(11) الخاتمة

أبو بكر جابر الجزائري

إذا كان المولد النبوي الشريف بدعة محرمة كسائر البدع لم سكت عنها العلماء وتركوها حتى ذاعت وشاعت وأصبحت كجزء من عقائد المسلمين، أليس من الواجب عليهم أن ينكروها قبل استفحال أمرها وتأصلها وَلِمَ لَمْ يفعلوا؟؟

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - ملفات المولد النبوي -

الخاتمة

 

لعل بعضا ممن يقرءون هذه الرسالة قد يتساءلون قائلين: إذا كان المولد النبوي الشريف بدعة محرمة كسائر البدع لم سكت عنها العلماء وتركوها حتى ذاعت وشاعت وأصبحت كجزء من عقائد المسلمين، أليس من الواجب عليهم أن ينكروها قبل استفحال أمرها وتأصلها وَلِمَ لَمْ يفعلوا؟؟

ونجيب الإخوة المتسائلين فنقول: لقد أنكر هذه البدعة العلماء من يوم ظهورها وكتبوا في ردها الرسائل، ومن قدر له الاطلاع على كتاب المدخل لابن الحاج عرف ذلك وتحققه.

ومن بين الردود القيمة رسالة الفاكهاني تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري الفقيه المالكي صاحب شرح الفاكهاني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني والتي سماها (المورد في الكلام على المولد)، وسنثبت نصها في هذه الخاتمة غير أن الأمم في عصور انحطاطها تضعف عن الاستجابة لداعي الخير والإصلاح بقدر قوتها على الاستجابة لداعي الشر والفساد؛ لأن الجسم المريض يؤثر فيه أدنى أذى يصيبه، والجسم الصحيح لا يؤثر فيه إلا أكبر أذى وأقواه، ومن الأمثلة المحسوسة، أن الجدار الصحيح القوي تعجز عن هدمه المعاول والفؤوس، والجدار المتداعي للسقوط يسقط بهبة ريح أو ركلة رجل. ولذا فلا يدل بقاء هذه البدعة وتأصلها في المجتمع الإسلامي على عدم إنكار العلماء لها، وهاهي ذي رسالة تاج الدين الفاكهاني نقدمها شاهدا على ذلك.

قال رحمه الله تعالى بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: "أما بعد: فإنه قد تكرر سؤال جماعة من المباركين[1] عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد: هل له أصل في الشرع، أو هو بدعة وحدث في الدين؟ وقصدوا الجواب من ذلك مبينا، والإيضاح عنه معينا، فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها المبطلون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليها الأحكام الخمسة: قلنا إما أن يكون واجبا أو مندوبا، أو مباحا أو مكروها أو محرما، وليس هو بواجب إجماعا، ولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشارع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشارع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ولا جائزا أن يكون مباحا، لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو محرما، وحينئذ يكون الكلام في فصلين، والفرقة بين حالين:

أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه في عياله لا يجازون في ذلك الاجتماع أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام. هذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.

والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه[2] يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف وقد قال العلماء: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف[3]، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى، وآلات الباطل من الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم، أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو.

ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن. رافعات أصواتهن بالتهتيك[4] والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع، والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:1، 4]وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون.

بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجزناه:

قد عرف المنكر واستنكر آل *** معروف في أيامنا الصعبة

وصار أهل العلم في وهدة *** وصار أهل الجهل في رتبة

حادوا عن الحق فما للذي *** ساروا به فيما مضى نسبه

فقلت للأبرار أهل التقى *** والدين لما اشتدت الكربة  

لا تنكروا أحوالكم قد أتت *** توبتكم في زمن الغربه

 

ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول:

لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب. هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هو ربيع الأول هو بعينه الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله نرجو حُسْنَ القبول". إلى هنا انتهت رسالة تاج الدين الفاكهاني المسماة: (المورد في الكلام على المولد)، ومن عجائب الحياة أن السيوطي وقد ذكرها في حاويه، ومنه نقلناها حرفيا قد حاول الرد عليها فلم يفلح فكان رده ساقطا باردا، لأنه يجادل بالباطل ليدحض به الحق، والعياذ بالله تعالى.

وقد عرفت أيها القارئ شبهات السيوطي التي فرح بها ظانا أنه قد استخرج لبدعة المولد أصلا من الشرع وعرفت ردنا عليه بما ينير الطريق لطالبي الحق والراغبين في العيش عليه، فلذا لا يضرك عدم اطلاعك على رد السيوطي المومى إليه، فإن نظرك في شبهاته يغنيك عن النظر فيه، هذا وإن قرأت رسالتي هذه ولم يفتح لك فيها، وما زلت حيران شاكا في بدعة المولد أنها بدعة ضلالة. فَأَكْثِرْ من الدعاء التالي فإن الله تعالى يقطع حيرتك ويلهمك الصواب ويهديك إلى الرشد، وهو على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

وهذا هو الدعاء: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يعني به من بارك الله فيهم من المسلمين الذين يريدون أن يعبدوا الله بما شرع، لا بما ابتدع أهل البدع والأهواء.

(2) يدل هذا التعبير أنهم كانوا يجمعون المال من الناس باسم المولد، وهو كذلك إذ ما زال أهل الموالد التي تقام على الأولياء إلى اليوم يجمعون المال من عموم الناس للحصول على بركة الولي وشفاعته.

(3) بالقوة والكره وقالوا ما أخذ بوجه الحياء فهو حرام.

(4) طلبت معنى هذا اللفظ في المعاجم فأعياني ولعله من ألفاظ المجون.

 

كتاب الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف

تأليـف / فضيلـة الشيـخ أبي بكر جابر الجزائري