علامات العلم النافع

وعن أبي أمامة رضِي الله عنه قال: "ذُكِر لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رجلان: أحدهما: عابد، والآخَر: عالم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فضلُ العالِم على العابِد كفَضلِي على أدناكم»، ثم قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليُصلُّون على مُعلِّمي الناس الخير» (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح").

  • التصنيفات: طلب العلم -

الحمدُ الله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].

قال ابن عباس رضِي الله عنهما: "للعلماء درجاتٌ فوقَ المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام؛ قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]".

قال تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66].

وفى الصحيحين من حديث معاوية بن أبى سفيان رضِي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «مَن يرد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين»" (متفق عليه).

وعن أبي أمامة رضِي الله عنه قال: "ذُكِر لرسول الله  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رجلان: أحدهما: عابد، والآخَر: عالم، فقال رسول الله  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فضلُ العالِم على العابِد كفَضلِي على أدناكم»، ثم قال رسول الله  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليُصلُّون على مُعلِّمي الناس الخير» (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح").

وفي حديثٍ آخر: «فضلُ العالِم على العابِد كفضل القمر ليلةَ البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخَذ به أخَذ بحظٍّ وافر»؛ (رواه الترمذي). 

وعن صفوان بن عسال رضِي الله عنه أنَّ النبي  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب» (رواه الإمام أحمد، وابن ماجه).

وعن أبي هريرة رضِي الله عنه قال: قال رسول الله  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن سلَك طريقًا يلتَمِس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة» (رواه مسلم).

ورُوِي عنه  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّه قال: «مَن جاءَه الموت وهو يَطلُب العلم ليُحيِي به الإسلام، كان بينَه وبينَ الأنبياء في الجنَّة درجة واحدة».

وعن أبي موسى رضِي الله عنه قال: قال رسول الله  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفة طيِّبة قَبِلَت الماء فأنبَتَت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسَكَت الماء فنفَع الله بها الناس، فشَرِبُوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِت كلأ، فذلك مثَل مَن فَقُهَ في دين الله ونفَعَه الله بما بعثني به فعَلِم وعلَّم، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبَل هدى الله الذي أُرسِلت به» (أخرجاه في الصحيحين).

فانظُر -رحمك الله- إلى هذا الحديث، ما أوقَعَه على الخلق! فإنَّ الفقهاء أُولِي الفهم كمثل البِقاع التي قَبِلَت الماء فأنبَتَت الكلأ؛ لأنَّهم عَلِموا وفَهِمُوا، وفرَّعوا وعلَّموا، وغايَة الناقِلين من المحدِّثين الذين لم يُرزَقوا الفقه والفهم، أنهم كمثل الأجادب التي حفِظَت الماء فانتَفَع بما عندهم، وأمَّا الذين سمعوا ولم يتعلَّموا ولم يحفَظُوا، فهم العوامُّ الجهَلَة.

وقال الحسن -رحمه الله-: "لولا العلماء لصارَ الناس مثل البهائم".

رُوِي عن أنس بن مالك رضِي الله عنه عن النبي  صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّه قال: «طلَب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم» (رواه أحمد).

كثيرٌ من طُلاَّب العلم يحرص على طلب العلم حتى ينفع نفسه وغيره في الدين، ويُحاوِل طلب العلم والاجتهاد فيه، ولكن لا ينسَ طالبُ العلم أنَّ العلم ربما يكون طريقًا يُؤدِّي إلى النار، وذلك كما في السنن عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن طلَب العلمَ ليُمارِي به السُّفَهاء، أو يُجارِي به العلماء، أو يَصرِف به وجوهَ الناس إليه، أدخَلَه الله النار» (أخرَّجه الإمام أحمد والترمذي، وفي رواية ابن ماجه من حديث عمر رضِي الله عنه: «فهو في النار»، وهو حديث حسن).

وكذلك مَن تعلَّمه من أجل الدنيا أو ليُصِيب به عرَضًا من الدنيا؛ كما رُوِي عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَن تعلَّم علمًا ممَّا يُبتَغَى به وجه الله لا يتعلَّمه إلا ليُصِيب به عرَضًا في الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنَّة يوم القيامة» (رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه).

