(5) نهاية القصة بنهاية الأحداث

عبد الله صالح العريني

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

المبحث الرابع: نهاية القصة بنهاية الأحداث:

1- نهاية قصة نوح:

قصة نوح عليه السلام مثل أكثر قصص الرسل الآخَرين التي نرى فيها الواحد منهم أوَّل ما نراه في موقف دعوة، وقد بلغ الأشدَّ، وتلقَّى الوحي وأُمر بالبلاغ، ونهايات قصص هؤلاء الرسل تنطق بالسنة الإلهية التي لا تتخلَّف، {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [يونس:103].

 

وهي واقعة لا محالة وإن بدَتْ في وقت من الأوقات بعيدة المنال {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ولذا فإن عنصر النهاية يعد هو العنصر الأهم، ولذا تسلط عليه الأضواء، ويبدو المشهد النهائي معروضًا عرضًا موسعًا، وتُتاح له مساحةٌ أكبر في مجال القصة، ولعل ذلك العرض الموسَّع يهدف إلى استبقاء صورة النهاية في الذهن؛ لأنها الحلقة الأهم التي تتجلَّى فيها العبرة والموعظة على أقوى ما تكون.

 

لقد أبدى نوح عليه السلام صبرًا غير عادي على تكذيب قومه، واستغرقت منه الدعوة قريبًا من ألف سنة، فما كَلَّ ولا مَلَّ، حتى تأكَّد له أن القوم لن يسلموا {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فترَكَهم وما هم عليه، ودعا الله تعالى أن ينتقم منهم، وفي مشهد النهاية يظهر نوح عليه السلام وقد أتَمَّ صناعة الفلك، وأصبح ينتظر الإشارة الإلهية ليركب السفينة مع المؤمنين من قومه.

 

وتُطالِعنا قصَّة نوح مع ابنه، وهي حلقة من حلقات النهاية في هذه القصة؛ فنوح عليه السلام يدعو ابنه إلى ركوب سفينة النجاة، والابن يرفض ذلك ويُدِير ظهره لدعوة أبيه، وينضمُّ إلى الذين يتسابَقون إلى صعود الآكَام والجبال، طمَعًا في السلامة، مع أن الأب يؤكِّد له أن ذلك لا ينفعه، ويستمرُّ الحوار لا ينهيه إلا الموج الذي يَحُول بينهما؛ فيهلك الابن غرقًا وتطفو جثَّته على سطح الماء مع جثث الغارقين من قومه: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:42،43].

 

وبعد هلاك القوم الكافرين غاضَ ماء الأرض، وتوقَّف مطر السماء، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]. وبدَت الأرض في خلق جديد ولم يعد على ظهرها إلا هذه الثلَّة المؤمنة، التي رأتْ مصارع القوم، ووَعَتْ رعاية الله لها وحفظه.

 

إن حشد تلك الأحداث الكثيرة المهمَّة في هذا الحيِّز لَيُعطِي النهاية طابع الإثارة الذي يأخذ بمجامع القلوب، وإذا كانت الأحداث قد انتهَتْ فإن ذلك يعني أن القصة قد بلغت أمدها ووصلت إلى نهايتها؛ لأن الاتِّجاه السائد فيها هو اتِّجاه الأحداث، والتركيز عليها وإبراز ما فيها من مواطن الاعتبار.

 

فتتوارَى الشخصيات ويصبح دورها تحريك تلك الأحداث، وتبادل التأثُّر والتأثير معها؛ ولهذا -والله أعلم- لم تسجل نهاية تلك الشخصيات التي كانت على ظهر السفينة؛ لأنها لن تمرَّ على امتحان أعظم من ذلك الامتحان الذي تخطَّته بنجاح، فالحديث عنها بعد ذلك يُضعِف فنية النهاية ويسحب منها طابع القوة والتأثير.

