(4) الارتباط العضوي بين البداية والنهاية
عبد الله صالح العريني
المبحث الثالث: الارتباط العضوي بين البداية والنهاية:
1- قصة إبراهيم عليه السلام:
ومن أبرز القصص التي يتجلَّى فيها عنصر الربط واضحًا بين البداية والنهاية، قصةُ إبراهيم عليه السلام ولقد كان أولُ مشهدٍ نرى فيه إبراهيمَ عليه السلام مشهدَه وهو صبي صغيرٍ يقلِّب طرْفه في ملكوت السموات والأرض، ويتظاهَر أمام قومه أنه يبحث في لهفة عن الهداية إلى الدين الحق، لقد رآهم يعبدون أصنامًا يتَّخذونها آلهة، لم يكن إبراهيم شاكًّا أو ضالاًّ عن معرفة ربه عزَّ وجلَّ [11].
لكنه أراد أن يتدرِّج في ترقيَة عقولهم، فجعل تساؤله تساؤلاً خارجيًّا شارَكَه قومه فيه، وتابعوا معه الاحتمالات المناسبة: من كون الرب هو الكوكبَ، أو القمر، أو الشمس؛ حيث يتجلَّى للجميع ضعفُ هذه المخلوقاتِ وأفولها، في مشهد لا يقبل الجدلَ، وتشرق اللحظة المعرفية التي ينتظرها إبراهيم عليه السلام فالربُّ عزَّ وجلَّ أعظم من "كوكب يلمع، أو قمر يطلع، أو شمس تسطع، ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس، إنه يجده خالقًا لكل ما تراه العيون، ويحسه الحس، وتدركه العقول" [12].
وهنا يقرِّر بجلاء أن هذه المخلوقاتِ كلَّها لا تصلح أن تكون آلهة {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:75-79].
وفي المشهد السابق يتجاوَز إبراهيمُ مرحلةَ الكشف عن الخطأ، إلى مرحلة عمل الصواب، حين يخاطبهم بقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ويذهب بعض الباحثين إلى أن حوار إبراهيم عليه السلام السابق في سورة الأنعام، يكشف عن خطوات التفكير العلمي في حلِّ المشكلات؛ ويتمثل هذا المنهج في أن خليل الله إبراهيمَ عليه السلام قد شعر بوجود مشكلة أولاً، وثانيًا جمَعَ بياناتٍ كافيةً حول موضوع المشكلة، وثالثًا وضع الفروض، ورابعًا قوَّم فروضه، ووصل في نهاية المطاف إلى هدفه المنشود [13].
والأمر لا ينتهي بهذا الاكتشاف المُثِير فحسب؛ لكن مشهد البداية يستمرُّ في رصد التداعيات التي أحدثها موقفُ إبراهيم عليه السلام حين راح الملأ يحاجُّونه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:80، 81].
لكنه كما انتصر في إيضاح ضلالهم باتِّخاذ تلك الأصنام، فقد انتصر أيضًا في دفع كل شبهة ألبستْ على أذهانهم وخُيِّل لهم معها أن لديهم ما يسند موقفَهم الهش الضعيف، واليقين الذي انتهى إليه إبراهيم لا يظل في إطار المعرفة، لكنه يتحوَّل إلى موقف تطبيقي؛ حيث يمضي إلى تلك الأصنامِ يحطمها ويجعلها جذاذًا، يحطمها في الحس كما حطَّمها في النفس، ويجعلهم يعترفون بأنفسهم بأنهم ضالُّون، وعلى هذا النحو تمضي قصة أبي الأنبياء تعرض مشاهدَ من الإيمان الذي لا يتزعزع.
