تهديم البناء وإثبات حرمة الغناء

الحمد لله العزيز الغفار، يغفر لمن تاب إليه وأناب، ينير قلوب من يشاء من عباده، فيوفقهم لتوبة نصوح مما وقعوا فيه من الزلل في القول والعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين.

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -

الحمد لله العزيز الغفار، يغفر لمن تاب إليه وأناب، ينير قلوب من يشاء من عباده، فيوفقهم لتوبة  نصوح مما وقعوا فيه من الزلل في القول والعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وأكرمه، وأرسل إليه الرسل ليوضحوا له طريق الحق حتى يتبعوه، فبهم يعرف الإنسان كيف يعبد الله تبارك وتعالى، وأخبر الله في كتابه الكريم أن من أطاع رسوله صلى الله عليه وسلم فقد أطاعه فقال: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [سورة النساء:80]، وقال: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة آل عمران:31]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تَحب، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية"([1]).
فالإنسان مأمور بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديم ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على هوى نفسه وما يحب فالنفوس بطبيعتها تحب الملذات والشهوات، فإذا لم ينضبط المسلم بشرع الله الحنيف فإنه ينجر إلى المعاصي والعياذ بالله وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ))([2])، والسعيد في هذه الحياة الدنيا من عمل بكل ما يحبه الله تبارك وتعالى، وقدمه على ما يهوى، وقد بين الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كل شيء حسن فما أمرا به فهو الحسن الطيب، وما نهيا عنه فهو القبيح الخبيث.
كما أن الشريعة الإسلامية تمنع من تمسك بها عن نزواته، وتحميه من شهواته، وتقضي على همومه وأحزانه، فما أقوى وأغنى من تمسك واعتصم بدين الله وإن كان ضعيفاً فقيرا، وما أضعف وأفقر من جانبه وحاد عن حياضه، وزين له الشيطان فتنكب صراط رب العالمين.
ومن المعلوم أن أهل الإسلام يعيشون في ظل هذا الدين حياة مطمئنة كريمة، يجدون من خلالها حلاوة الإيمان، و اليقين والاطمئنان، وأنس الطاعة، ولذة العبادة، وتقف تعاليم هذا الدين حصناً منيعاً ضد نوازع الانحراف وأهواء المنحرفين، وتصون الإنسان عن الوقوع في الشهوات والشبهات، وإن مما يحزن المسلم الغيور على دينه أن يبحث بعض المسلمين عن السعادة في غيره، ويبحثون عن البهجة فيما عداه، يضعون السموم مواضع الدواء، طالبين العافية والشفاء في الشهوات والأهواء، ومن ذلك عكوف كثير من الناس اليوم على استماع آلات الملاهي والغناء، حتى صار ذلك سلوكهم وديدنهم، متعللين بعلل واهية وأقوال زائفة، تبيح الغناء وليس لها مستند صحيح، يقوم على ترويجها قوم فتنوا باتباع الشهوات واستماع المغنين والمغنيات.
وكما نرى بعضهم يروج للموسيقى بأنها ترقق القلوب والشعور، وتنمي العاطفة، وهذا ليس صحيحاً، فهي مثيرةٌ للشهوات والأهواء، ولو كانت تفعل ما قالوا لرققت قلوب الموسيقيين وهذبت أخلاقهم، وأكثرهم ممن نعلم انحرافهم وسوء سلوكهم، ومن المؤسف أن ينبري أحد القراء المشهورين فيفتي بحل المعازف والغناء، زاعماً أنه لا دليل على التحريم، فقد اطلعت على مقال له نشر على الشبكة العنكبوتية "الإنترنت"، بعنوان: تشييد البناء في إثبات حل الغناء، وهو شيخ معروف بحسن تلاوته للقرآن، فاستبعدت أن يكون ذلك منه، حتى رأيته في موقعه، هذا المقال للشيخ عادل بن سالم الكلباني هداه الله، إذ كيف من تخشع النفوس لتلاوته وحسنها أن يفتي بحل الغناء، فجال في خاطري أنه ربما أصيب بسحر من قبل سحرة ومشعوذين أبتلو بسماع المعازف والغناء فأرادوا شيخاً يفتيهم بذلك فعمدوا لسحره، وهذا ليس بعيداً، أو يكون الشيخ لم يطلع على دليل تحريمه فأفتى بحله لقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وبقيت الثالثة وهي أنه من دعاة التيسير - زعموا - فعمدوا إلى التنازلات وتقديم ما تميل إليه نفوسهم، ومراعاة ما يميل إليه كثير من الناس في هذا الزمن من مجون وخناء بحجة التيسير على الناس ودعوى المصالح والمفاسد، والبحث عن المخارج والأقوال الشاذة، والمصيبة أن أعداء الإسلام إذا أرادوا شيئاً بحثوا عن معمم ظاهره الصلاح والالتزام والتاريخ يشهد بذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فمن كان في شك من تحريم الأغاني والمعازف، فليزل الشك باليقين من قول رب العالمين، وقول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، في تحريمها وبيان أضرارها، فالنصوص كثيرة من الكتاب والسنة تدل على تحريم الأغاني والوعيد لمن استحل ذلك أو أصر عليه، والمؤمن يكفيه دليل واحد من كتاب الله تبارك وتعالى، أو صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا تكاثرت وتعاضدت الأدلة على ذلك؟! ولقد قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [سورة الأحزاب:36].
ونظراً لخطورة الأغاني، وأنها سبب من أسباب فتنة الناس وإفسادهم وخاصة الشباب منهم، وما يتفوه به المتقولون على الله تبارك وتعالى بغير علم فيحلون ما حرم الله تبارك وتعالى رأيت أن أكتب هذه الورقات، مساهمة في الدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودحضاً لشبه المبطلين راجياً من الله تبارك وتعالى الأجر والثواب ومنه أستمد العون والسداد، وحرصت فيها على ذكر الأدلة من كلام الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقلت جملة من كلام أهل العلم في هذه المسألة، سائلاً رب العزة والجلال أن ينفع بها، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أولاً: أدلة التحريم من القرآن الكريم:
إن من رحمة الله تبارك وتعالى بنا أن أرسل إلينا أفضل الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أحسن الكتب، ففي الكتاب والسنة بيان كل شيء، فما أجمل في القرآن فصل في السنة، وما أبهم في القرآن وضحته السنة، وهكذا، قال الله تبارك وتعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل:89]، ومن ذلك مسألة الغناء، والغناء هو أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة، كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله([3])، وقد يطلق على رفع الصوت وموالاته كما يقول الخطابي رحمه الله([4])، ومن تلك الأدلة ما يلي:
1.  قول الله تبارك تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [سورة لقمان: 6]، قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: "وأما الحديث، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الغناء والاستماع له، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الآية: "الغناء، والذي لا إله إلا هو، يردّدها ثلاث مرّات"([5])، وسُئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الآية فقال: إنه الغناء، وقال الحسن البصري رحمه الله: إن هذه الآية نزلت في الغناء والمزامير([6])، وقال ابن القيم رحمه الله: "ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)، فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء - يرددها ثلاث مرات -، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء.."([7]).
قال الواحدي رحمه الله: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء"([8]).
ونقل الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله قول أبي عبد الله الحاكم النيسابوري في كتابه المستدرك([9]) على الصحيحين: " ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي و التنزيل عند الشيخين حديث مسند"، ثم قال معلقاً على كلام الحاكم: "وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله من كتابه، فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل"([10]).
2.  وقوله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [سورة الإسراء:64]، قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: "اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) فقال بعضهم: عنى به: صوت الغناء واللعب، ثم نقل بسنده عن مجاهد، في قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال: باللهو والغناء"([11])، وقال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: "في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو... وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه"([12])، وجاء في تفسير الجلالين: (وَاسْتَفْزِزْ):  استخف، (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ): بدعائك بالغناء والمزامير وكل داع إلى المعصية"([13]).
3. وقوله الله عز وجل: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان: 72]، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره ما جاء عن محمد بن الحنفية أنه قال: الزور هنا الغناء"([14])، وجاء عند القرطبي والطبري عن مجاهد في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ) قال: "لا يسمعون الغناء"([15])، قال الطبري رحمه الله في تفسيره: "قال أبو جعفر: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق وهو باطل، ويدخل فيه الغناء لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه"([16]).
وقال رحمه الله في تفسير الآية: "وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مروا كراماً، مرورهم كراماً في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء"([17]).
ووجه الدلالة في هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أثنى على من لم يشهد الغناء، وسماه بالزور.
أدلة التحريم من السنة النبوية الشريفة:
إن السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وقد بين لنا فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كل خير، وأرشدنا إلى ما فيه سعادتنا في الدارين، ونهانا عن كل ما يضرنا في الدارين، وسنعرض لشيء مما بينه لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حكم الغناء والمسيقى فمنها:
1. قال الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))([18]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فدل هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها، ولهذا قال الفقهاء: أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه"([19]).
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله على هذا الحديث: "وهذا صريح ظاهر في تحريم آلات اللهو المطربة، وقد حكى الشيخان أنه لا خلاف في تحريم المزمار العراقي وما يضرب به من الأوتار، ومن عجيب تساهل ابن حزم واتباعه لهواه([20]) أنه بلغ من التعصب إلى أن حكم على هذا الحديث وكل ما ورد في الباب بالوضع، وهو كذب صراح منه، فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء من ذلك، وقال الإمام أبو العباس القرطبي: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق، ومهيج الشهوات والفساد والمجون، وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا تفسيق فاعله وتأثيمه"([21])أ.هـ.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الأقرب أنه مسند فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري، وقد قيل: إن البخاري إذا قال في صحيحه: قال فلان ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه فإنه يكون قد أخذه عنه عرضاً، أو مناولة، أو مذاكرة، وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسنداً والله أعلم، وخرجه البيهقي من طريق الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار فذكره([22])، فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار، وخرج أبو داود هذا الحديث مختصراً بإسناد متصل إلى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر([23]) بهذا الإسناد"([24])أ.هـ.
ووصله الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله من عدة طرق كما في كتابه القيم تغليق التعليق([25])، وقال ابن الصلاحِ رحمه الله: "ولا التفاتَ إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رَدِّهِ ما أخرجه البخاري،... ثم قال: فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جواباً عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأَ في ذلك من وُجوهٍ، والحديثُ صحيحٌ معروفُ الاتصالِ بشرطِ الصحيحِ، قالَ: والبخاريُّ قد يفعلُ ذلك لكونِ الحديثِ معروفاً من جهةِ الثقاتِ عن الشخصِ الذي عَلَّقَهُ عنه، أو لكونِهِ ذكرَهُ في موضعٍ آخرَ من كتابهِ مسنداً، أو لغيرِ ذلكَ من الأسبابِ التي لا يصحبُها خللُ الانقطاعِ"([26])أ.هـ، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال: قال هشام فهو بمنزلة قوله: عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه، أنه حدث به وهذا كثيراً ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً فالحديث صحيح متصل عند غيره"([27])أ.هـ.
وقال بدر الدين بن جماعة رحمه الله: "الحديث معروف الاتصال بشرط الصحيح"([28])، وقال ابن الملقن رحمه الله: "والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط صحيح"([29])، وقال العراقي رحمه الله: "فإنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ الاتصالُ؛ لأنَّ هشامَ بنَ عَمّارٍ من شيوخِ البخاريِّ حدَّثَ عنه بأحاديثَ، ...، وخالفَ ابنُ حزمٍ في ذلك، والحديثُ مُتَّصِلٌ مِن طُرُقٍ: من طريقِ هشامٍ وغيرهِ"([30]).
وفي هذا الحديث دليل على تحريم آلات المعازف والغناء من وجهين:
الوجه الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((يستحلون))، دليل على أنها محرمة؛ لأن الاستحلال لا يكون إلا لشيء محرم، وفي هذا الحديث صرح بأن الخمر والزنا ولبس الحرير ومنها المعازف، فيستحلها أولئك القوم، وقد رأينا في زمننا هذا كثيراً ممن استحلها والله المستعان.
الوجه الثاني: أنه قرن المعازف مع  الزنا والخمر والحرير، وهي محرمة، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها.
