(6) نهاية القصة بنهاية الشخصيات
عبد الله صالح العريني
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
المبحث الخامس: نهاية القصة بنهاية الشخصيات:
1- نهاية قصة سليمان عليه السلام:
تأتي نهاية قصة سليمان عليه السلام مُثِيرة مدهشة؛ حيث يبدو واقفًا متَّكئًا على عصاه فلا يظنُّ أحد أنه ميت، ويخفى الأمر على الجن أنفسهم مع أنهم على مقربة منه، لقد أمر سليمان الجن بالعمل، وكان يعرف شرَّهم وخطورتهم فأخذَهَم بالشدة والعذاب.
والقصة القرآنية تختصِر الكثير لتُظهِر سليمان وقد قضى الله عليه بالموت واقفًا {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].
ها هو ذا سليمان واقف يتَّكئ على عصاه يرقب عمل الشياطين والجن، وهم يصنعون له ما يشاء، ويؤدُّون أشغالاً شاقَّة، قد أصابهم العناء والتعب، ونبيهم لا يعطيهم فرصة للراحة، بل ما زال واقفًا أمامهم، ترَك كل أعماله، ووجَّه اهتمامه لهم؛ فأنَّى لهم أن يكسلوا أو يتهاونوا، إن عينيه تنظران إليهم وترصد كلَّ حركة من حركاتهم، وبمرور الوقت يتحوَّل العمل إلى عذاب مهين لا يُطاق، ذلك كله وسليمان عليه السلام واقِف على رؤوسهم، يخشون بطشه وعقابه، ويستمرُّ الأمر وهم لا يعلمون أنه قد توفي، وأن الماثِل أمامهم هو الجسد فقط، أمَّا روحه فقد صعدت إلى بارئها.
ها هم الجن الذين يظنُّ الناس أنهم يعلمون الغيب، يجهلون وفاة سليمان عليه السلام وهو قريبٌ منهم، فأي دليلٍ أعظم من هذا الدليل يفضح دعواهم ويكشف زيفها، ولكن وقوف سليمان عليه السلام لا يستمرُّ إلى ما لا نهاية؛ إذ يسلِّط الله دابَّة الأرض فتظلُّ تأكل عصاه، وحينئذ يهوي جسده على الأرض، وتكتشِف الجن موته، ولكن بعد فوات الأوان، وبعد أن أخذ منها التعب كل مأخذ.
وهذه النهاية المؤثِّرة تسجِّل أبعادًا فاعِلة في حياة الناس الذين يعتقدون، بالجن وعلمهم الغيب، ولا يزال في ضِعاف الناس إلى يومنا هذا مَن يظن ذلك الظن، ويخافهم ويعوذ بهم، ومشهد نهاية سليمان عليه السلام يحمل أمرًا يتعلَّق بالتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، فها هو ذا سليمان عليه السلام الذي بلَغ من القوة والعظمة في الملك ما لا يبلغه أحدٌ من بعده، لا يستطيع أن يمنع عن نفسه الميتة التي كتَبَها الله عليه.
والعجيب اختيار الأستاذ سيد قطب أن تكون نهاية قصة سليمان هي مشهده وهو يحكم في الحرث ويعلِّل ذلك بقوله: "مشهد الحكم والحكمة هنا له قيمته الفنية أيضًا في حياة سليمان، فهو (سليمان الحكيم) كما يُلقَّب، وهو (سليمان الملك)، وفي هذا الحكم المبكِّر شاهِد بالحكمة الموهوبة وإرهاص للملك العريض، ثم هي طريقةٌ من طرق العرض؛ أن تنتهي قصة البطل بمشهدٍ من مشاهد طفولته أو صباه ذي علاقة وثيقة بمحور قصَّته من البدء للختام".
وما قاله الأستاذ سيد قطب مُستَبعد؛ إذ إن مشهد النهاية ليس محلَّ اختيارٍ مِنَّا، وإنما القصة القرآنية نفسها هي التي تحسِم ذلك الأمر وتحدِّده، فما دام أن القرآن الكريم قد صوَّر قصة وفاة سليمان عليه السلام فإن هذه الحلقة بالضرورة هي خاتمة القصة، واختيار حلقة أخرى من حلقات الحياة غير هذه النهاية يُخالِف منطق سير الأحداث، فضلاً عن أن هذه النهاية تحقِّق غرضًا مؤثرًا يجعلها لو لم تكن بالفعل هي نهاية القصة، لكان الأَوْلَى اختيارها على غيرها من المواقف.