وفي القصة تتجلَّى شخصيةُ الداعية الذي يواجه مختلفَ الظروف بما يناسبها؛ فهو: "الداعية الحكيم في مواجهة السلطان، والداعية البصير في نقضه لمعبودات قومه، والداعية الشجاع في تحطيم الأصنام ومحاجَّة قومه، والداعية الشفيق في محاجَّته لوالده، ودعوته إياه، واستغفاره له" [14]، وقد تعرَّض عليه السلام لصنوف الابتلاء: من الطرد، والإيذاء، والإلقاء في النار، والأمر بذبح ابنه؛ لكنَّه خرج من كل ابتلاء ظافرًا منتصرًا.
ثم توَّج إبراهيم عليه السلام حياتَه الرائعة ببناء بيت الله الحرام، وهو آخر مشهد نراه فيه، حين يقوم على جبل عرفة يؤذن للناس بالحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:26- 27].
وانتهاء قصة إبراهيم بهذه النهاية تجعل ذلك النداءَ يبدو في صورة مستمرَّة، ومشهده عليه السلام لا يبرح مخيلتنا وهو يؤذن بالحج، ويتوافد حُجاج بيت الله إلى ذلك المكان الطاهر؛ تلبيةً لذلك النداء الكريم، الذي تتجاوَب النفوسُ المسلمة معه، وتتأثر به، وتهرع إلى أداء النسك على النحو الذي أدَّاه أبوهم إبراهيم عليه السلام.
وجمالية هذه النهاية تقوم على بقاء المشهد الأخير حيًّا مؤثِّرًا، فلم يعد المشهد مجرَّد تاريخ ماضٍ، ولكنه حاضر في واقع الحياة كلما حجَّ حاجٌّ إلى هذا البيت.
والنهاية ترتبط ارتباطًا عضويًّا ظاهرًا بتلك البدايةِ التي بدأتْ فيها قصةُ إبراهيم عليه السلام فهو هناك صبي يتظاهَر بالبحث عن الإله، وهو هنا شيخ كبير، عرف ربَّه عزَّ وجلَّ وآمَن به، وبنى بيته، ودعا إلى حجه؛ فالارتباطُ بين البداية والنهاية في القصة واضحٌ جلي.
2- قصة يوسف عليه السلام:
ومن قصص القرآن التي يتجلَّى فيها الارتباطُ بين بداية القصة ونهايتها، قصةُ يوسف عليه السلام حيث تبدأ بدايةً مُثِيرة للتشويق، وهي بداية هادئة تزيح الستارَ عن المشهد ببطء: { يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، وتتحوَّل تلك الرؤيا إلى ما يشبه اللغز المحيِّر بما تضمَّنه من رمز خفي على يوسف عليه السلام لكن الأب عرف دلالته واستبشر به، ثم توالَتْ أحداث الحياة فيما بعد لتحيله من مجرَّد رؤيا إلى أمر واقعي، وخلال تلك الأحداث ينتقل الرسول الكريم في أوضاع متقابلة: طردًا وتشريدًا، وإغواءً وسجنًا، وفقرًا وغنى.
وفي مشهد البداية ينشأ حوارٌ بين يوسفَ وأبيه عليهما السلام وحظُّ الأب أكبرُ من حظِّ الابن في هذا الحوار، فالابن ذَكَر لأبيه تلك الرؤيا ولم يعقِّب، وظل يستمع بإنصاتٍ إلى ما يقوله والدُه عن هذه الرؤيا العجيبة، أمَّا الأب فكان وقوفه على خبر تلك الرؤيا داعيًا إلى التعامل معها بطول نفَس، والتأكيد على أهمية أن يبقى خبرُ هذه الرؤيا سرًّا من الأسرار، لا يذيعه على إخوته، ولا يبوح به لأحد منهم {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5]، مبينًا مغبَّة مخالفة هذا الأمر، حيث يناصبونه العداء، وينافسونه على هذا الفضل {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، وتنبيهه إلى عنصر الشر الذي سوف يحرِّكهم ضده؛ {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5].
وفي إطار هذه التحذيرات يؤكِّد على دلالة الفضل العظيم التي تبشر به: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [يوسف:6] [15].
