قراءة في تظاهرة باريس
حسن الخليفة عثمان
إذا كنا صادقين في محاربة الإرهاب؛ فعلينا أن نحدد موقفنا بوضوح وجلاء من الديكتاتورية، والحكام المستبدين، والأنظمة الغاشمة.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
أقذر وأحط أنواع الاستثمارات على الإطلاق؛ هي استثمارات الدماء، والمتاجرة بها، واستغلال الأحداث التي لها جلالها، ومهابتها؛ في دنايا، وأوحال النفوس الاستعمارية، والانتهازية.
روى الإمام (البخاري)؛ في صحيحه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم: مرّت به جنازة؛ فقام، فقيل له: "إنها جنازة يهودي"، فقال: « ».
في مقالتنا السابقة بعنوان حادثة (شارلي إيبدو)؛ الموقف والرأي، وضّحنا فيها بالتفصيل موقفنا، ورأينا في هذه الحادثة المؤسفة، وقد حذّرنا القراء من الراقصين على الدماء من الأنظمة الشرقية المستبدة، الذين لا تستقر عروشهم، ولا يكون لها بقاء إلا في ظل انتشار الإرهاب، والقتل في شتى أنحاء العالم، بما يشغل العالم الحر عن الوقوف على حقائق جرائمهم التي يرتكبونها في حق شعوبهم.
ثم جاءت المسيرة، والتظاهرة، التي دعت إليها الرئاسة الفرنسية؛ تنديدًا بفظاعة الحادث، ومواجهةً للإرهاب بكافة أشكاله وصوره.
الفكرة في حد ذاتها، -والدعوة إلى تحالف إنساني سلمي حضاري راقٍ، يقوم به الأقوياء الذين يملكون كل أدوات البطش الفاعلة، لكنهم ينحّونها جانبًا ويُعلون من قيمة المواجهة الإنسانية، ودحر الإرهاب، بعزله فكريًا وحضاريًا وثقافيًا-، فكرة رائعة، ولا يجرؤ على إتمامها، وإكمالها إلا نفوس عاقلة رشيدة، لديها نظرة ثاقبة؛ في معالجة الأزمات والنوازل.
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، كانت الفجوة والهوة واسعة بين الحال والمقال، فلم يكن ينقص المسيرة أو التظاهرة؛ التي تقدمها (بنيامين نتنياهو) وبعض قادة وداعمي الاستبداد، والانقلابات في العالم الثالث إلا وجهان وشخصيتان هامتان، حتى يكتمل بؤس المشهد، ويصب الضحايا لعناتهم على من أرادوا تأبينهم فأساءوا إليهم.
كان ينبغي حتى يكتمل المشهد أن يتقدم الصفوف السيد (بشار الأسد) والسيد (عبد الفتاح السيسي)، ومن خلفهم السيد (محمود عباس) يحمل صورة الوزير (زياد أبو عين)، بجانب (بنيامين نتنياهو) يحمل غصن الزيتون، ويتوسطهما وزير دولة (الإمارات) يحمل رمزًا لما تلقيه أسراب طائراتهم من معونة الشتاء على الليبيين، لتقيهم البرد والحر على سواء، و ا بأس أن يصطحب السيد (عبد الفتاح السيسي) كوكبة من الإعلاميين المسالمين، مثل الأستاذ (أحمد موسى) ليلقي على الفرنسيين بيان العزاء والمواساة، و يقول لهم: "أنا أريد فرنسا غدًا أن تكون بأكملها دماء، وجثث من المسلمين".
المؤسف في الأمر؛ أن الإستغلال السياسي الخاطئ للحدث، وتكرار الإساءة، وجرح مشاعر المسلمين، أو بعض الضيوف، برفع وإعادة نشر الصور المسيئة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، والوجوه الكالحة، والملطخة أيديها بدماء الصحفيين، والأبرياء، والعزل، التي ذهبت لتتصدر المشهد لتضيف نقطة في رصيدها، بما يرفعها عند الأسياد درجة، ويرسّخ لها في الشرعية الدولية قدمًا، كل هذه الأمور انحرفت بالتظاهرة، وبالحدث إلى مسار آخر من المسارات الخطأ، ومن يطالع التعليقات، وردود الأفعال التي توالت على إثر رؤية بعض الوجوه والشخصيات؛ التي ذهبت إلى باريس، لتشارك في التنديد بقتل اثني عشر إنسانًا فرنسيًا، يجد أن أحد التعليقات التي لخصت المشهد في أقل من خمس كلمات، وهي قول القائل: "الشيطان استحى أن يذهب إلى هناك".
ذلك أن الذين يقتلون الآلاف، ويعتقلون الآلاف من شعوبهم، ولا يسمحون بصحافة حرة أصلًا، فضلًا عن سماحهم بصحيفة ساخرة، ويعتقلون الصحفيين، كرهائن لابتزاز دولهم، وكياناتهم بهم، حين يذهب هؤلاء ليتباكوا على صحفيي (شارلي إيبدو)، فلن نجد عجبًا في قول القائل: "إن الشيطان خجل من نفسه، ولم يشارك"، ذلك أنه لن يصل إلى هذا المستوى من التعري والكذب.
إننا إذ نكرر ما سبق في مقالاتنا السابقة، من رفضنا لكافة أنواع وصور الإرهاب، والظلم، وقتل الأبرياء، لَنهيب بالعقلاء في هذا العالم ألا ينساقوا وراء الذين فارقوا عقولهم بعد أن تجرّدوا من إنسانياتهم، وتحالفوا مع الشيطان ضد شعوبهم، بل ضد الإنسانية جمعاء، فلا ينبغي أن نغلق في وجوه الشعوب أبواب العدالة، ونملؤهم باليأس، والإحباط، الذي يدفعهم إلى مزيد من ارتكاب الجرائم والعنف والإرهاب، وذلك حين يدعم المجتمع الدولي المستبدين، والقتلة، والذين يمارسون القهر، والدكتاتورية ضد شعوبهم.
إن محاربة الإرهاب والقضاء عليه تتحقق بالقضاء على أسبابه ودوافعه ومبرّراته، حتى لا يبقى لمن يمارس الإرهاب حجة أو مبرّر، ونحن نقول: "ليس هناك ما يبرر الإرهاب، لكننا نريد -وبوضوح- أن نقطع الطريق على الذين يستغلون القضايا النبيلة في ممارسة أفعالهم الخاطئة".
إذا كنا صادقين في محاربة الإرهاب؛ فعلينا أن نحدد موقفنا بوضوح وجلاء من الديكتاتورية، والحكام المستبدين، والأنظمة الغاشمة؛ التي تقتل شعوبها، وتقمع الحريات، وتقضي على الديمقراطية، وتهجّر المعارضة السلمية السياسية خارج حدود الأوطان، بما يفسح المجال والطريق لأصحاب الدعوات الهدّامة؛ ودُعاة التكفير؛ والاستحلال بالتمدد، والانتشار.
فهل يستجيب العقلاء لدعوات العقل، والرشاد، أم إنهم كما قلت سابقًا: "يريدونها داعشيةً متقاتلة، لا إخوانيةً متصالحة؟!"
- مقال: حادثة (شارلي إيبدو)؛ الموقف والرأي.