضطراب لحيته في الصلاة إذا استفتَح، فلا يمكن أن يكون الاحتفال بالمولد قد عُمِل في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنقَل مع تعاقُب السنين وتوافُر الهِمم والدواعي لنقله.
ثم نظرنا أفضل القرون بعده - صلى الله عليه وسلم - وأحبَّ الناس إليه وهم أصحابه، فلم يَنقُل عنهم ناقِل أنهم احتفَلوا بمولده - صلى الله عليه وسلم - لا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ولا عمر الفاروق - رضي الله عنه - ولا عثمان ذو النورين - رضي الله عنه - ولا علي بن أبي طالب صِهر النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عمه وأبو سِبطيه - رضي الله عنهم - ولا غيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - بل ولا التابعون ومَن تَبِعهم بإحسان لا في المائة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، مع قيام المقتضي - الذي يذكُره أهل العصر الآن - وانتِفاء المانع الحسي من ذلك. فعلم أنهم إنما ترَكوه لقيام المانِع الشرعي وهو أنه أمر لم يشرِّعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا هو مما يحبُّه الله ويرضاه، ولا مما يقرِّب إليه زُلفى، بل هو بِدعة حادِثة تتابَع على ترْكها أفضل البشر - صلى الله عليه وسلم - وأفضل القرون - رضي الله عنهم - وأفضل علماء الأمة علماء الصدر الأول من الإسلام، وفي هذا الدليل العظيم والأصل الأصيل مُقنِع لمن فتَح الله على قلبه وأنار بصيرتَه ورزَقه التوفيق والهُدى والسداد"[27]. وقال الشيخ ابن جبرين: "وقد اتَّفق أهل العلم على أن السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة المفضَّلة، وفي مُقدِّمتهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعَلوا هذا الاحتفال؛ ولذلك لم يُنقَل فِعله ولا القول بمشروعيته عن أحد من أهل القرون الثلاثة المفضَّلة، مع شدة محبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحِرصهم على الخير"[28]. وقال الدكتور عبدالقادر بن محمد عطا صوفي: "ولو فُرِض أن مولده - صلى الله عليه وسلم - كان في هذا الشهر، وفي الثاني عشر منه، لَمَا جاز لأحد أن يحتفل بهذه المناسبة؛ لعدم ورود دليل شرعي يُجيز ذلك؛ ولأن الصحابة - رضي الله عنه - لم يفعلوه، مع أنهم أشدُّ اتباعًا له - صلى الله عليه وسلم - وأشدُّ حبًّا ممن أتى بعدهم، وكذلك لم يفعله أهل القرون الثلاثة المفضَّلة؛ فلو كان خيرًا لسبَقونا إليه"[29].
الاحتفال بالمولد النبوي في ربيع الأول فيه تشبُّه بالنصارى بالاحتفال بمولد المسيح - عليه السلام -، فكيف نحتفل به؟! الاحتفال بالمولد النبوي بِدعة وضلالة، فيها مُشابَهة للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح - عليه السلام - لغلوِّهم في المسيح - عليه السلام - وديننا يَنهانا عن الغُلو. ولأن النصارى يحتفلون بميلاد عيسى - عليه السلام - فيكون في الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - تشبُّه بهم، وقد نُهينا عن التشبه بهم، وأمِرنا بمخالفتهم؛ كما في الحديث: ((خالِفوا المشركين))[30]. وقال الشيخ الفوزان: "الاحتفال بمناسبة المولد النبوي في ربيع الأول هو تشبُّه بالنصارى في عمَل ما يسمَّى بالاحتفال بمولد المسيح، فيحتفِل جهَلة المسلمين أو العلماء المضلون في ربيع الأول من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -"[31]. وقال الشيخ عبد المحسن العباد: "فالُمحدِثون لبِدعة الموالد الرافضةُ العُبَيْديُّون، والمقلَّدون فيها النصارى الضالُّون"[32]. وإنَّ حالَ بعض المسلمين يدعو للعَجب، في حين أنهم يجتهدون في الاحتفال بالمولد النبوي مع أنه ليس من السنَّة، وليس من الدِّين، فهم يَغفلون عن كثير من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويَتركون كثيرًا من سُنن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