بعد هذه البداية تمضِي القصة في تنقُّلات عجيبة، وأوضاعٍ مختلفة، حتى يوقفنا القرآنُ على مشهد النهاية، وهي نهاية سعيدة مُفرِحة، تغمرها بهجةُ اللقاء بعد طول فراق، وتخضلُّ العيون بدموع الفرح، وفي هذه النهاية نلاحظ كثرةَ الأحداث وتتابعها في إيقاع سريع، مؤذِن بقرب الخاتمة، حيث يدخل الإخوة ومعهم أبوهم وأمُّهم على يوسفَ في ملكه وسلطانه، فيدعوهم للاستقرار الآمِن في مصر، ويرفع أبويه على العرش احتفاء وتكريمًا، وبعد ذلك يخرُّ الجميع له سُجَّدًا، فيرى أمام عينيه المشهد نفسَه الذي رآه في المنام، لقد تحقَّقت الرؤيا بكل تفصيلاتها، ويخاطب أباه: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].
إنه يعدِّد نِعَم الله عليه ولطفه به، ولأن نعمه تعالى لا تحصى؛ فإنه يذكر ما يناسب المقام، ومن أبرزها: تحقق تلك الرؤيا المباركة، وإخراجه من السجن، وانتقال أهله من حياة البداوة بما فيها من جفاء وشظف، إلى حياة المدينة بما فيها من لطف وهنية عيش، وإصلاح ما بينه وبين إخوته، والملاحظ أن يوسف عليه السلام لم يستثمر قوته للبطش والانتقام؛ وإنما قابل فعلتهم بالصفح والغفران.
وبعيدًا عن الغرور والعجب، يحيل النبي الكريم نصر الله إلى موقف شكر له سبحانه على كمال إفضاله وإنعامه، وبعد أن سوَّى كل شيء بينه وبين أسرته، انتقل إلى الأمر الأهم، وهو رفع آيات الحمد والثناء على الله عزَّ وجلَّ في حديث ضارعٍ، يبدأ بتعداد تلك النعم والإقرار بها، وينتهي بسؤاله المزيد [16].
فلقد ذاق يوسف عليه السلام الدنيا: حلوها ومرها، وعرف أنها ليست بشيء؛ ولذا اشتاق إلى ما عند الله من نعيم، فما كان الجاه والسلطان ليصرفاه عن أمنيته الغالية بأنْ يتوفَّاه الله مسلمًا، وأن يلحقه بالصالحين من عباده [17].
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وتبقى روعة هذه النهاية في تسجيلها لهذا المشهد الاحتفالي الرائع، ممَّا لا يمكن أن يبلغه إلا هذا التعبيرُ القرآني المعجِز.
-------------------------
[11] انظر في ذلك: (تفسير الطبري)، 9/359، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري؛ تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، القاهرة: دار هجر، 1422هـ، (أضواء البيان)، 1/361-362، لمحمد الأمين الشنقيطى، ط1، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1417هـ، (سيرة إبراهيم الخليل في القرآن المجيد والأحاديث الصحيحة)، 48 - 51، لهشام فهمي العارف، ط1، بيروت: دار البشائر الإسلامية، 7141هـ.
[12] (في ظلال القرآن)، 2/1141.
[13] انظر: (الحوار ورسم الشخصية في القصص القرآني)، 70.
[14] (خصائص القصة الإسلامية)، 77.
[15] انظر في الحديث عن هذه الرؤيا من الوجهة الفنية: (البنية السردية في القصص القرآني)، 28- 32، (سيكولوجية القصة في القرآن)، 519، 520، للدكتور التهامي النقرة، ط1، تونس: الشركة التونسية، 1974م، (الحوار القرآني بين التفسير والتبصير)، 180، 184، 185، لأحمد سنبل، ط1، دمشق: دار ابن هانئ، 1998م.
[16] انظر: (الحوار القرآني بين التفسير والتبصير)، 254- 256.
[17] انظر: (قصص القرآن)، محمد جاد المولى، 113.