2. وعن جابر رضي الله عنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخيل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ قال: إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة))([31])، وعنه رضي الله عنه قال: ((أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أولم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: لا ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان))([32])، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء"([33])، وقال الألباني رحمه الله: "وفي الحديث تحريم آلات الطرب؛ لأن المزمار هو الآلة التي يزمر بها"([34]).
3.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن في هذه الأمة خسف، وقذف، ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف))، وقال الإمام الألباني رحمه الله: "صحيح بمجموع طرقه"([35]).
4.وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ، وَالْمِزْرَ، وَالْكُوبَةَ، وَالْقِنِّينَ، وَزَادَنِي صَلَاةَ الْوَتْرِ))([36]).
5. وروى الإمام البيهقي في سننه الكبرى عن عبيد الله بن عمر قال: حدثنى نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما مر عليه قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى، فقال: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم"([37])، وعَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: "سَمِعَ صَوْتَ، زَمَّارَةِ رَاعٍ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ "، وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ ؟، فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَيَمْضِي حَتَّى، قُلْتُ: لَا فَوَضَعَ يَدَيْهِ، وَأَعَادَ رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَقَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا"([38])، قال الإمام القرطبي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: "قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم؟!"([39]).
أقوال أئمة أهل العلم:
فبعد أن تبين لنا الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم المعازف والغناء، وأوردنا بعض كلام أهل العلم على تلك الأدلة، نشير إلى بعض أقوال أهل العلم فمناه مايلي:
قال الضحاك رحمه الله: "الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب"([40])، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الغناء رقية الزنا"([41])، وقال الحسن رحمه الله: لهو الحديث  المعازف والغناء، وقال القاسم بن محمد رحمه الله: الغناء باطل، والباطل في النار([42])، وقال الإمام القرطبي في تفسيره: "قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه"([43])، وقال ابن الصلاح رحمه الله: "الغناء مع آلة الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء"([44])، وقال ابن عبد البر رحمه الله: " الغناء الإجماع على تحريم أخذ الأجرة عليه"([45])، وقال ابن القيم رحمه الله في بيان مذهب الإمام أبي حنيفة: "وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق، وترد بها الشهادة، وأبلغ من ذلك قالوا: إن السماع فسق والتلذذ به كفر، وورد في ذلك حديث لا يصح رفعه، قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره"([46])، وقال رحمه الله: "وسئل مالك رحمه الله: عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب، وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافاً بين أهل البصرة في المنع منه.... وذكر كلاماً إلى أن قال: "وقد قال القاضي أبو يوسف تلميذ الإمام أبى حنيفة حينما سئل عن رجل سمع صوت المزامير من داخل أحد البيوت، فقال: "ادخل عليهم بغير إذنهم؛ لأن النهي عن المنكر فرض"([47]).
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى"([48]).
وقال إسحاق بن عيسى الطباع رحمه الله: "سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق"([49])، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام...ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا"([50])، وقال أيضاً: "فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا مصر ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية لا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه"([51])، وقال في موضع آخر: "والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش، وإلى الظلم، فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون، وهذه الثلاثة موجودة كثيراً في أهل سماع المعازف: سماع المكاء والتصدية"([52]).
وقال في بيان حال من اعتاد سماع الغناء: "ولهذا يوجد من اعتاده واغتذ به لا يحن على سماع القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وأصغت القلوب، وتعاطت المشروب"([53]).
وقال ابن القيم رحمه الله: " وأما الشافعي: فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحق وابن الصباغ، وقال الشيخ أبو إسحق في التنبيه: ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر ولم يذكر فيه خلافاً، وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة؛ لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم فقد تضمن كلام الشيخ أموراً:
أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراماً فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور، وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته،... وذكر رحمه الله كلاماً إلى أن قال: قد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء، فقال في فتاويه: أما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع، والاختلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدُّف منفرداً، فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافاً بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور: إنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [سورة النساء: 115]"([54])أ.هـ.
وقال رحمه الله: "إنك لا تجد أحداً عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك وثقل عليه سماع القرآن وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته"([55])، وقال رحمه الله في ذكر بعض أوصافه: "ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه فتمايلوا ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان، ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس ففعل فيها أعظم ما يفعله حمياً الكؤوس، فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله واستفزهم بصوبه وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزاً وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزاً، فطوراً يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالدين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطناً ولا أثار فيه  من لواعج الشوق إلى النار زنداً، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان، صفقة خاسر مغبون هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن، وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد..."([56])، وقال رحمه الله:
والله إن سماعهم في القلب *** والإيمان مثل السم في الأبدان
والله ما انفك الذي هو دأبه *** أبداً من الإشراك بالرحمن
فلقلب بيت الرب جل جلاله *** حباً وإخلاصاً مع الإحسان
فإذا تعلق بالسماع أصاره *** عبداً لكل فلانة وفلان
حب الكتاب وحب ألحان الغناء *** في قلب عبد ليس يجتمعان
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا *** تقييده بشرائع الإيمان([57]).
وقال رحمه الله في بيان بعض خصائص الغناء: " أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن الغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان..إلخ"([58]).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من العلماء  الإجماع على تحريم السماع المعتاد في هذه الأزمان على وجهه المعتاد، قال ومن نسب إباحته إلى أحد من العلماء يجوز الاقتداء به في الدين فقد أخطأ، وما جاء عن بعض المشايخ من استباحته ففي غير هذا السماع، وبشروط شرطوها غير موجودة في هذا السماع"([59])، وبذلك يتبين لنا أقوال العلماء في المسألة وأنهم مجمعون على حرمية الغناء والموسيقى والمنع منهما.
ويستثنى من ذلك الدف للنساء في الأعياد والنكاح، وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة، فمنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد الفطر فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا"([60]).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه، وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتاً وكيفية تقليلاً لمخالفة الأصل والله أعلم"([61]).
ويمكن أن يرد على من استدل بحديث الجاريتين في تحليل المعازف بكلام الإمام ابن القيم رحمه الله حيث قال: "وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم، فأين هذا من هذا، والعجيب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم، فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية، ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولاستماعهما، أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟! فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام"([62])، وقال ابن الجوزي رحمه الله: "وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت، و لم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء، قد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها"([63]).
وقال القرطبي رحمه الله: قولها: ((ليستا بمغنيتين)) أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه، وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأن ذلك يثمر سني الأحوال وهذا - على التحقيق - من آثار الزندقة، وقول أهل المخرفة والله المستعان"([64]).ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد على عهده يضرب بدف ولا يصفق بكف، بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((التصفيق للنساء والتسبيح للرجال))([65])، ((ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء))([66])، ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ويسمون الرجال المغنين مخانيث وهذا مشهور في كلامهم"([67]).
ومن المعروف والمشهور أن ابن حزم رحمه الله يبيح الغناء، وكذلك القرضاوي والجديع وأخيراً الكلباني، لكن الذي أريد أن أنبه عليه أن الناس إذا سمعوا أن فلاناً من الناس قال بحل الغناء، تبادر إلى أذهانهم وخطر على بالهم أنه الغناء الموجود اليوم في القنوات والإذاعات والطرقات وهذا من الخطأ الكبير، فمثل هذا الغناء لا يقول به عاقل، فضلاً عن عالم مثل الإمام الكبير ابن حزم، فالعلماء متفقون على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية، وقد قدمنا شيئاً من الأدلة على تحريمه من القرآن والسنة، ونقلنا بعض ما قاله العلماء فيه، وعلى كلٍ فالجميع يعرف حال الغناء اليوم وما يحدث فيه من المحرمات القطعية، كالتبرج والاختلاط الماجن، والدعوة السافرة إلى الزنا والفجور وشرب الخمور، والمشتمل على كلمات الحب والغرام، وذكر العيون والخدود والنهود، وتقف فيه المغنية عارية أو شبه عارية أمام العيون الوقحة والقلوب المريضة لتنعق بكلمات الحب والمجون في القنوات فيتمايل الرجال والنساء طرباً بمعصية الرحمن ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان.
فعلى من يشيع أن هناك من العلماء من قال بالجواز، ويفتي الناس ويدعي جواز السماع أن يعرف أين يؤدي كلامه هذا إذا أطلقه بدون ضوابط وقيود، فليتق الله، وعليه أن يعلم أنه يكون سبباً في ضلال كثير من الشباب وليعرف إلى أين ينتهي كلامه؟! وليتنبه إلى واقعه الذي يحيا فيه.
وكون الإمام ابن حزم رحمه الله أو غيره من العلماء يبيح أمراً جاء النص الصريح الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه لا يعذر من قلدهم عند الله تبارك وتعالى من علم دليل التحريم، وهذه الإباحة زلة منه رحمه الله لا يتبع فيها، وهو اجتهاد منه أخطأ فيه، وكان الإمام سليمان التيمي رحمه الله يقول: "لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله"([68])، وقال الله جل وعلا آمراً بالعمل بما ثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [سورة الحشر:7]، وقال أيضا: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة النور:63]، ولله در القائل:
كلام الله عز وجل قولي ***وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدء اً *** وعوداً فهو عن حق مبين
ودع ما صد عن هذا وهذا ***  فكن منها على عين اليقين([69])
وأكتفي بما تقدم من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، والمسلم يكفيه دليل واحد مما صح وثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وللفائدة يمكن مراجعة الكتب التي عنيت بالرد والبحث في هذه المسألة مثل: كتاب نزهة الأسماع في مسألة السماع للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وكتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان للإمام ابن القيم رحمه الله، وكتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع للإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله، وكتاب تحريم آلات الطرب للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وكتاب الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام للشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله، وكتاب الرد على القرضاوي والجديع للشيخ عبد الله رمضان بن موسى، وغيرها، وفيما يلي سأنقل بعض كلامه وأرد بما يفتح الله تبارك وتعالى عليّ وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأسأله أن يجنبني الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه، وأن ينفعني به في الدارين، وينفع به من اطلع عليه.
قال الشيخ: فإن الله عز وجل خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطيبات التي يجد بها في نفسه أطيب الأثر، فتسكن جوارحه وترتاح نفسه وينشرح صدره، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، يميلون إلى كل ما هو جميل في الكون فيسرون برؤيته ويطربون لسماعه وبنيله تكمل لذتهم وسعادتهم، ولا جرم فإن الله تعالى جميل يحب الجمال، وهذا ما علل به الحبيب صلى الله عليه وسلم شعور الإنسان برغبته أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، ومظهره حسنا!.
وهذه الأحاسيس والمشاعر التي خلقها الله لا يمكن لأحد أن ينفك منها؛ لأنها من لوازم كونه إنسانا، ومحاولة التغلب على الوجدان إنما هو مقاومة لنواميس هذا الكون وقوانين الحياة.
ولعل قيام الإنسان بمهمته في هذه الحياة ما كانت لتتم على الوجه الذي لأجله خلقه الله إلا إذا كان ذا عاطفة غريزية توجهه نحو المشتهيات والمتع التي خلقها الله معه في الحياة فيأخذ منها القدر الذي يحتاجه وينفعه.
ومن نظر في أحكام الشريعة الإسلامية لاح له أن الله تعالى في كل ما شرعه لم يجعل فيه ما يحارب الغرائز، أو يطلب من الإنسان أن يخالف ما أودعه الله فيه، وإنما جاءت النصوص بتهذيب الغريزة، وتوجيهها، وتقويمها، حتى لا تطغى، فيتحول الإنسان بهذا الطغيان إلى البهيمية، فليس في شرع الله تعالى أن لا يستمتع الإنسان بالصوت الندي الحسن، بل جاء فيه ما يحث عليه ويشير إليه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: علمها بلالا، فإنه أندى منك صوتا، وإنما عاب الله تعالى نكارة صوت الحمير، (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [سورة لقمان:19]، ومن المثير للتأمل أن الإشارة إلى نكارة صوت الحمار جاء في نفس السورة التي يستل منها المحرمون للغناء دليل تحريمه! ومن غير المعقول أن يطلب الله من الإنسان بعد أن أودع فيه هذه العاطفة نزعها أو إماتتها من أصلها، وموقف الشرائع السماوية من الغرائز هو موقف الاعتدال، لا موقف الإفراط ولا موقف التفريط، وهو موقف التنظيم لا موقف الإماتة والانتزاع.
