لعلكم تتقون
أحمد البراء الأميري
فالتقوى هي غاية الصّوم، فما لم تحصل يكونُ صومنا لم يحقّق غايته، وإذا حصلت تحقّقت الغاية..
قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
يقول علماءُ اللغة: من أشهر معاني (لعلَّ): الترجّي، وهو ترقُّب شيءٍ لا وثوقَ لحصوله، ويدخلُ فيه الطّمع، وهو ترقب شيءٍ محبوب، نحو: لعلّ الحبيب قادمٌ، الإشفاق، وهو ترقّب شيءٍ مكروه، نحو: لعلّ المريض يموت. وقد اتفق جميع النحاة (كما جاء في المعجم الوسيط) على أن الترجّي هو المعنى المراد من (لعلّ).
كتب الله سبحانه علينا الصيام (لعلّنا) نتقي، والترجّي هو منّا نحن، لا من الله سبحانه، أي: افعلوا ذلك رجاءَ أن تكونوا من المتقين. أو: افعلوا ذلك (كي) تكونوا من المتقين (انظر تفسير القرطبي، ج: [1]، ص: [226]).
فالتقوى هي غاية الصّوم، فما لم تحصل يكونُ صومنا لم يحقّق غايته، وإذا حصلت تحقّقت الغاية، فالأمر إذن -فيما أرى- جِدٌّ لا هزل فيه، يحتاج إلى قدح (زناد الفكر) و(زناد القلب) لِنعلم: هل صُمْنا حقيقةً، أم صُمنا ظاهرًا فقط؟! « » (البخاري: [1903])، و« » (مسند أحمد: [8856]).
يقول سيد قطب رحمه الله في (الظلال): "وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية.. والمخاطبون بالقرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلّع إليها أرواحُهم، وهذا الصّوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ مُوصلٌ إليها، ومن ثمَّ يرفعُها السّياق، أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتّجهون إليه عن طريق الصيام (لعلكم تتقون)".
يقول عبقريُّ البيان مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه القيّم (وحي القلم)، في مقالٍ له كتبه في شهر رمضان عام 1353هـ تحت عنوان (فلسفة الصيام) بعد أن أبدع في تحليل بعض معاني الصوم، وانتقد أخطاء الاشتراكية وبعض المذاهب الاجتماعية الأخرى، يقول: "كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجتُه من هذه الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة من الآية:183].
وقد أوّلتُ الآية من (الاتّقاء)، فبالصّوم يتّقي المرءُ على نفسه أن يكونَ كالحيوان الذي شريعتُه مَعِدتُه، وألاّ يعاملَ الدنيا إلا بموادِّ هذه الشريعة، ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسانٍ كحمارٍ مع إنسان: يبيعُه القوة كلَّها بالقليل من العلف!".
ويقول قبل ذلك: "أمَا والله لو عمَّ هذا الصّومُ الإسلاميُّ أهل الأرض جميعًا لآل معناه أن يكون إجماعًا من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهرًا كاملًا في السَّنة، لتطهير العالم مِن رذائله وفساده، ومَحْقِ الأَثَرة والبخل فيه، وطَرْحِ المسألة النفسية ليتدارسَها أهلُ الأرض دراسةً عمليةً مدةَ هذا الشهر بطوله، فيهبطَ كلُّ رجلٍ وكلُّ امرأةٍ إلى أعماقِ نفسه ومكامِنها، ليختبر في مصنع فِكْره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهمَ في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصّبر والثباتِ والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجاتِ الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقّقَ بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة".