الأدب الصغير والأدب الكبير
أحمد البراء الأميري
حول ابن المقفع ومختارات من كتابه (الأدب الصغير والأدب الكبير)
- التصنيفات: تربية النفس - الشعر والأدب -
قال العلامة محمد كرد علي في كتابه (أمراء البيان): "صحة الإيمان وحبّ الإسلام صفتان ماثلتان في ابن المقفّع، مهما تقوّل عليه المتقولون، وكان إلى هذا رجلَ نجدة وأنَفة، وكَرَم أخلاق، ومروءة، ووفاء، وحسن عشرة، وكان ربَّ جدٍّ وعمل، لا يستند في أموره على الخيال، وجُلّ اعتماده على عقله وتجاربه، وتجارب من سلف من حكماء الأمم، وكان محافظًا على شعائره..".
وقال عنه أبو حيان التوحيدي: "وهو أصيل في الفُرس، عريقٌ في العجم، مُفضَّل بين أهل الفضل... وكان سريًّا، سخيًا، يُطعم الطعامَ، ويتّسع على كلّ من يحتاج إليه".
ووصفه الجاحظ بقوله: "كان جوادًا، فارسًا، جميلًا".
وذكر الجهشياري في كتابه (الوزراء والكتاب) القصة التالية، وكانت بعد سقوط الدولة الأموية، وقيام الدولة العباسية، وملاحقة العباسيين لرجال تلك الدولة: "طُلب عبد الحميد الكاتب -وكان صديقًا لابن المقفع- ففاجأهما الطَّلَبُ وهما في بيتٍ، فقال الذين دخلوا عليهما: أيّكما عبدُ الحميد؟ فقال كلُّ واحدٍ منهما: أنا، خوفًا منِ أن يُنالَ صاحبهُ بمكروه..!".
ولا يُهمّنا عبد الله بن المقفع بشخصه، فقد مات الرجل قبل أكثر من ألف عام، لكننا نتحدث عن كتابه القيّم (الأدب الصغير، والأدب الكبير) الذي ملأه كنوزًا من الحكم ينتفع بها العاقل اليوم، وغدًا، كما انتفع بها في الأمس القريب والبعيد.
يقول الدكتور مفيد قميحة في مقدمته للكتاب: "الأدب الصغير والأدب الكبير رسالتان، بل كتابان غايتهما الإصلاح السياسي والاجتماعي... تركّز الأدب الكبير حول نقطتين رئيستين هما: السلطان وما يتعلق به من شؤون، والصداقة وما يتعلق بها من روابط ومعاملات، وضمَّ الأدبُ الصغيرُ شذراتٍ متفرقةً، وخواطرَ متعددةً، اعتَصَرَتْ في كلماتها القلائلِ زُبدةَ التجارب الماضية، واختزَلَتْ في ألفاظِ مختارة مُنتقاة حكمَ الأسلاف، ومواعظهم وآراءَهم في الحياة والوجود".
يقول ابن المقفع رحمه الله: "على العاقل أن يُحصي على نفسه مساوئها: في الدين، وفي الأخلاق، وفي الآداب، فيجمعَ ذلك كلَّه في صدره، أو في كتاب، ثم يُكثر عرضَه على نفسه، ويكلِّفها إصلاحَه، ويوظِّف ذلك عليها توظيفًا، من إصلاحِ الخَلَّةِ، والخلتين، والخِلال، في اليوم، أو الجمُعة، أو الشهر.
فكلما أصلحَ شيئًا محاه، وكلما نظر إلى مَحْوٍ استبشر، وكلما نظر إلى ثابتٍ اكتأب".
وإذا أردنا أن نعبِّر عما قاله الحكيم بأسلوب عصرنا، ونفصِّلَه بعض التفصيل قلنا:
إن العاقل الحكيم يسعى في إصلاح عيوبه وأخطائه ومساوئه، سواءٌ كانت دينيةً؛ كالغِيبة؛ وفي التهاونِ في أداء الصلاة والزكاة، أو خُلُقيةً؛ كسرعة الغضب، أو من العادات والآداب؛ كمقاطعة من يتحدّث في أثناء حديثه، أو حتى إهمال تنظيم الأسنان، والاستحمام وتقليم الأظافر.
ويكتب هذه العيوبَ في دفتر صغير يتّخذه، لا يُطلِع عليه أحدًا، ويطالع هذا الدفتر مراتٍ في اليوم. ثم يأخذ خَصلةً واحدة يكلِّف نفسَه إصلاحها.
وقد يحتاج في ذلك إلى وقتٍ يطول أو يقصر، فإذا انتهى منها، محاها، وانتقل إلى غيرها وهكذا.