فكل صغير أو كبير، يميل إلى سماع الصوت الحسن، والنغمة المستلذة إنما هو نتيجة طبيعية لهذه الغريزة التي خلقها الله وأداء لحقها.
قلت: إن الله تبارك وتعالى شرع الشرع الحنيف لم يحارب الغرائز أو يكبتها، وإنما جاء لتهذيبها ملبٍ لرغباتها وفق ضوابطه إلا إن الغناء ليس مما أباحه لها، ففي كلام شيخنا المبارك نوع خلط وتلبيس فتأمل!.
وإذا عصم الله تبارك وتعالى النفس أمدها بقوة من عنده جعلها قادرة على التمييز بين الخير والشر، والطاعات والمعاصي، وإذا خذل تبارك وتعالى النفس أمد الهوى بقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تبارك وتعالى في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد والميل إلى الشهوات والملذات، وقد قامت الأدلة على أن النفس مخلوقة وركب فيها التمييز بين الخير والشر، والميل إلى لشهوات فالنفس أمارة بالسوء إلا من رحمها الله كما في قوله:  (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة يوسف:53]، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "  (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)  أي: مشتهية له، (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) في موضع نصب بالاستثناء، وما بمعنى من، أي إلا من رحم ربي فعصمه، وما بمعنى من كثير، وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء"([70])، فالنفس المرحومة هي التي لا تأمر بالسوء كما قال الله تبارك وتعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)  [سورة النازعات:40-41]، فالنفوس جُبِلَت على الانفلات من القيود واتباع الشهوات، ولكن مخافة الله تبارك وتعالى وطلب الثواب منه سبحانه والرغبة فيما عنده والجنّة، تُلجِم النفس من الانفلات، وتُقيِّد الإنسان من الانخراط وراء الشهوات، والدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفوس إلا من رحم الله؛ لأنه أمر مخالف للهوى، وصاد عن سبيل الشهوات ومن ذلك سماع الأصوات المطربة الحسنة الجميلة التي تصدع بالأغاني التي يميل إليها كثير من الناس الذين قدموا هوى النفس على مراد الله تبارك وتعالى، فعند أن يطلق الإنسان لنفسه العنان ولم يلجمها بالشرع الحنيف فإنه ينخرط حتى يصير في طبقة الحيوانات والإنسان في هذه الحياة خلقه الله تبارك وتعالى ليبتليه فأوجد في نفسه الميل إلى الشهوات وقيد ذلك بالشرع الحنيف، وكيف لا يكون ذلك كذلك وقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات))([71])، وقال ابن رجب رحمه الله: "وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى؛ فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور؛ فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة ... ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء، وذمه، وذم استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به"([72]).
وأقول للشيخ هامساً: الإنسان جبل على حب النساء فهل يجوز له مخالطتهن ومعاشرتهن والنظر إلى وجوههن الحسنة؛ لأن فيه تلك الغريزة؟! أفيقول هذا عاقل؟!!
قال الشيخ: وقد ذكر الأطباء منذ القدم أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق فيصفو له الدم وتنمو له النفس ويرتاح له القلب وتهتز له الجوارح، وتحن إلى حسن الصوت الطيور والبهائم، ولهذا يقال إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء، وقال الشاعر:
والطير قد يسوقه للموت *** إصغاؤه إلى حنين الصوت
قلت: أما قوله: أن الأطباء ذكروا أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق فيصفو له الدم وتنمو له النفس ويرتاح له القلب وتهتز له الجوارح، فأقول: لا شك أن له تأثيراً عظيماً على النفوس كيف لا وهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف على الرحمن، ورقية الزنا، أما زعمه بأن القلب يرتاح لسماعه فإنما هي راحة شيطانية، وأما القلوب الحية فتطمئن وترتاح بذكر الله تبارك وتعالى قال الله: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد:28]، بل حتى الخمر حين يشربها الإنسان فإنه يشعر بنشوة وراحة فهل يكون ذلك دليلاً لحلها؟!
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر، والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر للجسد يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، ولهذا يورث أصحابه سكراً أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز كما يجد شارب الخمر؛ بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر حتى يقتل بعضهم بعضاً من غير مس بيد بل بما يقترن بهم من الشياطين؛ فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال ويتكلمون على ألسنتهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربياً لا يحسن أن يتكلم بذلك بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم، وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى وهذا يعرفه أهل المكاشفة "شهودا وعيانا"، وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة هم من هذا النمط"([73])، ويقول رحمه الله: "قال الحسن بن عبد العزيز الحراني: سمعت الشافعي يقول: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين، فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات، فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن"([74])، ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله مبيناً أثر الغناء وأثره على النفس: "ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته، فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع والميتة على المذكاة والتحليل الملعون فاعله على النكاح"([75]).
ويقول رحمه الله: "ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب! ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنا، فهم أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي اللِّيان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حادية: ((يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير))([76])، يعني النساء، فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف، والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء؛ لحبلت من هذا الغناء، فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا!"([77]).
قال الشيخ: وذكر الحكماء قديماً أن النفس إذا حزنت خمدت نارها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت، فالصوت الحسن مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.
قلت: وأما قوله عن الصوت الحسن بأنه مراد السمع، ومرتع النفس، وربيع القلب، ومجال الهوى، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد، وزاد الراكب؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس، فأقول: اتق الله تبارك وتعالى فربيع القلوب هو ذكر الله تبارك وتعالى، إذ كيف القلوب تسعد وترتاح بمعصية الرحمن والله تبارك وتعالى يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [سورة طه:124]، وكيف يكون مسلاة للكئيب؟!
أما قرأت قول الله تبارك وتعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد:28]، فالقلوب تطمئن وترتاح بذكر خالقها جل وعلا، وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم على مسألة السماع كلاماً طويلاً أنقله لفائدته قال رحمه الله: " ومن أعجب العجائب: استدلال من استدل على أن هذا السماع من طريق القوم وأنه مباح: بكونه مستلذاً طبعاً تلذه النفوس وتستروح إليه، وأن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عليه بالحداء، وبأن الصوت الطيب نعمة من الله على صاحبه، وزيادة فى خلقه، وبأن الله ذم الصوت الفظيع فقال: (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [سورة لقمان:19]، وبأن الله وصف نعيم أهل الجنة فقال فيه: (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)  [سورة الروم:15]، وأن ذلك هو السماع الطيب فكيف يكون حراماً وهو في الجنة وبأن الله تعالى ما أذن لشيء كأذنه أي كاستماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، وبأن أبا موسى الأشعري استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى صوته وأثنى عليه بحسن الصوت، وقال: ((لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود))([78])، فقال له أبو موسى: لو علمت أنك استمعت لحبرته لك تحبيرا، أي: زينته لك وحسنته، وبقوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم))([79])، وبقوله: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))([80])، والصحيح: أنه من التغني بمعنى تحسين الصوت، وبذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله فقال: يحسنه بصوته ما استطاع، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عائشة على غناء القينتين يوم العيد، وقال لأبي بكر: ((دعهما فإن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا أهل الإسلام))([81])، وبأنه أذن في العرس في الغناء، وسماه لهواً وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء وأذن فيه، وكان يسمع أنساً والصحابة وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق...، ودخل مكة والمرتجز يرتجز بين يديه بشعر عبد الله بن رواحة وحدا به الحادي في منصرفه من خيبر...، وذكر كلاماً إلى أن قال: وبأن ابن عمر رضي الله عنهما رخص فيه وعبد الله بن جعفر وأهل المدينة وبأن كذا وكذا ولياً لله حضروه وسمعوه، فمن حرمه فقد قدح في هؤلاء السادة القدوة الأعلام، وبأن الإجماع منعقد على إباحة أصوات الطيور المطربة الشجية فلذة سماع صوت الآدمي أولى بالإباحة أو مساوية، وبأن السماع يحدو روح السامع وقلبه إلى نحو محبوبه، فإن كان محبوبه حراماً كان السماع معيناً له على الحرام وإن كان مباحاً كان السماع في حقه مباحاً، وإن كانت محبته رحمانية كان السماع في حقه قربة وطاعة؛ لأنه يحرك المحبة الرحمانية ويقويها ويهيجها، وبأن التذاذ الأذن بالصوت الطيب كالتذاذ العين بالمنظر الحسن، والشم بالروائح الطيبة، والفم بالطعوم الطيبة، فإن كان هذا حراماً كانت جميع هذه اللذات والإدراكات محرمة، فالجواب: أن هذه حيدة عن المقصود وروغان عن محل النزاع، وتعلق بما لا متعلق به، فإن جهة كون الشيء مستلذاً للحاسة ملائماً لها لا يدل على إباحته، ولا تحريمه ولا كراهته، ولا استحبابه، فإن هذه اللذة تكون فيما فيه الأحكام الخمسة: تكون في الحرام، والواجب، والمكروه، والمستحب، والمباح، فكيف يستدل بها على الإباحة من يعرف شروط الدليل ومواقع الاستدلال؟! وهل هذا إلا بمنزلة من استدل على إباحة الزنا بما يجده فاعله من اللذة، وأن لذته لا ينكرها من له طبع سليم،! وهل يستدل بوجود اللذة والملاءمة على حل اللذيذ الملائم أحد؟! وهل خلت غالب المحرمات من اللذات؟! وهل أصوات المعازف التي صح عن النبي تحريمها وأن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد، وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها، وقال جمهورهم: بتحريم جملتها، إلا لذيذة تلذ السمع وهل في التذاذ الجمل والطفل بالصوت الطيب دليل على حكمه من إباحة أو تحريم؟!، وأعجب من هذا: الاستدلال على الإباحة بأن الله خلق الصوت الطيب وهو زيادة نعمة منه لصاحبه، فيقال: والصورة الحسنة الجميلة أليست زيادة في النعمة والله خالقها ومعطي حسنها، أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها والالتذاذ على الإطلاق بها؟! وهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة، وهل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات، والألحان اللذيذات من الصور المستحسنات بأنواع القصائد المنغمات بالدفوف والشبابات، وأعجب من هذا: الاستدلال بسماع أهل الجنة وما أجدر صاحبه أن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمراً، و على حل لباس الحرير بأن لباس أهلها حرير، وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بهما للرجال: بكون ذلك ثابتاً وجود النعيم به في الجنة  فإن قال: قد قام الدليل على تحريم هذا ولم يقم على تحريم السماع، قيل: هذا استدلال آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنة، فعلم أن استدلالكم بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل لا يرضى به محصل، وأما قولكم: لم يقم دليل على تحريم السماع فيقال لك: أي السماعات تعني وأي المسموعات تريد؟ فالسماعات والمسموعات: منها المحرم والمكروه والمباح والواجب والمستحب فعين نوعاً يقع الكلام فيه نفياً وإثباتاً فإن قلت: سماع القصائد، قيل لك: أي القصائد تعني؟ ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه وهجي به أعداؤه، فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها وهي التي سمعها رسول الله وأصحابه، وأثاب عليها وحرض حساناً عليها، وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني فقالوا: تلك قصائد وسماعنا قصائد فنعم إذن، والسنة كلام، والبدعة كلام، والتسبيح كلام، والغيبة كلام، والدعاء كلام، والقذف كلام، ولكن هل سمع رسول الله وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني، المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة،...ونظير هذا: ما غرهم من استحسانه الصوت الحسن بالقرآن وأذنه له وإذنه فيه، ومحبة الله له فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد، وذكر القد، والنهد، والخصر، ووصف العيون، وفعلها والشعر الأسود، ومحاسن الشباب، وتوريد الخدود، وذكر الوصل، والصد، والتجني،  والهجران، والعتاب، والاستعطاف، والاشتياق، والقلق، والفراق، وما جرى هذا المجرى مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر بما لا نسبة بينهما، وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لا يستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين سليبا حريباً وأسيراً قتيلاً، وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع؟! وهل يظن بحكيم أن يحرم سكراً لمفسدة فيه معلومة؟! ويبيح سكراً مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب، حاشا أحكم الحاكمين، فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح: خرجوا عن الذوق والحس، وظهرت مكابرة القوم فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته، ويبيح له ما فيه أعظم السقم، والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب وسقمها بسكر السماع"([82]) ا.هـ، فهذا الكلام من هذا الإمام يفند ما تفوه به الشيخ.
قال الشيخ: وقد صح عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: الغناء من زاد الراكب، وكان له مغني اسمه خوات، ربما غنى له في سفره حتى يطلع السحر، ويعلم كل أحد من عمر؟
وأقول: هذا الأثر الوارد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في الكبرى([83])، والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه([84])، وفي إسناده أسامة بن زيد بن أسلم العدوي، تكلم فيه الأئمة كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمته: " فقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: منكر الحديث ضعيف، وقال يحيى بن معين: أولاد زيد بن أسلم إخوة وليس حديثهم بشيء، وقال مرة: ضعيف، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن أسامة بن زيد بن أسلم وعبد الله بن زيد بن أسلم أيهما أحب إليك؟ قال: أسامة أمثل، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن سعد: كثير الحديث وليس بحجة، وقال ابن حبان: كان واهياً يهم في الأخبار، فيرفع الموقوف، ويصل المقطوع، وقال بن عدي: لم أجد له حديثاً منكراً لا إسناداً ولا متناً وأرجو أنه صالح، وقال علي بن المديني: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة، وقال الآجري عن أبي داود: ضعيف قليل الحديث"([85])، وكلام الإمام ابن عدي لا ينفي ضعفه، وسئل عنه الشيخ ابن باز رحمه الله فقال: "ليس بحديث بل هو كلام باطل"([86]).
والمقصود بهذا الأثر الوارد على فرض ثبوته الحداء، فهو جائز، قال ابن بطال رحمه الله:" قال الطبرى: وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة"([87]).
وقال ابن الأثير رحمه الله في معرض كلامه على حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: ((وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث)) أي: تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بُعاث -وهو حرب كانت بين الأنصار- ولم ترد الغناء المعروف بين أهل اللهو واللعب، وقد رخص عمر في غناء الأعراب وهو صوت كالحُداء"([88])، والشاهد فيه قوله: " وقد رخص عمر في غناء الأعراب وهو صوت كالحداء"، فهذا الذي يرخص في الغناء كما قال الشيخ عادل.
قال الشيخ: وقد تنازع الناس في الغناء منذ القدم، ولن أستطيع في رسالة كهذه أن أنهي الخلاف، وأن أقطع النزاع، ولكني أردت فقط الإشارة إلى أن القول بإباحته ليس بدعا من القول، ولا شذوذاً، بل وليس خروجاً على الإجماع، إذ كيف يكون إجماع على تحريمه، وكل هؤلاء القوم من العلماء الأجلاء أباحوه؟
قلت: نعم تنازع الناس في الغناء وحكمه، فإن الخلاف ليس دليلاً مسوغاً للقول بالإباحة، ولقد أصبح الخلاف في هذا الزمن متكأ كثير من الناس في الاعتماد على الأقوال الشاذة، فأصبح كما قيل: إنه الحمار القصير، بمعنى أن كل إنسان يمتطيه ويركب عليه وما أحسن قول القائل:
وليس كل خلاف جاء معتبرا *** إلا خلاف له حظ من النظر
وما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن تكون العصمة لغير نبيه صلى الله عليه وسلم ومن الخطير الولوع بالغرائب والزلات والتعلق بها، باعتبارها رأي فلان أو فلان ممن يشار إليهم بالبنان، وما زال العلماء وطلاب العلم يحذّرون من مسقطة يجريها الشيطان على لسان فاضل عليم، ولو أن إنساناً أخذ بكل شواذ الأقوال وغرائبها لخرج من الدين وهو لم يخرج بعدُ من أقوال العلماء.
وقد تكلم الشاطبي رحمه الله على مسألة الاحتجاج بالخلاف فقال رحمه الله: "وقد زاد هذا الأمر على قدره الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع وهو عين الخطأ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمداً وما ليس بحجة حجة"([89])، وذكر كلاماً إلى أن قال: "والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، ومن هذا أيضاً جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد ويحتج في ذلك بما روى عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما([90]) مما تقدم ذكره، ويقول: إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل([91])، أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج وما أشبه ذلك، وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة"([92]).
ثم عد رحمه الله هذا المسلك من مسالك الإعراض عن الدليل واتباعه والاعتماد على أقوال الرجال حيث يقول رحمه الله: " والثامن رأى قوم ممن تقدم زماننا هذا -فضلا عن زماننا- اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم، وأهواء من داناهم ومن رغب إليهم في ذلك فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم، أو فتيا تعبدا وغير ذلك، بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسئول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به، زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال: اختلاف العلماء رحمة، ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم، حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز - شذ عن الجماعة أولا - فالمسألة جائزة"([93]).
هذا وإن الواجب على طالب العلم النظر في اختلاف العلماء فيبدأ بتحرير محل النزاع، وذلك بمعرفة جوانب الاتفاق والاختلاف في المسألة، ثم ذكر أقوال العلماء والتثبت من نسبتها لأصحابها، وذكر أدلة كل قول مستوفاة كما ذكر أصحاب كل قول، وبيان وجه استدلالهم بها، ثم مناقشة تلك الأدلة مناقشة علمية وذلك بإيراد ما يرد عليها من اعتراضات، وما يمكن أن يُجاب عنها، ثم اختيار القول الراجح مع بيان سبب الترجيح، يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "والواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول منها، وذلك لا يعدم، فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة، فإذا لم يبن ذلك وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين، فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد، واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله, صلى الله عليه وسلم: ((البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، فدع ما يريبك لما لا يريبك))([94])، هذا حال من لا يمعن النظر"([95])ا.هـ.
ومن أباح الغناء من العلماء فمراده والله أعلم الترنم بالكلام المباح، ومن كرهه أو منع منه فمراده الإكثار منه، أو الترنم بما اشتمل على كلام باطل فاحش، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم، وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى"([96]).
وقال الطبري رحمه الله: "وهذا النوع([97]) من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذي غُنّي به في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَنْهَ عنه، وهو الذي كان السلف يجيزون ويسمعون"([98]).
وقال ابن عبد البر رحمه الله بعد أن تكلم عن غناء الركبان والحداء: "هذا الباب من الغناء قد أجازه العلماء ووردت الآثار عن السلف بإجازته وهو يسمى غناء الركبان وغناء النصب، هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء،... -وذكر كلاماً- إلى أن قال: وقد حدا به صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن رواحة وعامر بن سنان وجماعة؛ فهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء؛ إذا كان الشعر سالما من الفحش والخنى، وأما الغناء الذي كرهه العلماء فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء وإفساد وزن الشعر والتمطيط به طلبا للهو والطرب، وخروجاً عن مذاهب العرب، والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء هم كرهوا هذا النوع من الغناء، وليس منهم يأتي شيئا وهو ينهى عنه"([99]).
وقوله: وكل هؤلاء القوم من العلماء الأجلاء أباحوه، أقول: ثبت عرشك ثم انقش، فإن أغلب من نقلت عنهم أيها الشيخ يقول بعكس ما ذهبت إليه، فهلا حررت النقل ولم تنقل بغير تحقيق علمي رصين.
قال الشيخ: ومن أكبر دلائل إباحته أنه مما كان يفعل إبان نزول القرآن، وتحت سمع وبصر الحبيب صلى الله عليه وسلم، فأقره، وأمر به، وسمعه، وحث عليه، في الأعراس، وفي الأعياد.
قلت: سبحان الله! إن هذا فرية من أعظم الفرى، وقول على الله بغير علم، وقد جاء الوعيد الشديد لمن فعل ذلك فقال رب العزة والجلال: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [سورة النحل:116]، وقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف:33]، وقد تقدم النقل من كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بتحريمه، ثم زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع وأبصر نقول سمع أي غناء وأبصر أي غناء؟ أسمع وأبصر هذا الغناء الذي فيه مجون وسفور ورقص وعري، ودعوة للفاحشة؟ وهل أقره النبي صلى الله عليه وسلم، فأقول لك: أخي المبارك وأعيذك بالله من العناد والهوى، ألم يبلغك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث الزبير رضي الله عنه: ((من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار))([100])، وروي من حديث أنس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، ففي أي كتاب ورد الأمر به، والسماع له والحث عليه؟ (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [سورة البقرة:111]، فعليك أن تتوب إلى الله تبارك وتعالى من هذه الإساءة العظيمة لخير الخلق صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: ومن دلائل إباحته أيضاً أنك لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصا بذلك، فلو قرأت الكتب الستة لن تجد فيها باب تحريم الغناء، أو كراهة الغناء، أو حكم الغناء، وإنما يذكره الفقهاء تبعا للحديث في أحكام النكاح وما يشرع فيه، وهكذا جاء الحديث عنه في أحكام العيدين وما يسن فيهما، ولهذا بوب البخاري رحمه الله: باب سنة العيدين لأهل الإسلام، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أعني حديث الجاريتين وغنائهما بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته.
قلت: هذا الكلام ليس دليلاً على إباحته، أما قوله لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصاً بذلك - أي بالتحريم-، فلو قرأت الكتب الستة لن تجد فيها باب تحريم الغناء، أوكراهته، أو حكم الغناء، فهذا كلام غير صحيح، وكلامه محتمل أمرين إما تلبيس على الناس ومغالطة وتظليل، وإما جهل بتراث الإسلام وكتب السنة والله المستعان، فمن نظر في سنن أبي داود وجد فيه باب في النهي عن الغناء([101])، باب كراهية الغناء والزمر([102])، وفي سنن النسائي الرخصة في الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد([103])، وفي سنن ابن ماجة باب الغناء والدف([104])، وروى تحته حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد الفطر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا))([105])، وروى عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وعن شرائهن وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن"([106]).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [سورة لقمان:6]: "الغناء وأشباهه"([107])، وقال الإمام البيهقي رحمه الله: "باب الرجل يغني فيتخذ الغناء صناعة يؤتى عليه ويأتي له، ويكون منسوبا إليه مشهوراً به معروفا أو المرأة، قال الشافعي رحمه الله: لا تجوز شهادة واحد منهما؛ وذلك أنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، فإن من صنع هذا كان منسوباً إلى السفه وسقاطة المروءة، ومن رضي هذا لنفسه كان مستخفاً وإن لم يكن محرماً بين التحريم"([108]).
وروى البيهقي عن بن عباس رضي الله عنهما في قوله: (وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) [سورة النجم:61]، قال هو: الغناء بالحميرية اسمدي لنا تغني لنا"([109])، وقال ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث الذي بعده:" الغناء ينبت النفاق في القلب"([110])، وعنه رضي الله عنه موقوفاً أنه قال: " الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع"([111])، وسئل القاسم بن محمد عن الغناء، فقال: أنهاك عنه وأكرهه، قال: أحرام هو؟ قال: انظر يا بن أخي إذا ميز الله الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء"([112]).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في الآية: "هو والله الغناء"([113])، فبهذا يسقط احتجاجه، ويتبين بطلان قوله.
قال الشيخ: والرد على أدلة المحرمين ومناقشتها يطول، ولكني أشير إلى نكتة ينبغي أن يتنبه لها المسلم، ولو قلت إنها من قواعد الدين لمن تأمل فلعلي لا أخالف الحق، فإنك لو نظرت في الكتاب والسنة النبوية ستجد أن كل ما أراد الله تحريمه قطعاً نص عليه بنص لا جدال فيه، وهكذا كل ما أوجبه الله، نص عليه نصاً لا جدال فيه، وكل ما أراد أن يوسع للناس ويترك لهم المجال ليفهموا من نصوص كتابه، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم جاء بنص محتمل لقولين أو أكثر، ولهذا اتفق الناس في كل زمان ومكان على عدد الصلوات، وأوقاتها - أصل الوقت - وعلى ركعات كل صلاة، وهيئة الصلاة، وكيفيتها، واختلفوا في كل تفصيلاتها تقريباً، فاختلفوا في تكبيرة الإحرام حتى التسليم، والمذاهب في ذلك معروفة مشتهرة، وهكذا في الزكاة، وفي الصيام، وفي الحج!
فإذا كان الخلاف في أركان الإسلام، مع اتفاقهم على تسميتها، فكيف بغيره، حتى إنهم اختلفوا في النطق بالشهادتين! وليس هذا إلا من توسعة الله تعالى على عباده.