قال ابن رجب: "طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينيَّة كالعلم والعمل والزهد، فهذا أفحش من الأول وأقبَح وأشدُّ فسادًا وخطرًا؛ فإنَّ العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عندَ الله من الدرجات العُلَى والنعيم المُقِيم والقرب منه الزُّلفَى لديه".

قال سفيان الثوري: "إنما فُضِّل العلم لأنه يُتَّقَى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء".

وكان أبو سليمان الداراني يَعِيب على مَن لبس عباءةً وفي قلبه شهوةٌ من شهوات الدنيا تُساوِي أكثر من قيمة العباءة.

وقد ثبَت في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضِي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إنَّ أوَّل خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاث، منهم العالم الذي قرأ القرآن ليُقال: قارئ، وتعلَّم العلم ليُقال: عالم، وإنه يُقال له: قد قيل ذلك، وأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار».

وعن علي رضِي الله عنه قال: "يا جماعة العلم، اعمَلوا به؛ فإنما العالم من عمل بما علم، فوافَق عمله علمه، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يُجاوِز تراقِيَهم يُخالِف علمهم عملهم، ويُخالِف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلَقًا فيُباهِي بعضهم بعضًا، حتى إنَّ الرجل ليغضَب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله" (رسالة ذم المال والجاه- ابن رجب ص [20]).

وكان بديل العقيلي يقول: "مَن أراد بعلمه وجهَ الله تعالى أقبَل الله عليه بوجهه، وأقبَل بقلوب العِباد عليه، ومَن عمل لغير الله صرَف الله وجهَه عنه، وصرف قلوبَ العباد عنه".

وقال محمد بن واسِع: "إذا أقبَل العبد بقلبه على الله أقبَل الله عليه بقلوب المؤمنين".

كما ذكر ابن رجب كلامًا جميلاً في إحدى رسائله قال: "إنَّ في الدنيا جنةً معجلة، وهي معرفة الله ومحبَّته، والأنس به والشوق إلى لقائه، وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدلُّ على ذلك، فمَن دلَّه علمُه على دخول هذه الجنَّة المعجلة في النار فاز بالجنة في الآخرة".

ولهذا؛ كان أشد عذاب في الآخرة لعالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو من أشدِّ الناس حسرةً يوم القيامة؛ حيث كانت معه آله يتوصَّل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فلم يستَعمِلها إلا في التوصُّل إلى أخسِّ الأمور وأدناها وأحقَرها، فهو كمَن كان معَه جواهرُ نفيسة لها قيمة عظيمة، فباعَها بعبرةٍ أو شيء مُستَقذَر لا ينفع به، فهذا حالُ مَن يَطلُب الدنيا بعلمه، بل أقبَح من ذلك مَن يطلبها بإظهار الزهد فيها، فإنَّ ذلك خداع قبيح جدًّا".اهـ.

ولقد كان نبيُّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم يطلب الاستِعاذة من العلم الذي لا ينفَع، وسؤال العلم النافع؛ ففي (صحيح مسلم) عن زيد بن أرقم رضِي الله عنه أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول: «اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستَجاب لها» (رواه مسلم).

ومن حديث جابرٍ رضِي الله عنه أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول: «اللهم إني أسالك علمًا نافعًا، وأعوذ بك من علمٍ لا ينفع» (أخرجه ابن حبان والطبراني في الأوسط).

وطلب العلم النافع له علاماتٌ وصفاتٌ فلا بُدَّ من الوقوف عليها؛ حتى يعرف طالب العلم الطريق الصحيح ولا ينحَرِف عنها.

والعلم النافع كما قال ابن رجب رحمه الله: "العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنَّة وفهْم معانيها، والتقيُّد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورَد عنهم من كلامٍ في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف، وغير ذلك".

ومَن وقَف على هذا وأخلَصَ القصدَ فيه لوجه الله عز وجل واستَعانَ عليه، أَعانه وهَداه، ووفَّقه وسدَّده، وفهَّمه وألهمه، وحينئذ يُثمِر هذا العلم ثمرته الخاصَّة به، وهي خشية الله، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].

قال ابن مسعود رضِي الله عنه: "كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغتِرار بالله جهلاً" (ابن المبارك في الزهد).

وقال بعض السلف: "ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية".

وقال بعضهم: "مَن خشي الله فهو عالمٌ، ومَن عصاه فهو جاهلٌ".

