(3) من قبل صلاح، كان هناك ألف صلاح!
فقبل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كانت قافلة الجهاد متصلة قائدًا من بعد قائدٍ!
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
"أين صلاح الدين؟!"، كثيرًا ما نسمع هذه الجملة عندما نذكر انتهاكات الصهاينة في فلسطين والمسجد الأقصى، عندها يتمتم العجزة وضعاف القلوب وخائروا العزيمة: "لو ظهر فينا صلاح الدين!!"، وكأن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان معجزة من السماء أو ملكًا أرسله الله مخِّلصًا، فحرر الأقصى وطرد الصليبيين!!
وهذا وهمٌ!، فصلاح الدين رحمه الله كان الثمرة التي نضجت نتيجة حركات تصحيحية كثيرة على مدار تسعين عامًا دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، فمن قبل صلاح.. كان هناك ألف صلاح!!
نعم كان هناك المئات من القادة الربانيين والعلماء العاملين مهَّدوا الطريق وأصلحوا السبل، وبذروا البذرة وتعهَّدوها بالسقي والرعاية والتربية حتى أثمرت صلاح الدين، نعم لم يروا نتائج تربيتهم ولا ثمرة جهادهم، ولكن حسبهم أنهم بذلوا!!
فقبل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كانت قافلة الجهاد متصلة قائدًا من بعد قائدٍ! فَمَن من المسلمين يسمع عن الأمير الشهيد مودود بن التونتكين صاحب الموصل (ت سنة 507هـ/ 1113م)، ونجم الدين إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين (ت سنة 516هـ/1122م)، وابن أخيه الأمير الشهيد بلك بن بهرام بن أرتق (ت سنة 518هـ/1124م)، والأمير الشهيد قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل (ت سنة 520هـ)، وولده الأمير الشهيد عماد الدين زنكي (521هـ- 541هـ/ 1127م - 1146م)، وابنه نور الدين محمود الشهيد (541هـ - 569هـ /1146م - 1173م)!.
وهكذا فإن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله تعالى، إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فقطف ثمرة جهادهم بتحرير بيت المقدس ودحر الصليبيين في حطين (583هـ- 1187م).
هذا عن القادة أما عن العلماء، فكان هناك الإمام عبد القادر الجيلاني وله جهوده الكبيرة في الدعوة الشعبية والإصلاح العام وتحريك الجماهير. والمؤرخ الكبير ابن عساكر الذي كان يحث نور الدين على مواصلة الجهاد. وبرهان الدين البلخي وكان له دور كبير في مساعدة نور الدين في القضاء على مظاهر التشيع بحلب. والأديب المؤرخ الشاعر العماد الأصفهاني التي كانت أعماله صورة صادقة من تجاوب العلماء مع أحداث الجهاد في ذلك العهد.
وقبل معركة حطين كان هناك العشرات من المعارك الهامة في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي مهدت الطريق إليها، ولولاها -بعد فضل الله تعالى- ما كانت هناك حطين ولا فتح بيت المقدس ولا بزغ نجم صلاح الدين رحمه الله!
فهل سمعتم عن موقعة هرقلة الأولى والثانية، أو حملات الأمير مودود ضد إمارة الرها منذ عام 503هـ / 1109م إلى سقوطها في يد عماد الدين زنكي عام 539هـ/ 1144م، هل سمعتم عن فتح بارين أو عن حصار شيزر، أو معركة ساحة الدم أو معركة حران أو معركة الصنبرة عام 507هـ/1113م والتي كانت البداية الحقيقية لاندحار القوى الصليبية، حتى قيل: "اليوم الصنبرة وغدًا حطين!!".
وإذا ذهبنا غربًا حيث دولة الإسلام في بلاد المغرب والأندلس، فسنجد تلك السنة ماضية كذلك، فكل القارئين عندما يسمعون عن المرابطين يستحضر في خَلَدهم البطل الكبير يوسف بن تاشفين (ت سنة500هـ/ 1106م) وانتصاره العظيم على الصليبيين في موقعة الزلاقة (479هـ/ 1086م) وتوحيده بلاد المغرب والأندلس في دولة واحدة وأصبحت دولته من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.
والحقيقة أن يوسف بن تاشفين رحمه الله هو ثمرة تضحيات كبيرة خاض غمارها الشيخ المربي عبد الله بن ياسين رحمه الله (ت سنة 451 هـ/ 1059م) الذي أجهد نفسه تعبًا وبذلًا من أجل إعادة الأمة إلى مسارها الصحيح باتباع الكتاب والسنة وتوحيد الصف الإسلامي بعد أن تشرذمت البلاد بين ملوك الطوائف. ويأتي معه في طريق الجهاد والإعداد الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني (447هـ/ 1055م)، والشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني (480 هـ/ 1087م)، الذي كانت دولته متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونس في الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحة أفريقيا.
وبعد 38 سنة من التربية والدعوة والجهاد هنا وهناك (سنة 478 هـ/ 1085م) يصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم المرابطين، ويسمي نفسه: أمير المسلمين وناصر الدين!
وفي العصر الحديث: هل رأى عز الدين القسام أو أمين الحسيني أو أحمد ياسين ثمرة جهادهم من التضحية والدعوة والمثابرة والجهاد وتلك الانتصارات الباهرة على الصهاينة في كل جولة؟! لم يروا!
ولكن حسبهم أن الأجيال القادمة جنت ثمار جهادهم وتضحياتهم، بدءًا من الحجارة إلى السكين إلى البندقية إلى الرشاش إلى الصاروخ وها نحن نرى الطائرات بدون طيار! فرحم الله من بذر وجزى الله خيرًا من جنى!
نحن لا نقول ذلك تقليلًا لشأن صلاح الدين ولا عبد الله بن ياسين ولا عز الدين القسام ولا غيرهم ممن بذروا -حاشا لله، غير أننا نبييِّن سُنَّة من سنن الله الماضية إلى يوم القيامة، وهي أنه لا بد للنصر من إعداد، وهذا الإعداد أطول بكثير من جني الثمار، فقد يستلزم ذلك الإعداد مئات السنين من جهاد وتربية وإصلاح!!
إن الآفة الكبرى في مجال الدعوة أو الجهاد استعجال الثمرة، وهذه هي طبيعة الإنسان دائمًا، يحب رؤية الثمرة، قال سبحانه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]. غير أن الله تعالى يعلمنا الصبر والثبات والمثابرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وروى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟!، فَقَالَ: « »".
إنها تذكرة للعاملين في حقل الدعوة إلى الله أو المجاهدين في ميادين الكرامة والحرية: أن ابذلوا وازرعوا ولا تستعجلوا قطف الثمار، فزرعك الطيب سيؤتي أكله ولو بعد حين، فأنت إن لم تَرَ نصر الله وتمكينَه لدينِه اليومَ أو غدًا فسيراه أولادُك وأحفادُك ولو بعدَ حينٍ.. فأَعِدُّوا ولا تستعجِلُوا!!
أحمد عبد الحافظ