الشريعة الربانية شريعتنا
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحِكمة والأحكام، الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه.
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
الشريعة الإسلامية شريعة ربانية مصدرها وحي الله - عز وجل -، أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها، ويدعو إليها ويحكم بين الناس بمقتضاها، وحذره - سبحانه - من إتباع أهواء المضلين الذين يريدون فتنته عن الحق الذي أنزله الله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)المائدة: 48- 50.
لَمَّا ذكر الله - تعالى - قبل هذه الآيات التوراة التي أنزلها على موسى وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الإتباع، وذكر الإنجيل الذي أنزله على عيسى ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، ومن تمام الإتباع للتوراة والإنجيل الإيمان بما فيهما من بشارات تبشر بمبعث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وتحث على تصديقه ومتابعته ومتابعة ما جاء به من الحق، قال - سبحانه -: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه).
قال السعدي في الآيات السابقة: يقول - تعالى -: (وأنزلنا إليك الكتاب) الذي هو القرآن العظيم، أفضل الكتب وأجلها.
(بالحق) أي: إنزالاً بالحق، ومشتملاً على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه. (مصدقا لما بين يديه من الكتاب)؛ لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده مصداقًا لخبرها.
(ومهيمنا عليه) أي: مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية، فهو الكتاب الذي تَتَبَّع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحِكمة والأحكام، الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه.
(فاحكم بينهم بما أنزل الله) من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك. (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلاً عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
(لكل جعلنا منكم) أيها الأُمم (شرعة ومنهاجا) أي: سبيلاً وسُنّة، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأُمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان، فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع. (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) تبعًا لشريعة واحدة، لا يختلف متأخرها ومتقدمها.
(ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) فيختبركم وينظر كيف تعملون، ويبتلي كل أُمة بحسب ما تقتضيه حكمته، ويؤتي كل أحد ما يليق به، وليحصل التنافس بين الأمم، فكل أمة تحرص على سبق غيرها، ولهذا قال: (فاستبقوا الخيرات) أي: بادروا إليها وأكملوها، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير فاعلها سابقًا لغيره مستوليًا على الأمر، إلا بأمرين:
المبادرة إليها، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به، ويستدل بهذه الآية، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات، التي يقدر عليها لتتم وتكمل، ويحصل بها السبق.
(إلى الله مرجعكم جميعا) الأُمم السابقة واللاحقة، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه. (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) من الشرائع والأعمال، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ. (وأن احكم بينهم بما أنزل الله).
وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط)، ودل هذا على بيان القسط، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط، وما خالف ذلك فهو جور وظلم.
(ولا تتبع أهواءهم) كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها، ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى، وهو أوسع، وهذا في مقام الحكم وحده، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق، ولهذا قال: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) أي: إياك والاغترار بهم، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فصار اتباع أهوائهم سببًا موصلاً إلى ترك الحق الواجب، والفرض اتباعه.
(فإن تولوا) عن اتباعك واتباع الحق (فاعلم) أن ذلك عقوبة عليهم، وأن الله يريد (أن يصيبهم ببعض ذنوبهم)، فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول، وذلك لفسقه.
(وإن كثيرا من الناس لفاسقون) أي: طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله.
(أفحكم الجاهلية يبغون) أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمَنْ أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله - تعالى - فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى.
(ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلا وشرعًا اتباعه.
واليقين؛ هو العلم التام الموجب للعمل.
وهنا تتجلى ميزة الشريعة الإسلامية بالمقارنة بالشرائع والقوانين الأخرى، فمصدرها كلمات الله - تعالى -غير مبدلة ولا محرفة ولا مختلطة بأوهام وأغلاط وانحرافات البشر، وما عداها من الشرائع والقوانين لا تخرج من حيث مصدرها عن نوع من ثلاثة:
1- فهي إما نظام بشري محض، نتاج تفكير عقلي فلسفي لفرد من الأفراد، أو لمجموعة من الناس، كالماركسية والرأسمالية وغيرهما.
2- وإما نظام ديني شابه التحريف، فأدخل فيه ما ليس منه، واختلط بأوهام البشر كاليهودية والنصرانية.
3- وإما نظام ديني لا يعرف مصدره كديانات الهند المتعددة.
ومنهج الإسلام يعلو على كل هذه المناهج، فهو المنهج الذي صانه الله عن كل تحريف، وهو المنهج الذي يضيء بنور من الله، ويرمي إلى صلاح الدنيا والآخرة.
وقد قرر العلامة ابن خلدون ذلك في مقدمته، فبين أن الاجتماع البشري والملك يستوجب وجود قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة ينقادون إلى أحكامها، فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا والآخرة. ثم يقرر: أن ما كان منها بمقتضى القهر والتغلب وإعمال القوة العصبية فهو جور وعدوان مذموم، وما كان منها بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم.
وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم، من ملك أو غيره، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي أعمالكم ترد عليكم"، وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء، ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء.
النتائج المترتبة على ربانية المصدر:
يترتب على ربانية المصدر نتائج عدة تدور كلها حول كمال الله - تعالى -صاحب هذا المنهج، أما المناهج الأخرى فيلازمها نقص البشر وعجزهم وقصورهم. ومن هذه النتائج: -
1- العصمة من التناقض والتطرف والاختلاف فالبشر يختلفون من عصر لأخر ومن بيئة لأخرى، لذا كان الاجتهاد في المسألة الواحدة يتغير بتغير الزمان والمكان. ولا شك أن ما نلمسه في كل أنظمة البشر من إفراط أو تفريط هو نتيجة هذا الاختلاف، بل هو نتيجة العجز والقصور البشرى، إذ أن تفكير الإنسان في وضع منهاج أو مذهب غالبا ما يكون نتيجة لرد فعل معين، وانعكاسا لأوضاع وأحوال بيئية تؤثر في تصوره للأشياء وحكمه على الأمور شاء أم لم يشأ، ولهذا نرى التطرف الواضح والتناقض البين في موقف الأنظمة البشرية من الروحية والمادية، والفردية والجماعية، فتلك الأنظمة لا تخلو من إفراط أو تفريط.
2- البراءة من التحيز والهوى، فإن من ثمرات المنهج الرباني اشتماله على العدل المطلق، وبراءته من الجور والتحيز، وهذا الجور والتحيز لا يسلم منه بشر، فلا وجود لبشر معصوم من التأثر بالأهواء والنزعات سواء كانت شخصية أم طبقية أم حزبية أم قومية..إلخ.إلا من عصمهم الله - تعالى -من ذلك.وهم الأنبياء. أما المنهج الرباني الذي شرعه رب العالمين المنزه عن النزعات والأهواء فهو المنهج الحق الذي يقيم القسط بين الناس.
3- الاحترام وسهولة الانقياد، فالربانية تضفي على المنهج احتراما وقدسية لا يمكن أن يظفر بهما أي نظام بشري مهما بلغت درجة الوعي والرقي عند المخاطبين بهذا النظام البشري.
ومنشأ هذا الاحترام والتقديس إيمان المكلفين بربوبية الله - عز وجل - وإفراده وحده بالعبادة، وأنه المنزه عن كل نقص، المستوجب لكل كمال والإيمان بأن هذه الحياة الدنيا وسيلة لرضاء الله - عز وجل - وليست غاية في ذاتها، والإيمان بأن المنهج الرباني هو المتضمن لصلاح العباد في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ويتبع هذا الإيمان وهذا الاحترام والتقديس رضاء المكلف بكل تعاليم هذا المنهج وتقبله بنفس راضية، والمسارعة إلى تنفيذ هذا المنهج بلا روغان والسمع والطاعة في كل ما يأمر به أو ينهي عنه. ولنضرب لذلك مثالا: لما أنزل الله- تبارك وتعالى -الآيات التي تحرم الخمر تحريما نهائيا، وسمعها الصحابة - رضي الله عنهم - وكان بعضهم في مجلس شراب قد رفع الكأس إلى فمه، ألقى بالكأس من على فيه قائلا: انتهينا يا ربنا. وقام كل منهم فأراق ما عنده من مخزون الخمر في الطرقات، وكان بعضهم قد جاء من سفره متاجرا وقد احتمل معه الكثير من الخمور للشرب والبيع فلما علم تحريمها قال: أفلا أبيعها؟ فلما علم أن ثمنها حرام قام فأراقها.
وتستطيع أن تقارن بين ما ذكرنا وبين ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية حين رأى عقلاء الأمة وساستها ما تسببه الخمر من أضرار ومفاسد فقرروا تحريمها بقانون، ولكن هذا القانون لم يوضع موضع التنفيذ من الذين وضعوه ولا من غيرهم، وتفنن الجميع في التحايل على هذا القانون، حتى وجد عقلاء الأمة وساستها أن القانون لم يثمر شيئًا، وأن الأفضل لهم إلغاء هذا القانون وإباحة الخمور مرة أخري على الرغم من مفاسدها، وهذا التصرف من المشرع الوضعي ينم عن تناقض غريب وقصور شديد.
4 -التحرر من عبودية الإنسان للإنسان، ولا ريب أن الإنسان بطبعه يأنف من الانقياد لمثله، ولكنه إذا اعتاد هذا الانقياد على حساب حريته فإنه ربما فقد ذاتيته وصار تابعا لغيره تبعية هي أقرب إلي العبادة وهي تبعية مذمومة بلا ريب يفقد معها الإنسان إنسانيته.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.