شمولية الاحتساب

سعة مفهوم الاحتساب وتنوعه، وأهمية قيام الأخيار والمصلحين بما يقدرون عليه من ذلك

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -

في وسط سوق المدينة مرَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعامًا، فأدخل يده فيه، فنالت أصابعه بللاً فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله، فيرشده ويحذره في صورة ناصعة من الاحتساب على (الغش التجاري): «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غشَّ فليس مني» [1].

وفي صورة أخرى من الاحتساب، في حماية لحق الفرد من الاعتداء ومن الظلم، يمشي في إحدى الطرقات فيرى رجلاً رافعًا سوطه يضرب خادمه فيقول له: «اعلم، أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه»، فيلتفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فيردُّ عليه: «أما لو لم تفعل للفحتك النار» [2].

ويأتيه رجل مشرك في مكة يطلب أن يعينه على أبي جهل لمطله حقه، وعدم وفائه له برد ماله، فيقوم معه وهو لا يعرفه، مع صعوبة الموقف لأجل عداوته الشديدة مع أبي جهل، فيطرق عليه بابه فيخرج وهو ممتلئ رعبًا فيقول له: «أعط هذا الرجل حقه»، فيقول: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه [3].

فالمحتسب ينبغي له أن (ينهى عن المنكرات: من الكذب والخيانة، وما يدخل في ذلك من تطفيف المكيال والميزان والغشِّ في الصناعات، والبياعات، والديانات، ونحو ذلك) [4].

ولم يكتفِ صلى الله عليه وسلم في احتسابه بالمطالبة بحقوق الإنسان؛ بل كان يحتسب على أصحابه في عدم إيذاء الحيوان والإضرار به، ففي أحد أسفاره وجد بعض أصحابه أخذ فراخ حُمَّرة وهي تفرِّش في الأرض حزناً على فراخها، فقال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها»، ورأى قرية نمل قد حرَّقوها، فقال: «من حرَّق هذه؟» فقال بعضهم: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربُّ النار» [5].

ومرَّ بجمل فأقبل عليه فقال: «مَنْ رب هذا الجمل؟»، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه» [6].

وهذه الصور وغيرها كثير يبيِّن عناية الشريعة في الحفاظ على حقوق الناس وعدم ظلمهم، أو الاعتداء على شيء من حقوقهم أو كرامتهم.. وإذا كان هذا في حقوق الخلق فعناية الشريعة بحقوق الخالق أعظم، فالمقصد الأعلى من إيجاد البشرية هو تحقيق العبودية له سبحانه، وأكبر ركيزة تحقق هذه العبودية هي التناصح والتذكير والأمر والنهي، (فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد) [7].

(وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} [التوبة:71].

وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية) [8].

ولذا جعل الله خيرية هذه الأمة مرتبط بقيامها بهذه الشعيرة العظيمة، وحذر من عقوبة تركها أو التساهل فيها، بلْه محاربتها والوقوف في سبيل انتشارها!!

 

إذا قرأت النماذج السابقة تبين لك سعة مفهوم الاحتساب وتنوعه، وأهمية قيام الأخيار والمصلحين بما يقدرون عليه من ذلك، فما أحوجنا لسلوك خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم في شمولية احتسابه، والوقوف مع المظلوم حتى يأخذ حقه، ومع المعتدى عليه حتى يقتصَّ له، والتصدي للمفسد حتى يقف عن باطله، وعلى المنكَر حتى يزول، وعلى الغاشِّ حتى يتقن عمله.

وهنا يرد سؤال يتكرر من بعضهم: أين الإسلاميون عن الاحتساب الشمولي؟ ولماذا تدور أطروحاتهم حول الاحتساب على المنكرات فقط؟

فيُجاب عن هذا: بأن السائل حمل هذا الاعتقاد في داخله لبعض صور الاحتساب التي ضجَّ حولها الإعلام، فحجم مشروعاتهم (في إنكار المعصية) فقط، ولو نظر في الساحة بعين الإنصاف لوجدهم أكثر من يتكلم عن قضايا الفساد والظلم والحقوق وعدم الاعتداء عليها أو المساس بها.

والخطب والمحاضرات والندوات والمقالات التي ساهموا بها في هذا المجال لا يمكن حصرها، لكن التشغيب المبني على الهوى لا على طلب الحق يعمي عن رؤية المحاسن، ويرمي بصاحبه بالبهتان والتدليس في حق من خالفه.

وإن كان هناك تقصير من بعضهم، وبعضهم الآخر قصَّر مفهوم الاحتساب على المنكر فقط، وهذا لا يُنكر بل هو موجود، لكن الأكثرية عندهم سعي واهتمام بتطبيق الشمولية والعناية بها، وبعضهم قد تخصص في المنكرات وفتح له في إزالتها ولم يبذل أو يتمكن من العناية بغيرها، فهذا على ثغر وقد كفى غيره مؤنة ذلك، فحقه أن يشكر ويعذر، لا أن يلام ويقلل من عمله.

أسأل الله أن يستعملنا في طاعته، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

________________________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه مسلم.

(3) أخرجه ابن إسحاق (ص196).

(4) الحسبة في الإسلام لابن تيمية (ص17).

(5) رواه أبوداود، وصححه النووي.

(6) رواه أبوداود، وصححه الألباني.

(7) إحياء علوم الدين (2 / 306).

(8) الحسبة في الإسلام لابن تيمية (ص11).

نايف بن محمد اليحيى

مجلة البيان العدد: 300 - شعبان 1433 - يوليو 2012

المصدر: مجلة البيان