 

2- قصة موسى عليه السلام:

تُعَدُّ قصة موسى عليه السلام أكثر قصص القرآن تكرارًا[18]، وتتضمَّن سيرته ولادة موسى في قصر فرعون، وخروجه إلى مدين، وتكليم الله تعالى له، ثم سيرته مع بني إسرائيل، ويعنينا أن نقف على نهاية هذه القصة التي تتمثَّل في مشهد تحريضه بني إسرائيل على دخول الأرض المقدَّسة {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، إنه يقدِّم لهم البُشرَى بوعد الله تعالى لهم، ويسمِّي البلاد بأزكى أسمائها {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} تشجيعًا لهم، ويؤكِّد لهم أنها معركة محسومة النتيجة سلفًا، فقد كتَبَها الله لهم، ومع ذلك يتثاقلون ويخلدون إلى ما ألفوه من الذل والهوان، ويرفضون الجهاد، ويظلُّ يتودَّد إليهم ويحرضهم على القتال، ولكن لا فائدة؛ لأنهم يريدون نصرًا بلا معركة!

 

والحل في رأيهم أن يخرج القوم الجبَّارون من تلقاء أنفسهم ويسلموا لهم البلاد وهو أمر يرفضه منطق الواقع {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، ولعل في تكرار: حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ما يكشف عن الصدق التعبيري في تصوير الجبن والخَوَر الذي ابتُلِي به بنو إسرائيل، وحين أكثر عليهم في ذلك قالوا قولتهم المنكرة: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].

فلمَّا قالوا ما قالوه أحلَّ الله عليهم عقوبته {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26].

 

وبهذا الخطاب الإلهي يدخل بنو إسرائيل في التِّيه، وينتهي الفصل الأخير من قصة موسى عليه السلام فلا يَرِد ذكر بعد هذه الحادثة فلقد وفَّى بالأمانة وجاهَد في الله حقَّ جهاده، ولم يعد هناك ما يفعله معهم، أمَّا بنو إسرائيل فدخَلوا في التِّيه أربعين سنة، والمشهد السابق يحدِّد بدء هذا التِّيه إيذانًا بأن تذهب النفس في استبقاء مشهد التِّيه كل مذهب، وهي نهاية مأساوية مؤلمة، تظلُّ مثيلات لها متكرِّرة في تاريخهم الطويل مع أنبياء الله ورسله.

 

ويظلُّ ذلك الانطباع هو الأثر النفسي الذي يدوِّي في الذاكرة كلَّما ذكرت تلك القصة، وكأنهم ما زالوا حتى الآن في تيههم الذي دخلوه ذات يوم وهذا ما جعل الأستاذ سيد قطب يُبدِي إعجابه بهذه النهاية المثيرة لقصة موسى عليه السلام مع قومه ويتساءل: "ترى أكان هناك ختام فني أجمل من مشهد التِّيه في نهاية ذلك الجهد الجهيد، وبعد ذلك التردُّد الشديد؟ إن مشهد التِّيه هو المشهد الفني الأنسب" [19].

 

هذا عن نهاية قصة موسى عليه السلام مع قومه، أمَّا نهاية موسى نفسه فقد سجَّلته السنة النبوية فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُرسِل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلمَّا جاءه صكَّه؛ فرجع إلى ربِّه فقال: أرسلتَنِي إلى عبدٍ لا يريد الموت، فردَّ الله عليه عينه وقال: ارجِع، فقل له: يضع يده على متن ثور؛ فله بكلِّ ما غطَّت به يده بكلِّ شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يُدنِيَه من الأرض المقدَّسة رميةً بحجر، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» [20].

 

---------------------------

[18] انظر: (أحسن القصص قصص الأنبياء): 213، لكمال مصطفى شاكر، ط1، بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1421هـ.

[19] (التصوير الفني في القرآن): 174

[20] (فتح الباري بشرح صحيح البخاري): 3/206، 207، برقم 1339.