قلت: إن من تأمل أحكام الشريعة الإسلامية يجدها قد بينت أحسن بيان وأكمله، وقد اتفق أهل الإسلام عداء الظاهرية على أربعة أدلة من أدلة الأحكام وهي المعروفة في كتب أصول الفقه:  الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، واختلفوا في أدلة أخرى كالمصلحة المرسلة وشرع من قبلنا والاستحسان، وقول الصحابي، والعُرف...الخ.
ثم إن الفقهاء إذا عرضت عليهم المسألة نظروا في كتاب الله عز وجل فإن وجدوا فيه قضوا به، وإن لم يجدوا نظروا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن وجدوا فيها ونعمت، وإن لم يجدو نظروا هل في المسألة إجماعاً فإن وُجد كان دليلاً، وإن لم يجدوا نظروا هل هناك مسألة فيها شبه بتلك المسألة أو أن العلة فيهما مشتركة.
ثم إذا أردنا أن نطبق هذا القاعدة التي انفردت بها نحتاج أن نلغي كثيراً من الأحكام والأدلة، والقواعد الفقهية([114])، فمن الأدلة التي تلغى الإجماع، وكذلك القياس، وغيرها من الأدلة المختلف فيها، فمثلاً: الحشيش والمخدرات لم يأتِ في القرآن إن الله حرم المخدرات والحشيش، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ألحقت بالخمر وذلك لاشتراك العلة بينهما وهي علة السكر، فالمخدرات فرع والأصل هو الخمر، فيلحق الفرع بالأصل، فقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة المائدة:90]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام))([115])، وحرمت أيضاً من وجه آخر بسبب الضرر.
ثم أيها الشيخ المكرم من سلفك في هذا القول وهذا التقعيد، على فرض صحة كلامك أنه لم يرد فيه نص بالتحريم، ثم أقول لك ما هي فائدة علم أصول الفقه، وطرق الاستنباط.
قال الشيخ: فلو كان تحريم الغناء واضحاً جلياً لما احتاج المحرمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك، وجمع أقوال أهل العلم المشنعة له، وكان يكفيهم أن يشيروا إلى النص الصريح الصحيح ويقطعوا به الجدل، فوجود الخلاف فيه دليل آخر على أنه ليس بحرام بين التحريم.
قلت: تحريم الغناء وضح بحمد الله لمن أنار الله قلبه لاتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما اضطر العلماء لجمع الأدلة على ذلك إلا بسبب ظهور مثل هذه الدعوات التي تبيح ما حرم الله تبارك وتعالى، وقد أشرنا إلى شيء من الأدلة التي فيها دلالة واضحة على التحريم، وتقدمت كذلك أقوال أهل العلم في هذا، ووجود الخلاف فيه ليس دليلا على إباحته فالخلاف وقع في ذات الرب جل وعلا فهل هذا دليل على صحة القول الآخر نعوذ بالله.
قال الشيخ: وإني أقول مثل ذلك يكفي في إثبات حل الغناء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه نصاً، ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له، مع وجود نصوص في تحريم أشياء لم يكن العرب يعرفونها، كالخنزير، وتحدث عن أشياء لم يكونوا يحلمون بها كالشرب من آنية الذهب والفضة، ومنعوا من منع النساء من الذهاب إلى المساجد مع كثرة الفتن في كل زمان.
وهذا دليل من أقوى الأدلة على إباحته حيث كان موجوداً ومسموعاً، ومنتشراً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: هذه قينة([116]) بني فلان، أتراه يعلم أنها مغنية ولم ينهها عن الغناء، ولم يحذر من سماعها، بل على العكس من ذلك فقد قال لعائشة: أتحبين أن تغنيك! فسبحان الله كيف تعارض مثل هذه النصوص بالمشتبهات من نصوص التحريم، ثم يعاب على المتمسك بالنص الواضح الصريح، الصحيح، ويرمى بالشذوذ والجهل، وينصح بالتوجه إلى سوق الخضار، ويتمنى أن يسجن ويقطع لسانه، وكل من قرأ القرآن وتدبره، علم أن أصحاب الباطل، ومن لا يملك دليلاً أو حجة يدمغ بها الحجة الواضحة الدامغة لا بد له أن يلجأ إلى التفرعن، (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) [سورة غافر:29]، (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [سورة الشعراء:29]، فدليل عجز فرعون مقارعة موسى عليه السلام في الحجة، ووضح حجة موسى، ألجأ فرعون إلى التهديد بالسجن والقتل.
وهكذا كل من لا يملك حجة، ولا دليلاً يقارع به البينات لا بد أن يلجأ إلى الحيدة، والتركيز على شخصية حامل الدليل، لا على الدليل نفسه، وانظر ذلك في كل قصص الأنبياء، كل من كفر وعاند لم يأت ببنية واحدة على عناده واستكباره سوى اتهام الرسول بالجنون أو السحر والكذب والكهانة، (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *   أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) [سورة الذاريات:52-53].
قلت: رمتني بدائها ونسلت، هانحن قد أوردنا جملة من الأدلة التي تدل على التحريم، والمؤمن المتبع يكفيه دليلٌ واحدٌ، ثم إنني أقول لك: ما هو الغناء التي كانت تغني به تلك القينة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: أتحبين أن تغنيك، أهو دعوة إلى السفور والزنا؟! أم ماذا حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يرضاه لأهله، ثم بالله عليك هل النصوص المتقدمة من المتشابه، وإنني أقول: سبحان الله كيف تعارض النصوص المتقدمة بمثل هذه الأفهام، ثم ترمي من تمسك بها بأنه على باطل، وأنه يلجأ إلى التفرعن، فهذه أدلة دامغة لكل شبهة داحضة قال الله: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [سورة الإسراء:81]، ذكرتها نصحاً وتبيناً (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)  [سورة الأنفال:42]، قارعت الدليل بالدليل، وكشفت اللثام عن كل شبهة باطلة قدر المستطاع، وإنني في شوقٍ شديد لبيان أدلتكم التي فيها الدلالة الواضحة الصريحة الصحيحة التي تبيح الغناء والمعازف وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم ذكر عدداً ممن زعم أنهم يبيحون الغناء إن صح عنهم، وبعضهم قد صح لكنهم من الصوفية،  وإباحة السماع معروف عند الصوفية، وقسم منهم ليسوا من أهل العلم أصلاً وإنما هم من أهل الأدب والتاريخ، وليت شعري هل إذا عمد شخص فجمع أسماء من مدح الخمر من كتب التاريخ والأدب أفيكون ذلك دليلاً يحتج به على حلها؟!!
ثم هل يريد أن ينقض الإجماع الذي نقله الراسخون من أهل العلم بأمثال هؤلاء؟!
وبعضهم لا يصح النقل عنهم لكونه لم يحقق نسبة القول إليهم، ومن صح عنه ذلك فمراده الحُدَاء كما تقدم، ولو صح عنهم جميعاً أنهم قالوا بإباحته وورد دليل واحد من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم لقلنا سمعنا وأطعنا وانقدنا لكلام ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وتباً وسحقاً لكل كلام خالفهما ولو قال به من قال، فيكفي دليل واحد من الأدلة المتقدمة لإبطال كل قول خالفها، ثم إن القائلين بالتحريم أضعاف أضعاف هذه الأسماء التي ذكرها، والقائلون بالتحريم هم كبار العلماء على مر العصور، ثم إنه أغفل المنكرات التي تصاحب الغناء في الوقت الحاضر، مثل الغزل الفاحش، ووصف الخُدود والنُهود والخُصُور، وإثارة الغرائز، والاختلاط المحرم، بل ربما يكون الغناء من امرأة شبه عارية مع رقص وتمايل وغير ذلك، فهل هؤلاء العلماء الذين نسب إليهم هذا القول إن صح يُجيزون هذا؟
وهذا لا يجيزه الشيخ، لكن العامة سينزلون كلامه على الغناء الموجود، فهم لا يعرفون إلا هذا الغناء الفاحش المنتشر في هذه الأزمنة، ثم إن العلماء كانوا يحذرون الناس مِن مَن يبيح الغناء ويفتي بذلك، قال ابن عبد البر رحمه الله: "كان العلماء قديماً وحديثاً يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف، ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم في النبيذ الشديد، ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء"([117]).
وذكر شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستقامة رداً على من يجيز الغناء أسوق بعضه إتماماً للفائدة قال رحمه الله: " قال أبو القاسم وقد سمع الأكابر الأبيات بالألحان فمن قال بإباحته مالك بن أنس وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء فأما الحداء فإجماع منهم على إباحته.
قلت: هذا النقل يتضمن غلطا بإثبات باطل وترك حق، وقد تبع فيه أبا عبد الرحمن على ما ذكره في مسألة السماع وذلك أن المعروف عند أئمة السلف من الصحابة والتابعين مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم، وعن أئمة التابعين ذم الغناء وإنكاره، وكذلك من بعدهم من أئمة الإسلام في القرون الثلاثة حتى ذكر زكريا بن يحيى الساجي في كتابه الذي ذكر فيه إجماع أهل العلم واختلافهم فذكر أنهم متفقون على كراهته إلا رجلان، إبراهيم بن سعد من أهل المدينة وعبيد بن الحسن العنبري من أهل البصرة، وأما نقلهم لإباحته عن مالك وأهل الحجاز كلهم فهذا غلط من أسوأ الغلط، فإن أهل الحجاز على كراهته وذمه، ومالك نفسه لم يختلف قوله وقول أصحابه في ذمه وكراهته بل هو من المبالغين في ذلك حتى صنف أصحابه كتباً مفردة في ذم الغناء والسماع، وحتى سأله إسحاق بن عيسى الطباع عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وقد ذكر محمد بن طاهر في مسألة السماع حكاية عن مالك أنه ضرب بطبل وأنشد أبياتاً، وهذه الحكاية مما لا يتنازع أهل المعرفة في أنها كذب على مالك، وكذلك الشافعي لم يختلف قوله في كراهته، وقال في كتابه المعروف بأدب القضاة: الغناء لهو مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وقد قال عن السماع الديني المحدث: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، وذكر كلاماً إلى أن قال: وأما فقهاء الكوفة فمن أشد الناس تحريما للغناء ولم يتنازعوا في ذلك، ولم يكونوا يعتادونه كما كان يفعله أهل المدينة، بل كانوا بالنبيذ المتنازع فيه، وقد سئل مالك عما يترخص فيه بعض أهل المدينة من الغناء فقال: لا إنما يفعله عندنا الفساق، وقد سئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال: إذا ميز الله الحق من الباطل من أي قسم يكون الغناء.
ثم قال أبو القاسم: وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك وروى عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: إذا أتى بك يوم القيامة ويؤتى بحسناتك وسيئاتك ففي أي الجنبين يكون سماعك فقال: لا في الحسنات، ولا في السيئات يعني أنه من المباحات.
قلت: ليس ابن جريج وأهل مكة ممن يعرف عنهم الغناء بل المشهور عنهم أنهم كانوا يعيرون من يفعل ذلك من أهل المدينة، وإنما المعروف عنهم المتعة والصرف ثم هذا الأثر وأمثاله حجة على من احتج به، فإنه لم يجعل منه شيئاً من الحسنات ولم ينقل عن السلف أنه عد شيئا من أنواعه حسنة فقوله على ذلك لا يخالف الإجماع، ومن فعل شيئا من ذلك على أنه من اللذة الباطلة التي لا مضرة فيها ولا منفعة، فهذا كما يرخص للنساء في الغناء والضرب بالدف في الأفراح مثل قدوم الغائب، وأيام الأعياد بل يؤمرون بذلك في العرسات كما روى اعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف وهو مع ذلك باطل كما في الحديث الذي في السنن أن امرأة نذرت أن تضرب لقدوم رسول الله ص فلما قدم عمر أمرها بالسكوت وقال إن هذا رجل لا يحب الباطل وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امرأته فإنهن من الحق والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك.
وهذه نفوس النساء والصبيان فهن اللواتي كن يغنين في ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ويضربن بالدف وأما الرجال فلم يكن ذلك فيهم بل كان السلف يسمون الرجل المغنى مخنثا لتشبهه بالنساء ولهذا، روى اقرأوا القرآن بلحون العرب وإياكم ولحون العجم والمخانيث والنساء.