النهي عن اتخاذ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا؛ فيه نهيٌ عن اتخاذ يوم مولده عيدًا: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اتِّخاذ قبره عيدًا فقال: ((لا تجعلوا قبري عيدًا))[33]، والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العامِّ على وجه مُعتاد، عائد: إما بعَود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك[34]؛ أي: لا تُخصِّصوا لقبري يومًا بعينه، تَعودونه فيه، فمن خصَّص يومًا من السنة كالثاني عشر من ربيع الأول وقَع تحت هذا التحذير. وإذا نهى عن اتِّخاذ مكان دفْنه - صلى الله عليه وسلم - عيدًا، فيُقاس على ذلك عدم اتخاذ زمان مولده - صلى الله عليه وسلم - عيدًا؛ فهذا غلوٌّ وهذا غلو، وهذا عيد لم يأذَن به الشرع، وهذا عيد لم يأذن به الشرع. وإن قيل: الاحتفال بالمولد النبوي ليس عيدًا بل احتفال، فالجواب: العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، والعِبرة بالمسمَّيات لا بالتسميات، وقد سمِّي العيد عيدًا؛ لأنه يعود كل سنة بفرَح مجدَّد[35]، وقيل: اشتِقاقه من العادة؛ لأنهم اعتادوه، والجمع أعياد. وقال القاضي عِياض: "سمِّي العيد عيدًا؛ لأنّه يعود ويتكرَّر لأوقاته، وقيل: يعود به الفرح على الناس، وكلاهما مُتقارِب المعنى، وقيل: تفاؤلاً لأنْ يعود ثانية على الإنسان"[36]. والاحتفال بالمولد النبوي يتكرَّر كل عام وكل سنة، فكيف لا يسمَّى عيدًا؟! وإن قيل: الاحتفال بالمولد النبوي فيه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صام يوم الاثنين؛ لأنه يوم مولده، والجواب: لا يُعرَف عن الصحابة أو السلف الصالح مَن قال بمشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، أو جعل ذلك اليوم عيدًا، لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم مولده من كل أسبوع، الذي هو يوم الاثنين، ولو كان ذلك مشروعًا لسبَقَنا إلى فِعله أهلُ العِلم والفضل السَّباقون إلى كل خير؛ فلما لم يفعلوا ذلك عُلِم أن هذا شيء مُحدَث لا يجوز العمل به. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم مولده من كل أسبوع، وليس يصوم يوم 12 ربيع أول من كل سنة، فضلاً عن الاحتفال بيوم 12 ربيع أول من سنة؛ فمن أراد الاقتِداء فليَصُم كما صام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين من كل أسبوع، أما تخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع؛ فهذا يعتبر استدراكًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصحيحًا لعمله. وهل وجِد في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرَّى شهر ربيع الأول في كل سنة فيخصه بعبادة معيَّنة أو احتفال، وهل تحرَّى يومالثاني عشر من ربيع الأول فخصَّه بعبادة معيَّنة أو احتفال؟!
الاحتفال بالمولد النبوي في ربيع الأول فيه تقصير في الاحتفاء به: من يحتفل بالمولد النبوي يومًا في العام يقرأ السيرة والشمائل المحمدية ويمدَحه بما هو أهله، ويصلِّي عليه - صلى الله عليه وسلم - ما شاء؛ فهذا فيه قصور في الاحتفاء به؛ فالاحتفاء به - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون دائمًا، وليس مقصورًا على يوم معيَّن؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد جعله سببًا في إسلامنا وهدايتنا إلى الصراط المستقيم، وهذه النِّعمة لا يُساويها نعمة ولا يُماثِلها نعمة، ولا يَكفيها احتفاء يوم. وأيُّ معنًى لتخصيص يومٍ واحدٍ في العام للاحتفاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أُمِرنا بحبه واتِّباعه ما حَيينا، وقد أمِرنا بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - أمرًا مُطلَقًا؟!