قال ابن رجب رحمه الله: "فمتى كان العلم نافعًا ووَقَر في القلب، فقد خشَع القلب لله، وانكسر له، وذلَّ هيبةً وإجلالاً وخشية، ومحبَّة وتعظيمًا، ومتى خشَع القلب وذلَّ وانكسر له، قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به، فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا".

وقال الحسن: "العلم علمان: فعلمٌ على اللسان، فذاك حجَّة الله على ابن أدم، وعلمٌ في القلب، فذاك العلم النافع".

قال سفيان الثوري: "العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمره، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله"؛ أبو نعيم في "الحلية".

وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: "أصل العلم خشية الله".

قال ابن رجب رحمه الله: "فأصل العلم بالله الذي يُوجِب خشيته ومحبَّته، والقرب منه والأنس به والشوق إليه، ثم يتلوه العلم بأحكام الله، وما يحبُّه ويَرضاه من العبد من قول أو عمل، أو حال أو اعتقاد، فمَن تحقَّق بهذين العلمَيْن كان علمه علمًا نافعًا، وحصَل له العلم النافع والقلب الخاشع، والنفس القانعة والدعاء المسموع، ومَن فاتَه هذا العلم النافع وقَع في الأربع التي استَعاذ منها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصار علمه وبالاً وحجَّة عليه، فلم ينتَفِع به لأنه لم يخشع قلبُه لربِّه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليه حرصًا ولها طلبًا، ولم يُسمَع دعاؤه لعدم امتِثاله لأوامر ربِّه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه، هذا إن كان علمه علمًا يمكن الانتِفاع به، وهو المتلقَّى عن الكتاب والسنَّةفإن كان مُتلقى من غيره ذلك فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتِفاع به، بل ضرُّه أكثر من نفعه" اهـ.

هذا بعض ما ذُكِر من سلفنا الصالح رضِي الله عنْهم في العلم النافع، وكذلك قد ذكَر سلفُنا وبعض الأئمَّة رحمهم الله علامات مهمَّة يستطيع طالب العلم أن يتعرَّف على العالم والعلم النافع الذي ينفعه في دينه ودنياه، وقس هذا على نفسك وغيرك يرعاك الله.

ومن هذه العلامات:
1. أنَّ أهل العلم لا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقامًا، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح.
2. لا يتكبَّرون على أحد.
3. يكرهون المدح والتزكية.
4. لا حسد ولا سخرية، ولا يأخُذ على علمٍ عَلَّمه الله أجرًا.
5. التواضع والخشية من الله، والانكسار والذل.
6. الابتِعاد عن الدنيا والرِّئاسة والشهرة.
7. لا يَدَّعِي العلمَ، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا مَن خالف السنَّة وأهلها.
8. عدم الإساءة وحسن الظن بِمَن سلَف من العلماء.

أمَّا من علامات العلم غير النافع الذي كان يَستَعيذ منه نبيُّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ففي حديث جابرٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول: «اللهم إنِّي أسالك علمًا نافعًا، وأعوذ بك من علمٍ لا ينفع» (أخرجه ابن حبان).


ومن هذه العلامات:
1. طلب العلوِّ والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها.
2. الفخر والخيلاء.
3. طلب مُباهاة العلماء ومُماراة السُّفَهاء، وصرف وجوه الناس إليه.
4. إظهار دعوى الولاية.
5. عدم قبول الحق والانقِياد إليه، والتكبُّر على مَن يقول الحق.
6. الإصرار على الباطل؛ خشية تفرُّق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق.
7. قبول المدح واستجلابه ممَّا ينافي الصدق والأخلاق.
8. وَصْمُ عِلْمِ العلماء المتقدِّمين بالجهل والغفلة والسهو.
9. إساءة الظنِّ بِمَن سلَف من العلماء المتقدِّمين.

هذا بعضُ ما جمعتُ في هذا المقال، فنَسال الله تعالى علمًا نافعًا، ونَعُوذ به من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمَع.

اللهم إنَّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع والله تعالى أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.

عامر الأسمري
---------------------------
المراجع:
- بيان فضل علم السلف على الخلف؛ الحافظ ابن رجب الحنبلي.
- رسالة في ذم المال والجاه؛ الحافظ ابن رجب الحنبلي.
- الصحيحين: البخاري ومسلم.
- الزهد؛ لابن المبارك.
- حلية الأولياء؛ لأبي نعيم الأصفهاني