ولهذا لما سئل القاسم بن محمد عن الغناء فقال للسائل: يا ابن أخي أرأيت إذا ميز الله يوم القيامة بين الحق والباطل ففي أيهما يجعل الغناء فقال في الباطل، قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال، فكان العلم بأنه من الباطل مستقرا في نفوسهم كلهم وإن فعله بعضهم مع ذلك إذ مجرد كون الفعل باطلاً إنما يقتضي عدم منفعته لا يقتضي تحريمه إلا أن يتضمن مفسدة... إلى آخر ما قال رحمه الله"([118]).
وفيما يلي بإذن الله سوف أنقل بعضاً ممن نقل عنهم الشيخ عادل جواز السماع وهو مخطئ في ذلك، والسبب في خطئه والله أعلم إما يكون بسبب اعتماده في النقل عن ابن طاهر([119]) في كتابه السماع، أو النقل عن الأدفوي([120])، أو اعتمد على من نقل عنهما كالقرضاوي من المعاصرين، ولم يكلف نفسه عناء البحث والتدقيق والتحقيق فيما نقل، فنسب القول بجوازه إلى بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ويقول في ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ونقل ابن طاهر في كتاب السماع الجواز عن كثير من الصحابة؛ لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النَصْب المشار إليه أولا"([121])، وفي كتاب كف الرعاع لابن حجر الهيتمي رحمه الله كلام جميل، وتفنيد لأغلب من نقل عنهم الشيخ عادل فليرجع إليه فإنه مفيد.
ثم بعد ذلك قال متهجماً ساباً شاتماً للعلماء والأئمة وأنهم مصابون بجرثومة التحريم، وإليك نص كلامه: قال أبو عبد الإله: فبهذا يتبين لك أنه حين كثر الجدل في هذه الأيام حول ما أبديته من رأي في حل الغناء، أني لم آت بما لم تأت به الأوائل، بل إن الحدث قد  كشف عوار أمة تحمل لواء النص، وتزعم اتباعه، وتنهى عن التقليد المقيت، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص، وتقف من النص موقف المخصص، والمتحكم، لأنه لم يوافق هواها!
وكشف الحدث أيضا أن هناك فئة كبيرة من علمائنا وطلبة العلم منا مصابون بجرثومة التحريم، فلا يرتاح لهم بال إلا إذا أغلقوا باب الحلال، وأوصدوه بكل رأي شديد، يعجز عن فكه كل مفاتيح الصلب والحديد، لأنه يغلق العقول فلا تقبل إلا ما وافقها، ولا تدخل رأيا مهما كان واضحا جلياً، ومهما كان معه من نصوص الوحيين، لأنها اعتقدت واقتنعت بما رأت، ولست أسعى في هذا المقال إلى أن أقنعهم برأيي، ولكني أريد أن أثبت للمنصف أني لم أقل ما قلت عن هوى، ولم أبح حراما كما زعم المخالفون، ولست مبتدعا قولا أخالف به إجماع الأئمة والعلماء!.
وأقول: إن العلماء هم ورثة الأنبياء، رفع الله قدرهم وأعلى منزلتهم فقال سبحانه في كتابه الكريم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة المجادلة:11]، وما ذلك إلا لما يحملونه من النور والهدى، ولم يأمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال سبحانه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [سورة طـه:114]، وما ذلك إلا لما له من أثر في حياة البشر، والمجتمع.
العِلْمُ يَجْلُو الْعَمَى عَنْ قَلْبِ صاحِبِهِ *** كَما يُجْلِي سَوَادَ  الظُّلْمَةِ  القَمَرُ
فَلَولا العِلْمُ ما سَعِدَتْ  نُفُوسٌ*** وَلا   عُرِفَ الحَلالُ وَلا الحَرامُ
فَبِالعِلْمِ النَّجاُة مِنَ المَخَازِي***وَبِالجَهْلِ المَذَلَّةُ وَالرُّغامُ
وفضل سبحانه المتعلم على الجاهل ونفى المساوة في ذلك فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [سورة الزمر:9]، حتى أن الله تبارك وتعالى فضل الكلب المعلم على غيره فأباح صيده فقال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [سورة المائدة:4]، والعلم النافع هو الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، العلم النافع هو الذي يعرفك بالله تبارك وتعالى قال الله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [سورة الروم:56]، ويقول سبحانه ذاماً العلماء الذين لا يعملون بعلمهم، أو الذين ينحرفون عن علم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الأعراف:175-176]، فمثله بالكلب، وقال عن اليهود: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [سورة الجمعة:5]، فمن ضل  من هذه الأمة عن علم ففيه شبه باليهود، ومن ضل عن جهل ففيه شبه بالنصارى.
فالعلم هو مفتاح كل خير، وهو الوسيلة إلى أداء ما أوجب الله تبارك وتعالى، وترك ما حرمه، فإن العمل نتيجة العلم لمن وفقه الله تبارك وتعالى وهو مما يؤكد العزم على كل خير، فلا إيمان ولا عمل ولا كفاح ولا جهاد إلا بالعلم، فالأقوال والأعمال التي بغير علم لا قيمة لها ولا نفع فيها بل تكون لها عواقب وخيمة، وقد تجر إلى فساد كبير .
وإنما يعبد الله تبارك وتعالى، ويؤدى حقه وينشر دينه وتحارب الأفكار الهدامة والدعوات المضللة والأنشطة المنحرفة بالعلم المُتلقى عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في السنة في فضل العلم أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن([122])، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر))([123])، فهذه بعض فضائل العلم والعلماء، فينبغي تعظيمهم ورفع قدرهم واحترامهم وعدم انتقاصهم، وأنا أعلم أيها الشيخ الجليل أنك تعلم ذلك، ومع ذلك صدرت منك كلمات شنيعة في حق العلماء وطلبة العلم، وعليك أن تعلم أنَّ القدح والطعن في العلماء أمرٌ خطيٌر وعظيمٌ، وذلك لما يحملونه في صدورهم من تعاليم الشرع الحكيم والدين الحنيف، ولما يتبع ذلك من آثارٍ سلبيةٍ، ولذلك لما استهزأ رجلٌ من المنافقين بالصحابة رضي الله عنهم قائلاً: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء" أنزل الله عزَّ وجَّل: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [سورة التوبة:65-66]([124]).
وفي هذه الآية دلالةٌ قويةٌ واضحةٌ، وتحذيرٌ شديدٌ من الاستهزاء بالله ورسوله، وبشعائر الله وعلماء الأمة، ولو كان على سبيل اللعب والهزل.
فكيف يُرمى العلماء بأنهم صحف سطرت، وأنهم ابتلو بجرثومة التحريم، وأنهم يحملون راية أبي جهل، وغير ذلك.
يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل"([125]).
وللإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر كلمةٌ ساميةٌ يقول فيها: " وأعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم والتناول لأعراضهم بالزور والإفتراء مرتع وخيم"([126])، وقال ابن الحاج رحمه الله": "لا شك أنَّ هذا الذي ذكره من بذاءة اللسان وهي ممنوعةٌ في حق آحاد عامة الناس، فكيف بها في حق العلماء العاملين ورثة الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم"([127]).
ولهذا فإنَّ الكلام والطعن في أهل العلم ليس طعناً فيهم ولكنه طعناً وقدحاً فيما يحملونه، وقد سئل الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن الذين يقعون في أهل العلم ويتطاولون عليهم فقال: "الذي أرى أنَّ هذا عملٌ محرَّمٌ، فإذا كان لا يجوز لإنسانٍ أنْ يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالماً فكيف يسوغ له أنْ يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟!والواجب على الإنسان المؤمن أنْ يكفَّ لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)  [سورة الحجرات:12]، وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرّح العالم فسيكون سبباً في ردِّ ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال ردِّ الحق وإثمه على هذا الذي جرّح العالم، لأنَّ جرح العالم في الواقع ليس جرحاً شخصياً بل هو جرحٌ لإرث محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم، وهو موروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يثقون بشيءٍ من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح"([128]).
وبعد ما تقدَّم من بيان خطر القدح في العلماء، ينبغي أن نعلم أنا لا ندَّعي العصمة لهم، وعدم الوقوع لأحدهم في الخطأ، فهم بشرٌ يخطئون ويصيبون، وهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر و الأجرين ، مصداقاً لحديث عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ))([129]).
ولقد بيَّن الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله ما يتعلق بنصح العالم فقال :" وإذا كان مراد الرادِّ على العالم إظهار عيبه، وتنقصه، وإظهار قصوره في العلم، ونحو ذلك، كان محرماً، سواءٌ كان ردُّه ذلك في وجه من ردَّ عليه أو في غيبته، وسواءٌ كان في حياته أو في موته، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه، وتوعَّد عليه من الهمز واللمز، وداخلٌ أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ))([130])، وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم، وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم"([131])، وهذا في شأن العالم إذا أخطأ، فكيف إذا كان الطاعن فيهم هو المخطئ المجانب للصواب وهم الذين على الحق.
وإنه من عرف قدر العلماء وأثنى ركبتيه في مجالسهم، ونهل من الدر الذي يخرجونه لتلاميذهم في مجالس العلم، للن يصدر منه مثل هذا الكلام الذي يقشعر منه جلد الإنسان، ثم أقول: الله أعلم بمن الذي كُشف عواره في هذا الحدث.
وأقول مذكراً لك أيها الشيخ: ألم تعلم أنك مسئول عن كل كلمة تقولها، أما قرأت قول الله: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)  [سورة ق:18]، وقول الله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)  [سورة النور:24]، وقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق))([132])، وفي رواية مسلم: ((...أبعد ما بين المشرق والمغرب))([133])، ثم ألم تقل في كلامك المتقدم: وكل من قرأ القرآن وتدبره، علم أن أصحاب الباطل، ومن لا يملك دليلاً أو حجة يدمغ بها الحجة الواضحة الدامغة لا بد له أن يلجأ إلى التفرعن، (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)، إلى آخر ما قلته في المقطع المتقدم، وأراه منطبقاً عليك الآن، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم قال الشيخ: فعلى هذا فإن الذي أدين الله تعالى به، هو أن الغناء حلال كله، حتى مع المعازف، ولا دليل يحرمه من كتاب الله ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكل دليل من كتاب الله تعالى استدل به المحرمون لا ينهض للقول بالتحريم([134]) على القواعد التي أقروها، واعتمدوها، كذا لم يصح من سنة نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - شيء يستطيع المرء أن يقول بأنه يحرم الغناء بآلة أو بدون آلة، وكل حديث استدل به المحرمون إما صحيح غير صريح، وإما صريح غير صحيح، ولا بد من اجتماع الصحة والصراحة لنقول بالتحريم.
قلت: مهلاً أيها الشيخ المبارك، أتفخر بأنك حللت المعازف والغناء، وزعمت أن لا دليل ينهض للقول بالتحريم، وأقول لك مذكراً لك بقول الله وأعلم أنك تحفظها لكن ربما غابت عنك: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)  [سورة النحل:116]، وقد تقدم بيان الأدلة الصريحة الصحيحة في تحريم ذلك.
ثم إن الإجماع قائم على تحريم المعازف والملاهي، فقد نقل الإجماع على ذلك الإمام البغوي رحمه الله فقال: "واتفقوا على تحريم المزامير الملاهي والمعازف"([135])، وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: "آلة اللهو كالطنبور، والمزمار...آلة للمعصية بالإجماع"([136])، وقال ابن القيم رحمه الله: "أصوات المعازف التي صح عن النبي تحريمها، وأن في أمته من سيستحلها بأصح إسناد، وأجمع أهل العلم على تحريم بعضها، وقال جمهورهم: بتحريم جملتها"([137]).
وعليك أيها القارئ الكريم أن يلاحظ تلك التلبيسات، والشبهات والطعن في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بأنها ضعيفة وموضوعة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال الشيخ: ثم أنبه إلى أني قد قرأت أقوال المحرمين قبل، وبعد، وكنت أقول به([138])، ولي فيه خطبة معروفة، ورجعت عن القول بالتحريم لما تبين لي أن المعتمد كان على محفوظات تبين فيما بعد ضعفها، بل بعضها موضوع ومنكر، وعلى أقوال أئمة، نعم نحسبهم والله حسيبهم من أجلة العلماء، ولكن مهما كان قول العالم فإنه لا يملك التحريم ولا الإيجاب، إنما ذلكم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم.
