الهجوم على السنة نشأته وتطوره (2-3)

أول البدع ظهورًا في الإسلام وأظهرها ذمًا في السنن والآثار بدعة الحرورية المارقة

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -

 

وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «يا عائشة، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء، هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة، أنا منهم برئ، وهم مني براء» (1).

وكان الابتداع، واتباع الأهواء، وعدم التسليم والانقياد لحكم الله ورسوله هو الشر الذي عكر صفاء هذه الأمة، وأحدث بين أبنائها الفرقة، وكانت البداية بدعة الخوارج، وأول من بدأها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أعرابي جاهل مغرور وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضًا على حكمه في قسمة مال جاء من اليمن، وقد وصف لنا الصحابة ذلك الرجل فقالوا: "رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، وناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار"، وقد قال للرسول صلى الله عليه وسلم بلهجة الآمر المتعالم بعد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم للمال: "اتق الله"، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتق الله؟».

وعندما ولى نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إ «نه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (2).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أول البدع ظهورًا في الإسلام وأظهرها ذمًا في السنن والآثار بدعة الحرورية المارقة(3)، فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه"(4).

لكن بدعة الخوارج هذه ما لبثت أن خمدت، وعاش الناس طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وطيلة خلافة الشيخين (أبي بكر وعمر) متبعين كتاب ربهم، ومقتفين سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا تعرف البدع إليهم طريقًا، ولا التكلف والتعمق إلى نفوسهم سبيلا إلا ما كان من حالات فردية يقضى عليها في مهدها، حتي كان آخر عصر عثمان رضي الله عنه، عندما عم الفتح الإسلامي كثيرًا من الأقطار، فدخل في الإسلام بعض من لم يتمكن الإسلام من نفوسهم، لقرب عهدهم به وقلة فقههم فيه، كما اندس بين هؤلاء من لم يرد الإسلام أصلا؛ وإنما أسلم نفاقًا؛ وكيدًا للإسلام وأهله. فكان نتيجة ذلك خروج ثورة مسلحة ضد عثمان رضي الله عنه على يد شرذمة من غوغاء الناس وسفهائهم، يقودها يهودي ماكر خبيث هو عبد الله بن سبأ الحميري، انتهت بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه مظلومًا على يد هؤلاء، فكان هذا أول الوهن.

ثم جاء عهد علي رضي الله عنه فكان أن تمخضت فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وما تلاها من حروب عن بدعتين متقابلتين: بدعة الخوارج المكفرين لعلي رضي الله عنه وبعض الصحابة رضي الله عنهم، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته، أو نبوته، أو إلاهيته، ثم تتابع خروج الفرق بعد ذلك:

 ففي آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم في خلافة عبد الملك بن مروان حدثت بدعة المرجئة والقدرية.

وفي أول عصر التابعين (في أواخر الخلافة الأموية) حدثت بدعة الجهمية والمشبهة الممثلة(5).

 قال ابن كثير: "إن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة! ففاجؤوه بهذه المقولة، فقال قائلهم -وهو ذو الخويصرة بقر الله خاصرته-: اعدل فإنك لم تعدل! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!» فلما قفل الرجل استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (وفي رواية: خالد بن الوليد) في قتله، فقال صلى الله عليه وسلم: «دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا -أي من جنسه- قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم» (6). ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» (7).

------------------------

(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/449، 450) وأبو نعيم في الحلية (4/138) والطبراني في الصغير (1/303) من حديث أبي هريرة، وقال الهيثمي في المجمع (7/22، 23) إسناد الطبراني في الصغير جيد.

(2) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2452).

(3) الحرورية: هم الخوارج، سموا بذلك لانحيازهم إلى مكان يعرف باسم: حروراء.

(4) مجموع الفتاوي (19/72).

(5) انظر: كتاب منهاج السنة (6/230-233) والصواعق المرسلة (1/147-151).

(6) انظر: أحاديث الخوارج وصفاتهم في صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2449-2456) والمسند (616) وابن حبان (24).

(7) عمدة التفسير (1/353) والحديث أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) وقال: هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.