كلمة أخيرة: ومحبَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تتحقَّق بالاحتفاء بمولده في يوم من العام، وإنّما تتحقَّق باتِّباع هدْيه، وإحياء سنته، وتقديم قوله على كل قول، وعدم ردِّ شيء من سنته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - والسلف الصالح - رحمهم الله - قد وَسِعهم دين الله من غير احتفاء بمولده، إذًا فليَسعنا ما وَسِع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - والسلف الصالح - رحمهم الله -وما لم يكنْ دينًا فيزمانهم فليس بدين اليوم. اللهم اهدِ شباب المسلمين. اللهم ردَّ المسلمين إلى دينك ردًّا جميلاً. اللهم وحِّد صفَّنا. اللهم وحِّد كلمتنا. هذا والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وكتب ربيع أحمد حامدًا لله ومصلِّيًا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
----------------------------------------
[1] انظر: السيرة الحلبيَّة (3/519).
[2] انظر: السيرة النبوية؛ لابن كثير 1/199.
[3] انظر: السيرة الحلبية 3/519.
[4] وسيلة الإسلام بالنبي - عليه الصلاة والسلام - لابن قنفذ ص 31.
[5] انظر: السيرة النبوية؛ لابن كثير 1/199.
[6] حتى بالحساب الفلكي، فيوم الاثنين في شهر مولده عام الفيل يُوافِق 2 أو 9 أو 16 أو 23، وقد ولِد قطعًا يوم اثنين، فلا يمكنُ أن يكون ولِد يوم 12.
[7] صفة الصفوة؛ لابن الجوزي 1/24.
[8] المفيد في مهمات التوحيد؛ لعبدالقادر صوفي، ص (171).
[9] القول المُبين في سيرة سيد المرسلين؛ لمحمد النجار ص 78.
[10] الروض الأنف7/577.
[11] خلاصة سِير سيد البَشر؛ لمحب الدين الطبري، ص 178.
[12] السيرة النبوية؛ لابن كثير 4/509.
[13] الحاوي للفتاوى؛ للسيوطي 1/224.
[14] المدخل؛ لابن الحاج المالكي 2 / 15.
[15] المفيد في مهمات التوحيد، ص 171-172.
[16] السنن والمبتدعات؛ للشقيري ص (139).
[17] مقال: غدًا سأحتفِل بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ للشيخ ناصر العلي، موقع الدرر السَّنية.
[18] حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 112.
[19] تسهيل العقيدة الإسلامية 421- 524.
[20] محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، ص 283.
[21] عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية 2/214-217.
[22] ترتيب المدارِك وتقريب المسالك؛ للقاضي عِياض 7/277.
[23] درء تعارض العقل والنقل 10/60-61.
[24] كشف الشبهات، ص 39- 40. [25] صحيح الترغيب والترهيب، رقْم 37.
[26] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
[27] حقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 109.
[28] تسهيل العقيدة الإسلامية 524.
[29] المفيد في مهمات التوحيد ص 172.
[30] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم 5892، ورواه مسلم في صحيحه، حديث رقم 259.
[31] التوحيد؛ للفوزان ص 159.
[32] الرد على الرفاعي والبوطي ص 85.
[33] رواه أبو داود في سننه حديث رقم 2042، وصححه الألباني.
[34] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية 1/496.
[35] تهذيب اللغة؛ لأبي منصور الهروي 3/85، لسان العرب؛ لابن منظور 3/319.
[36] مشارق الأنوار على صحاح الآثار 2/105.
ربيع أحمد