قلت: سبحان الله!! القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، ولو أنك بقيت على ما كنت عليه لكان خيراً لك، ثم إنني أقول للقارئ الكريم وللشيخ المبارك أتلك الأدلة المتقدمة في أول الرسالة من القرآن والسنة منها الضعيف والموضوع والمنكر، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [سورة النمل:64]، والعلماء كما قلت لا يحرمون حلالاً ولا يحلون حراماً، وإنما ذلك لله تبارك وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقد حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الغناء والمعازف أفلا تتبعون وتُسِّلمون فتسلمون.
قال الشيخ: ثم أنبه إلى أني لا أريد من الناس أن يغنوا ويتركوا القرآن والسنة، كما يشغب بعضهم، حاشا لله أن آمر بذلك أو أحث عليه، ولكني أقول قولي هذا ديانة وبياناً لحكم سئلت عنه فأبديت رأيي.
قلت: هذا فيما يظهر من كلامك، وإن كنت كما قلت فما المصلحة من تلك الفتوى أما قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: ((من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء))([139])، فكم من الناس من طار بها فرحاً؟! وكم من الناس من مستمعين المعازف والغناء سخروا منها، بل قال بعضهم: نحن نسمع المعازف والغناء ونعترف بأنها محرمة ونحن عصاة ونستغفر الله، فبالله عليك أيها الشيخ ماذا ستقول بين يدي الله تبارك وتعالى يوم العرض عليه حين يقول مستمع المعازف والغناء يارب أفتاني بحلها الكلباني؟
شيخنا المبارك الرجوع إلى الحق منقبة عظيمة، والحق أحق أن يتبع، نأمل منك الرجوع والإذعان لقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الشيخ شاتماً لامزاً طلبة العلم والعلماء الأجلاء الذين جعلوا الدليل شعارهم ورايتهم، فانقادوا وحرموا ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكلام يحمل في طياته معان خطيرة لمن تأملها فقال: ولكني أضغط منبها على أن بعض العلماء عندنا، وبعض طلبة العلم إنما هم صحف سطرت فيها معلومات لا تمحوها الحقيقة، ولا يغيرها الدليل، منطلقة من قول السابقين: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [سورة الزخرف:22]، وحاملة شعار أبي جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب.
وأقول: حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما أقبح هذا الكلام وأشنعه، فهذه الآية نزلت في المشركين، فلماذا حملت على العلماء والدعاة، القائلين بالتحريم؟! نعوذ بالله من الهوى.
ثم قال الشيخ: ولست متهما كل من خالفني بذلك، أبرا إلى الله تعالى، ولكني أشير على من حكر القول فيما يراه، وظن أنه يحمل الحق وحده، وأن كل من خالفه فإنه جاهل بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، متناسيا أن الله تعالى وهو الذي لم يشر إلى الغناء ولو إشارة بتحريم، قد حرم الهمز واللمز بل توعد عليهما بالويل، والنار، دلالة على شدة تحريمهما وأنهما من كبائر الذنوب.
قلت: سبحان الله، أليست هذه تهمة واضحة وسب وهمز ولمز منك لمن قال بما صح الدليل به، وعلى القارئ الكريم أن يلحظ تلك الكلمات التي يشمئز منها الإنسان، فعليك أن تتقي الله تبارك وتعالى وتحفظ لسانك عن السباب والهمز والمز، وتعلم أنك مسؤل عن ذلك، فما أدري ما حملك على هذا!!، فأعد للسؤال جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
ثم قال الشيخ خاتماً بنيانه الذي شيده بتحليل الغناء فكان كمن بناه على شفا جرف هار: فسبحان الله كيف تعمى القلوب فتبصر تحريم الغناء، وتحشد أدلة لذلك، وتتجاهل العمل بما نص الكتاب والسنة على تحريمها([140]) دون ارتياب، وما ذاك إلا لأن القوم يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير علم؟
قلت: سبحان الله، القلوب المبصرة أبصرت الأدلة التي تحرم الغناء، فأذعنت وانقادت، فكفت أسماعها عن الحرام، وأبصار عميت عن هدي ربها فاتبعت هواها فعمدة لتضعيف أدلة القائلين بالتحريم، فاضطر المبصرون بأن ينيروا الطريق لكل من سلك في هذه الطريق المظلمة دفاعاً وكشفاً عن نقاب تلك الشبه الباطلة، فجمعوا الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله التي تدل على التحريم ليعذروا عند ربهم، ونقلوا كلام العلماء والأئمة على ذلك اضطراراً، حين ظهر في أوساط المجتمعات من يفتخر ويزعم أن الغناء والمعازف حلال كلها، ولا دليل على التحريم، والحط من العلماء وانتقاصهم، وإلا كنا في غنىً عن ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأخيراً: أهمس في أذنك أيها الشيخ المبارك قائلاً: أيها الشيخ إنك قد عُرفت بتلاوة القرآن والصوت الخاشع الحسن، أفتحب أن تعرف بالمحلل والمروج للغناء، بعد أن عُرفت بالقرآن وأعيذك بالله من ذلك، نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا منقادين للحق مذعنين له وأن يجنبنا الهوى فقد سماه سبحانه إلهاً يعبد فقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية:23]، ونسأل الله تبارك وتعالى الإخلاص في القول والعمل، أن يجنبنا الزلل في القول والعمل.
هذا ما تيسر لي جمعه نصحاً وتبيناً، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخاتمة
الحمد لله الذي وفق وأعان، وأرشدنا وهدانا لطريق الخير، وفي نهاية المطاف آن الأوان لأن أطوي الأوراق بعد أن سجلت فيها بعض ما وقفت عليه من كلام أهل العلم في بيان مسألة الغناء والمعازف، وذكرت الأدلة على تحريمها، ثم وقفت على بعض أدلة الشيخ عادل التي استدل بها على حل المعازف والغناء وقد أبعد في ذلك النجعة، وخالف إجماع الأمة، ومن العجيب استدلاله على ذلك بأدلة لم يسبق إليها، بعد أن ترك أدلة الكتاب، وزعم أنها ليست صريحة في التحريم، وترك أدلة السنة زاعماً أن ما صح منها غير صريح، وما كان صريحاً فهو غير صحيح، ومن تلك الأدلة التي اعتمدها الشيخ وهي من أغربها ما سطره في افتتاح مقالته ما خلاصته: أن محبة الصوت الحسن من الغريزة الإنسانية التي لا يمكن أن تأتي الشريعة بمحاربتها؛ ويريد أن يفرع على هذا حل الغناء! وغفل عن أن المنع في الغناء لم يكن كبحاً للغرائز، وإنما لوجود معارض أرجح؛ وهو ما يتضمنه هذا الغناء من المنكرات، أو ما يؤدي إليه من المنكرات.
ومنها: استدلاله بوجود الخلاف والنزاع في المسألة، فيكون ذلك دليل على الحل.
ومنها: جعله تبويب المحدِّثين دليل إثبات الأحكام، وانتفاءها دليل نفيها، وزعم أنه لا يوجد في كتب السنة باب تحريم الغناء، أو كراهة الغناء، أو حكم الغناء، وإنما يذكره الفقهاء تبعا للحديث في أحكام النكاح وما يشرع فيه، وبينا بطلان هذا القول.
ومنها: جعله حشد النصوص على تحريم الغناء من هنا وهناك من الأدلة الجلية على عدم حرمته، ونسي أو تناسى أنهم ما فعلوا ذلك إلا اضطراراً حين ظهرت مثل هذه الدعوات.
وغير ذلك من الأخطاء الأصولية التي تُنبئ أن الشيخ عادلاً كأنه لم يقرأ كتاباً في أصول الفقه، ولم يثن ركبتيه بين يدي العلماء الأفاضل مما أدى به قلمه للنيل منهم، والطعن فيهم، فما أحوجنا أيها الشيخ المبارك إلى الجلوس عند هؤلاء العلماء وأن نثني الركب في مجالسهم لننهل من علومهم.
وأخيراً: إن الرجوع إلى الحق منقبة عظيمة، وميزة شريفة، والحق أحق أن يتبع، وفي اتباع الحق السلامة والنجاة بين يدي الله من المخاوف.
فيا أيها القارئ الكريم: فما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله، ولا تلتفت إلى قائله، فلك غنمه وعليه غرمه، بل وانظر إلى ما قال لا إلى من قال،
وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم يأل جهد بالإصابة ويأبى الله إلا أن ينفرد بالكمال وقد قيل:
إن تجد عيباً فسد الخلالا           جل من لا عيب فيه وعلا.
وإنني أعتذر كل الإعتذار إذا صدرت مني كلمة قاسية في حق الشيخ الفاضل، ووالله وتالله ما قصدي الإساءة إليه، وكتبت هذه الورقات نصحاً وتبياناً حين رأيت تلك المقالة في الموقع، خشية أن يغتر بها بعض الناس.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
([1]) تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير(2/32)، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، سنة النشر:1420هـ، 1999م.
([2]) رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه برقم (2823).
([3]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (10/543)، دار المعرفة.
([4]) غريب الحديث، للإمام للخطابي(1/656)، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم العزباوي.
([5]) انظر: جامع البيان في تأويل القرآن (20/127)، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي الطبري، تحقق  أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة النشر:1420هـ - 2000م.
([6]) انظر: تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير (6/331).
([7]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/432-433)، تخريج الشيخ المحدث/ محمد ناصر الدين الألباني، تحقيق/ على بن حسن الحلبي الأثري، دار ابن الجوزي.
([8]) إغاثة اللهفان (1/430).
([9]) انظر: المستدرك على الصحيحين، للإمام الحاكم (2/ 283).
([10]) إغاثة اللهفان (1/433).
([11]) جامع البيان في تأويل القرآن (17/490)، للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة النشر:1420هـ - 2000م.
([12]) الجامع لأحكام القرآن، للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي،(10/290)،  تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط2، سنة النشر:1384هـ - 1964م.
([13]) تفسير الجلالين (372)، للإمامين جلال الدين محمد بن أحمد المحلي، وجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الحديث - القاهرة، ط1.
([14]) تفسير القرآن العظيم (6/130).
([15]) انظر: جامع البيان في تأويل القرآن للإمام الطبري (19/313)، والجامع لأحكام القرآن (13/80).
([16]) جامع البيان في تأويل القرآن (19/314).
([17]) المصدر السابق (19/315).
([18]) رواه البخاري ، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، برقم (5268).
([19]) مجموع الفتاوى (11/535).
([20]) الإمام ابن حزم رحمه الله إمام مجتهد قال ذلك بما يدين الله تعالى به، والأولى أن لا تقال فيه مثل هذه الكلمة، والمجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، لم يقل ذلك تعصباًن وإنما قاله بما أداء إليه اجتهاده رحمه الله .
([21]) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر(2/903)، للإمام ابن حجر الهيتمي، تحقيق: مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطفى الباز، المكتبة العصرية، سنة النشر:1420هـ - 1999م.
([22]) رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى برقم (21516).
([23]) رواه أبو داود برقم (4039)، للإمام سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.
([24]) نزهة الأسماع، للإمام الحافظ ابن رجب (39).
([25]) تغليق التعليق على صحيح البخاري (5/17-19)، للحافظ أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، المكتب الإسلامي، دار عمار - بيروت، ط1، سنة النشر: 1405هـ.
([26]) مقدمة ابن الصلاح (68)، لأبي عمرو ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، دار الفكر - سوريا، سنة النشر:1406هـ - 1986م.
([27]) إغاثة اللهفان (1/465-466).
([28]) انظر: المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي (49).
([29]) انظر: المقنع في علوم الحديث (150).
([30]) شرح التبصرة والتذكرة (1/45).
([31]) رواه الترمذي ، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، برقم (1005)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5194)، وقال في السلسلة الصحيحة برقم (2157): "فالظاهر أنه يعني أنه حسن لغيره لطرقه".
([32]) رواه الإمام الترمذي برقم (1005)، وقال: هذا حديث حسن، والبيهقي بنحوه في السنن الكبرى برقم (6943)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (427)، وصححه في صحيح الجامع برقم (5194).
([33]) الاستقامة (1/292).
([34]) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/426).
([35]) السلسلة الصحيحة برقم (2203).
([36]) رواه الإمام أحمد في المسند برقم (6547)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (1708)، وفي صحيح الجامع برقم (1747).
([37]) السنن الكبرى للبيهقي (5/68)، برقم (8961)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز - مكة المكرمة، سنة النشر: 1414هـ، وذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس (289)، تحقيق: السيد الجميلي، وإسناده صحيح.