وعندما كنت طالبًا في الصف الأول الثانوي (عام 1960م)، صحوتُ على نفسي، وتأثرتُ بحكمةٍ تروى عن سيدنا عمر بنِ الخطاب رضي الله عنه تقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوهَا قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر. فاتخذتُ لنفسي دفترًا صغيرًا رسمتُ جداول كتبتُ فيها ما أحبّ أن أتحلَّى به، وأتخلَّى عنه من الأخلاق والعادات، ولبثتُ على ذلك عامًا وبعضَ عام، فاستفدتُ فوائد كثيرة، ثم توقفتُ، فتقهقرت، وإلى الله المشتكى!.
وقال رحمه الله: "لا تعتذرنَّ إلا إلى من يحبّ أن يجدَ لك عُذرًا، ولا تستعينَنَّ إلا بمن يُحبّ أن يُظفرَك بحاجتكَ، ولا تُحَدِثَنَّ إلا من يرى حديثَك مَغْنَمًا. ما لم يغْلبْكَ".
"وإذا اعتذر إليك معتذرٌ فتلقَّهُ بوجهٍ مُشرقٍ، وبِشرٍ، ولسانٍ طلقٍ، إلا أن يكون ممّن قطيعتُه غنيمةً".
أما أنا فأرى أن يعتذر المرء لمن أخطأ معه، وإن كان نذلًا، لا لكرامته، إنما لكرامة نفسِ الحرِّ عليه، ولأن الحقّ أحقُّ أن يُتبع.
ثم يقول: "إذا غرستَ من المعروف غَرْسًا، وأنفقتَ عليه نفقةً، فلا تبخل في تربية ما غرستَ واستنمائه، فتذهب النفقةُ الأولى ضيَاعًا".
وهذا قريب من الذي يتصدّق بصدقةٍ، ثم يُبطل أجرها بالمنِّ والأذى.
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264].
يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (المتوفى عام 1376 هـ) رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية من سورة البقرة ما معناه:
كما أن الحسنات يذهبن السيئات، فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، والصفوان، هو الحجر الأملس الشديد، أصابه مطرٌ غزير، فغسل التراب عنه، فكذلك حال المرائي: قلبه غليظٌ قاسٍ بمنزلة الصخر، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الحجر الأملس، إذا رآه من لا يعرف حقيقة حاله ظن أنه أرض زكية صالحة للنبات، فإذا انكشفت الحقيقة، وزال التراب، تبين أن عمله بمنزلة السراب، فلهذا لا يقدرون على شيء من أعمالهم لأنهم وضعوها في غير موضعها، وجعلوها لمخلوقٍ مثلهم، فصرف الله قلوبهم عن الهداية.
وأقربُ إلى الآية الكريمة السابقة من قول ابن المقفع السابق قولُه: "إذا كانت لك عند أحد صنيعة (أي: معروف)، أو كان لك عليه طَوْل (أي: فضل)، فالتمس إحياءَ ذلك بإماتته، وتعظيمَه بالتصغير له، ولا تقتصِرَنَّ في قلَّة المنّ به على أن تقول: لا أذكره، ولا أصغي إلى من يذكره، فإن هذا قد يستحيي منه بعضُ مَنْ لا يوصف بعقلٍ ولا كرم، ولكنِ احذر أن يكون في مجالستك إياه، وما تكلمّه به، أو تستعينُه عليه، أو تجاريه فيه، شيء من الاستطالة (أي: التفضّل)، فإن الاستطالة تهدِمُ الصنّيعةَ، وتكدِّرُ المعروف".
ومن بديع الحكم قوله: "احترس من: سَوْرة (شِدَّة) الغضب، وسورة الحمّية، وسورة الحقد، وسورة الجهل، وأعدد لكل شيءٍ من ذلك عُدّةً تجاهده بها من: الحلم، والتفكّر، والرويّة، وذكر العاقبة، وطلب الفضيلة".
"واعلم أنك لا تُصيب الغَلَبةَ إلا بالاجتهاد والفضل، وأنّ قلّةَ الإعدادِ لُمدافعة الطبائعِ المتطلّعةِ هو الاستسلامُ لها، فإنه ليس أحدٌ من الناس إلا وفيه من كلّ طبيعة سوءُ غريزة، وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوّء. فأما أن يسْلم أحدٌ من أن تكون فيه تلك الغرائز فليس في ذلك مطمع. إلا أن الرجل القويّ إذا كابرها بالقمع لها كلّما تطلّعت لم يلبثْ ان يميتهَا حتى كأنها ليست فيه. وهي في ذلك كامنةٌ كُمونَ النار في العُود، فإن وجدتَّ قادحًا من عِلَّة، أو غفلةٍ، استورتْ (يعني: اتقدت واستعرت) كما تستوري النار على القدح، ثم لا يبدأ ضُرُّها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلا بعودها الذي كانت فيه".
ما أحكم هذا الكلام! وما أجدره بالتأمل العميق والتطبيق! والله الموفق.