2- نهاية قصة الرجل المؤمن:
أمَر الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يضرب مثلاً للمشركين، يتمثَّل في قصة أصحاب القرية التي ذكَرَها الله تعالى في القرآن، وأن الرسل الذين أرسَلَهم الله لهذه القرية قد كذَّبهم أهلها، وهمُّوا بطردهم، ثم يذكر المولى عز وجل أن رجلاً تدخَّل في اللحظات الأخيرة، وسعى ليُقنِع أصحاب القرية بضرورة الإيمان وترك ما هم عليه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ . اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:20-27].
وتسجِّل القصة القرآنية مشهد النهاية الذي يتمثَّل في دعوة قومه لاتِّباع المرسلين، وإقناعهم بالتخلِّي عن موقفهم المعرِض عن الدعوة، وإنكاره عليهم اتِّخاذ الآلهة التي لا تردُّ قضاء الله تعالى وتحدِّيه لهم بإيضاح موقفه، والإعلان الصريح عنه إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ.
ثم نرى خاصِّية تكشف عنها نهاية البطل، وهي انتقاله من نصر إلى نصر، ومن توفيق إلى توفيق، قد وُفِّق إلى الهداية والإعلان عنها والدعوة إليها، ووُفِّق أخيرًا في دخول الجنة، فنهايته كانت سريعة؛ وذلك تعجيلاً للثواب الذي ينتظره.
غير أن هنالك جملة أحداث أليمة بين قوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:25]، وبين دعوته إلى دخول الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26]، تلك الأحداث التي تتمثَّل في القِتْلَة الشنيعة التي قُتِل بها، فقد رُوِي أنهم "وثبوا عليه وثبةَ رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحدٌ يمنع عنه... وجعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول ذلك، فقتلوه رحمه الله" [21].
إن نهايته المؤلِمة قد تلاشَتْ بالرغم من شِدَّتها، وأصبحت نسيًا منسيًّا، بمجرَّد موته ودخوله الجنة، وهذا مصداق حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «
» [22].
إنه نعيم يُنسِي كلَّ المتاعِب التي بُذلِت في سبيله؛ ولذا فإن نهاية (البطل) في هذه القصة قد أصبحت ومضةً خاطفة بالقدر الذي نقَلَه من الدنيا إلى الآخرة.
وأصبحت أمنيَّته الوحيدة التي يتمنَّاها أن يرى قومُه إكرامَ الله له، تلك الكرامة العظيمة التي لو رأَوْهَا لعلموا أنهم هم الخاسرون.
إن نهاية الأحداث بالرغم من شدَّتها وألمها لم تكن نهاية القصة، وإنما استتبع جمالية العرض أن تهفو النفوس إلى نهاية (البطل) نفسه، وخاصَّة أنها في ظاهرها كانت أليمة شديدة ربما صورت هزيمة البطل وانتصار قومه الكفار، وهي في حقيقتها خلاف ذلك؛ إذ لم تكن إلاَّ برزخًا مؤقتًا، نقل الرجل المؤمن من دنيا العناء والألم إلى جنَّة نعيم.
"وهي من نوع قصص الكفاح، التي تنتهِي باستشهاد البطل في سبيل الحق، فموته وإن كان في الظاهر هزيمة لكنه في الحقيقة انتصارٌ للمبادئ التي آمَن بها، ودعا إليها، وعمل على تحقيقها، وفوز عظيم له بما نال من رضا الله وجنة الخلد" [23].
أمَّا الكفار فلم يفرحوا بانتصارهم عليه ولم يستمتعوا بالحياة بعده، ولم يَطُلْ بهم الوقت حتى قُضِي عليهم بصَيْحَةٍ واحدة حسَمَت الموقف وأفنَتْهُم فناءً يستتبع التحسُّر على موقفهم السيِّئ، {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ . إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28،29].
وهكذا استطاعَت القصة القرآنية أن تقدِّم نموذجًا لنهاية البطل، في صورة يحيل موقف الموت المؤلم في ظاهره إلى موقف إيجابي، يتمثَّل في معنى الاستشهاد، والذي يجعل الموت مطلوبًا عزيزًا، وأمنية غالية، في حين يكون مرعبًا مخوفًا لغير المؤمنين.
-------------------------
[21] تفسير ابن كثير: 6/571؛ تحقيق سامي محمد السلامة، ط2، الرياض: دار طيبة، 1420هـ.
[22] (المنهاج في شرح صحيح مسلم)؛ للنووي، 17/287 برقم 2807.
[23] (سيكولوجية القصة القرآنية في القرآن): 158.