([38]) رواه أبو داود برقم (4924)، وأحمد في المسند واللفظ له برقم (4535)، وقال محققوه: حديث حسن، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/163)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، ط1، سنة النشر: 1968م، وصححه الألباني في صحيح أبي داوود برقم (4116)، وفي تحريم آلات الطرب (116)، مكتبة الدليل، ط1، سنة النشر:1416هـ.
([39]) الجامع لأحكام القرآن (10/290)، للإمام القرطبي.
([40]) انظر: إغاثة اللهفان (1/448).
([41]) انظر: المصدر السابق (1/441).
([42]) الجامع لأحكام القرآن (14/52).
([43]) المصدر السابق (14/56)، وبهذا يتبين خطأ الشيخ عادل بنسبة الجواز إليه.
([44]) انظر: إغاثة اللهفان (1/415).
([45]) انظر: الكافي لابن عبد البر في فقه أهل المدينة (2/756).
([46]) إغاثة اللهفان (1/412).
([47]) المصدر السابق(1/411-413)، مختصراً.
([48]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ لابن رجب (6/83)، تحقيق: أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، دار ابن الجوزي، السعودية، الدمام، ط2، سنة النشر:1422هـ، فما يقول الشيخ عادل في هذا الكلام الصريح من هذا الإمام بتحريمه له، ونقل على ذلك الإجماع، فكيف ينسب إليه القول بالجواز.
([49]) الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي(14/55).
([50]) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/577)، دار الوفاء.
([51]) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/569).
([52]) المصدر السابق (10/417).
([53]) المصدر السابق (11/568).
([54]) انظر: إغاثة اللهفان (1/413-416)، بتصرف يسير.
([55]) إغاثة اللهفان (1/434).
([56]) المصدر السابق (1/408-409).
([57]) القصيدة النونية للإمام ابن القيم.
([58]) إغاثة اللهفان (1/445-446).
([59]) نزهة الأسماع في مسألة السماع، للحافظ ابن رجب الحنبلي(78).
([60]) رواه البخاري برقم (909)، ومسلم برقم (892).
([61]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر (2/443)، بتصرف يسير.
([62]) مدارج السالكين، لابن القيم الجوزية (1/493).
([63]) تلبيس إبليس، لابن الجوزي (292).
([64]) نقل ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/442).
([65]) رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، برقم (1145).
([66]) رواه ابن ماجة من حديث ابن عباس ب برقم (1904)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (11647)، بتحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة.
([67]) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (11/565).
([68]) سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي (6/198)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للإمام أبي نعيم الأصبهاني (3/32)، دار الكتاب العربي - بيروت، ط4، سنة النشر: 1405هـ.
([69]) الجمع بين الصحيحين، للإمام محمد بن فتوح الحميدي، تحقيق د: على حسين البواب، دار ابن حزم، ط1، (1/7) سنة النشر: 1419هـ.
([70]) تفسير القرطبي (9/210).
([71]) رواه مسلم برقم (2822)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([72]) انظر: فتح الباري، للحافظ ابن رجب الحنبلي (6/82).
([73]) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (11/573).
([74]) المصدر السابق (11/532).
([75]) إغاثة اللهفان (1/438).
([76]) روي في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه ومعهن أم سليم فقال: ((ويحك يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير)) رواه البخاري، برقم (5797)، ومسلم برقم (2323).
([77]) إغاثة اللهفان (1/442-443).
([78]) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، برقم (4761)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (793)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
([79]) رواه أبو داود برقم (1468)، وابن ماجة برقم (1342)، والنسائي برقم (1015)، وأحمد في المسند برقم (18494)، وقال محققوه: إسناده صحيح، كلهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (771)، وفي صحيح الجامع برقم (3580).
([80]) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك:13-14]، برقم (7089)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([81]) سبق تخريجه.
([82]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 488- 491)، للإمام ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي - بيروت، ط2، 1393هـ - 1973م، بتصرف يسير.
([83]) رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (8964)، تحقيق: محمد عبد القادر عطاء.
([84]) رواه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (13956)، تحقيق: كمال يوسف الحوت.
([85]) انظر: تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر (1/181)، دار الفكر - بيروت، ط1، سنة النشر:1404هـ، بتصرف.
([86]) انظر: مجموع فتاوى ابن باز (26/375-376).
([87]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (4/560).
([88]) النهاية في غريب الأثر، لابن الأثير (3/392).
([89]) الموافقات في أصول الفقه، للإمام الشاطبي (4/141)، تحقيق: عبد الله دراز، المعرفة.
([90]) ذكره الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بسنده: "أنه اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد، فجعلا يتذكران الحديث، قال: فجعل عمر يجيئ بالشيء مخالفاً فيه القاسم، وجعل ذلك يشق على القاسم، حتى تبين فيه، فقال عمر: لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم"، ونقل رحمه الله عن القاسم بن محمد قوله: "لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أيّ ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء"، ونقل أيضاً عن عمر بن عبد العزير قوله: " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس فيه ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل يقول أحدهم كان في سعة"، ثم قال رحمه الله: "هذا فيما كان طريقه الاجتهاد" انظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/160-161)، تحقيق: أبو عبد الرحمن فواز أحمد زمرلي، مؤسسة الريان - دار ابن حزم، ط1،  1424هـ.
([91]) كما هو حال الشيخ عادل في هذه المسألة.
([92]) الموافقات في أصول الفقه، للإمام الشاطبي (4/141-142).
([93]) الاعتصام، للإمام الشاطبى (2/353).
([94]) رواه الإمام مسلم من حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، برقم (2553).
([95]) جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر (2/161)، مؤسسة الريان.
([96]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن رجب (6/83).
([97]) أي: نشيد الأعراب للسفر بصوت رفيع، الذي يقصد به الحداء.
([98]) شرح صحيح البخاري، للإمام ابن بطال (4/560).
([99]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للإمام ابن عبد البر (22/197-198).
([100]) رواه البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (107)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (2).
([101]) سنن أبي داود (2/698).
([102]) سنن أبي داود (2/699).
([103]) سنن النسائي (3/196).
([104]) سنن ابن ماجه (1/611).
([105]) رواه البخاري، كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام، برقم (909)، ومسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد، برقم (892)، وابن ماجه في سننه برقم (1898).
([106]) رواه ابن ماجه في سننه برقم (2168)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2922).
([107]) رواه البخاري في الأدب المفرد، برقم (786)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (20776)، وقال الألباني: صحيح الإسناد في صحيح الأدب المفرد.
([108]) السنن الكبرى للإمام البيهقي، (10/223)تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
([109]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/223) برقم (20794).
([110]) رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (20795).
([111]) رواه البيهقي السنن الكبرى (10/223) برقم (20796)، ورواه مرفوعاً كما في رقم (20797)، وسنده صحيح كما قال الإمام الألباني في تحريم الآت الطرب (101).
([112]) رواه البيهقي في السنن الكبرى برقم (20800).
([113]) رواه الحاكم في المستدرك (2/445)، برقم (3542)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
([114]) مثل قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل إن هناك أوامر وردت في الشرع لكن ظاهرها الوجوب، لكن صرفت إلى الندب لقرائن معينة مثل حديث: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم))، رواه البخاري برقم (839)، ومسلم برقم (846)، والقرينة وردت في بعض الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل)) رواه أبو داود برقم (354)، وابن ماجة برقم (1091)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وغيرها من الأمثلة الموجودة في كتب أصول الفقه وقواعده.
([115]) رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر، برقم (239)، ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، في كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، برقم (2003).
([116]) قوله بأن القينة هي بمعنى المغنية خطأ ظاهر، قال الجوهري في الصحاح (7/36): "والأمة قينة، وبعض الناس يظن القينة المغنية خاصة، وليس هو كذلك"، وعلى فرض أنها بمعنى المغنية، فهي جارية تحسن الغناء المباح الخالي من الفحش والخناء، وعرفت به في مجتمعها، وهي تغني لا تتجاوز الحد المأذون به شرعاً كيوم العيد أو عرس، فلا محذور في هذا، وليست هي يا فضيلة الشيخ من جنس مغنيات هذا الزمان بالمعازف وآلات الطرب، ولا أظن ذلك خاف عليك فتنبه!!.
([117]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد(10/115)، للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي, ‏محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب، سنة النشر: 1387م.
([118]) الاستقامة، لابن تيمية (1/271-278)، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط1، سنة النشر: 1403هـ.
([119]) قال عن الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (3/587): هو: "محمد بن طاهر المقدسي الحافظ، ليس بالقوى، فإنه له أوهام كثيرة في تواليفه، وقال ابن ناصر: كان لحنة، وكان يصحف، ...، قلت -الذهبي-: وله انحراف عن السنة إلى تصوف غير مرضى، وهو في نفسه صدوق لم يتهم"، وقد كتب الإمام أحمد بن عيسى بن عبد الله بن قدامة الحنبلي، وهو من حفاظ الحديث رسالة في الرد عليه في مسألة إباحة السماع كما في الأعلام، للإمام الزركلي رحمه الله (1/191).
([120]) هو: محمد بن علي الأدفوي المقرئ النحوي المفسر صحب أبا جعفر النحاس ولازمه وسمع الحديث من سعيد بن السكن وغيره وكان يد أهل عصره بمصر أخذ عنه جماعة وله كتاب تفسير القرآن في مائة وعشرين مجلدة، مات ليلة الخميس لثمان بقين من ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وله ثمان وثمانون سنة" انظر: طبقات المفسرين، للإمام السيوطي(97)، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة وهبة - القاهرة، ط1، سنة النشر:1396هـ، وانظر: الأعلام، للزركلي (6/274).
([121]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني (10/543)
([122]) رواه الترمذي، كتاب العلم، باب فضل طلب العلم، (5/ 28) رقم ( 2646) وهو جزء من حديث أخرجه مسلم، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، المجلد التاسع بشرح النووي (17/23) رقم ( 6793)، دار المعرفة، ط1، سنة النشر: 1414هـ.
([123]) رواه أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم رقم (3641) دار ابن حزم، ط1، سنة النشر: 1419هـ؛ صححه الألباني في صحيح الجامع برقم(6294)؛ وفي الجامع الصغير وزيادته برقم(11243).
([124]) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (14/333)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7/312)، ورجاله رجال الصحيح خلا هشام بن سعد فإنه روى له مسلم مقروناً، وله شاهدٌ بسندٍ حسنٍ عند أبي حاتم، كما في" الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي (125).
([125]) شرح العقيدة الطحاوية (554).
([126]) تبيين كذب المفتري، للإمام ابن عساكر (29).
([127]) المدخل، لابن الحاج (4/467).
([128]) انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، للعلامة ابن عثيمين (26/306).
([129]) رواه البخاري، برقم (7352)، ومسلم، برقم (1716).
([130]) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم (4880)، وأحمد في المسند برقم (19776)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، والطبراني في الكبير برقم (11444)، كلهم من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود وفي غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام.
([131]) انظر: الفرق بين النصيحة والتعيير، للحافظ ابن رجب الحنبلي (8).
([132]) رواه البخاري برقم (6112).
([133]) رواه مسلم برقم (2988).
([134]) والعجيب أن كلاً من ابن حزم والجديع يرد كلامك، أما ابن حزم رحمه الله فيقول إن حديث أبي مالك الأشعري صريح في التحريم إلا أنه ضعيف، والجديع يقول بصحته لكنه غير صريح في التحريم، وابن حزم يقول: إنه صريح، ولو صح لقال بحرمة الغناء، فبحث بن حزم يرد على بحث الجديع، وبحث الجديع يرد على ابن حزم، وبحثهما معاً يرد على هذا الكلام، والحمد لله الذي جعل أبحاثهم يرد بعضها على بعض!!!
([135]) شرح السنة، للإمام البغوي (12/383).
([136]) المغني (9/115).
([137]) مدارج السالكين، لابن القيم (1/491).
([138]) ويمكن أن أسألك أيها الشيخ ليت شعري ما الذي جعلك ترجع من القول بالتحريم إلى القول بالإباحة هل هو التحقيق العلمي أم ماذا؟.
([139]) رواه مسلم برقم (1017).
([140]) لعلها تحليلها.


محمد بن عبد الله العبدلي