ولكنكم تستعجلونَ!

أحمد كمال قاسم

لتخطيط لا بد وأن يكون في إطار تحقيق وظيفة الإنسان في الدنيا وهي (الخلافة) أو بتعبير آخر (إعمار الأرض). وإعمار الأرض هو إعمارها ليس ببناء ناطحات السحاب والتنافس في بناء أعلى برج في العالم للتفاخر به! لكنّه إعمارها بنشر نور الدعوة إلى الله تعالى والإيمان به عن طريق اتخاذ الوسائل اللازمة، لذلك حتى لو كان من ضمنها بناء ناطحات السحاب!

  • التصنيفات: قضايا الشباب - قضايا إسلامية -

أزمة المجتهدين ذوي الهمَّة منا هو أنهم كلهم يعملون للمستقبل، لكنهم لديهم مشكلة أساسية وهي تعريف (المستقبل)! الجميع يعلم أن الآخرة خيرٌ وأبقى، لكن هذا لن يُبتَغي إلا بسبيل العمل والنجاح في الدنيا، وعليه فالكل يعلم أننا يجب أن نجتهد في التخطيط للمستقبل، وهذا كله حق!

لكن أغلبنا يُصاب بالإحباط إن لم تنجح خطته -فضلاً عن من لم يخطط أصلاً!- وربما يترك العمل ويستسلم لليأس! وفي الحقيقة أن علَّته هو عدم فهم الحكمة من التخطيط والعمل فهمًا صحيحًا! وكي نفهم ما الأمر دعنا نتساءل ما هو (المستقبل) وكيف نخطط له؟!

المستقبل!
إن المستقبل مستقبلان: المستقبل النسبي الذي هو المستقبل الدنيوي، أي هو ما نتوقع بلوغه بعد عدد معين من الأعوام لو كنا ما زلنا أحياءً في الدنيا، والمستقبل المُطلق الذي هو ليس في دنيانا ولكنه في الآخرة التي هي دار البقاء..

أي المستقبلين أهم؟!
معظم القرَّاء ربما سيتوقعون انني سأقول أن المستقبل الأخروي أهم، وفي الحقيقة الأمر ليس بهذا التبسيط المُخِل، بل إنه كالآتي:

التخطيط للمستقبل النسبي والعمل تبعًا لهذه الخطة هو ذاته العمل للفلاح في المستقبل المُطلق!
أي أن كليهما مهمان، أو الأصح من هذا هو أن المطلق هو الغاية المهمة، والنسبي هو الوسيلة المهمَّة -بل إن اتخاذ الوسيلة هو ذاته الغاية كما سيتقدم!- ولا معنى لمقارنتهما لأنهما ليسا في نفس السياق.

لكن هل كل التخطيط والعمل للمستقبل النسبي هو عمل للفلاح في المستقبل المطلق؟!
والإجابة: لا. بل هناك قيد لا بد من التقيد به، وهو أن هذا التخطيط لا بد وأن يكون في إطار تحقيق وظيفة الإنسان في الدنيا وهي (الخلافة) أو بتعبير آخر (إعمار الأرض). 

وإعمار الأرض هو إعمارها ليس ببناء ناطحات السحاب والتنافس في بناء أعلى برج في العالم للتفاخر به! لكنّه إعمارها بنشر نور الدعوة إلى الله تعالى والإيمان به عن طريق اتخاذ الوسائل اللازمة، لذلك حتى لو كان من ضمنها بناء ناطحات السحاب!

اعمل لله ودع الإحباط!
لكن من أين يأتي الإحباط إذًا عندما لا يتحقق تخطيطنا للمستقبل النسبي؟!
الإحباط يأتي من أننا نظن أن تحقيق تخطيطنا هدف في ذاته! بينما الحق هو أن التخطيط والعمل في سبيل تحقيقه هو الهدف في ذاته، وليس تحقق التخطيط نفسه هو الهدف! إن الإنسان منَّا يمكن أن يموت في اللحظة القادمة..

هل معنى هذا أن يترك التخطيط والعمل في سبيل تحقيقه؟! أم هل كل منا يعمل لأنه لا يعلم أجله، وإن علم أن أجله بعد يوم سيغير نمط حياته، ولن يخطط للعام القادم ولن يعمل لهذا التخطيط؟!

رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنْ قامَتِ الساعَةُ وفي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسَيلَةٌ فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا» (صحيح الجامع:1424)، كثير من الناس إن سألته ماذا لو علمت أن موتك بعد يوم؟ يقول أنه سيقضي هذا اليوم في العبادة! ويحك! أو لم تكن تعبد الله بعملك لتحقيق خطتك في العام القادم؟!

بل إن تخطيطك والعمل في سبيل تحقيقه في إطار الخلافة في الأرض هو العبادة ذاتها! بل إن صلاتك وصيامك وزكاتك وحجك ليست هي الهدف في ذاتها! بل هي دعائم الهدف وهو (العبادة)، بتحقيق الخلافة في الأرض عن طريق نشر نور معرفة الله بين العالمين، أي نشر الحياة بين الناس، الحياة الحقيقية وليست الحياة البيولوجية!

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:٢٤]، فالصلاة والصيام والزكاة والحج هم أركان ودعائم العبادة، التي هي الحياة نفسها، الحياة بإحياء نفسك والعالمين من حولك {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢]، فالصلاة والنُسك تقدما لأنهما هم دعائم الحياة في سبيل الله والممات في سبيل الله، والحياة في سبيل الله هي العبادة وهي الخلافة وهي إعمار الأرض بكل ما في هذا كله من مهام!

ولكنكم تستعجلون
أوبعد هذا يصيبك الإحباط لأن النصر لم يحالفك؟! وهل لم يحالفك النصر فعلًا؟! أم أن النصر قد حالفك بعملك في سبيل نصر الله؟! أو ليس وعد الله حق؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧].

إن نصر الله لا يتأخر لحظة! لأن نصر الله لك هو ذاته نصرك لله! فإن نصرت الله فقد نصرك بنفس نصرِك له! وهل هداك لنصره إلا هو؟! {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور من الآية:21].

نعم إننا بالفعل نستعجل أمرًا واقعا!
فنحن نستعجل النصر بينما النصر معنا إن كنا نحن مع الله مهتدين بنوره في حياتنا الدنيا، فالنصر معنا من جهتين، أولهما أننا ننصر الله وهذا النصر في ذاته نصر، بل هو النصر الأهم، وثانيهما أن الله سينصر دينه في الدنيا -وهو بالفعل منتصر في الحقيقة- لا محال سواءً شهدنا هذا النصر في الدنيا أم علمنا خبره ونحن بين يدي الله بعد وفاتنا..

روى خباب ابن الأرت: "شكونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لهُ في ظلِّ الكعبةِ، قلنا لهُ: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو اللهَ لنا؟ قال: «كان الرجلُ فيمن قبلكم يُحْفَرُ لهُ في الأرضِ، فيُجْعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمنشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثنتيْنِ، وما يصدُّهُ ذلك عن دِينِهِ ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لحمِهِ من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدُّهُ ذلك عن دِينِهِ، واللهِ ليُتِمَّنَ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتٍ، لا يخافُ إلا اللهَ، أو الذئبَ على غنمِهِ، ولكنكم تستعجلونَ»" (صحيح البخاري).

الخلاصة:
اللهم ارزقنا رغد المستقبل في الآخرة بحسن التدبير والعمل لمستقبل الدنيا في نور هدايتك..
اللهم لا تجعلنا من المستعجلين لنصرٍ قد تكون قد رزقتنا إياه بالفعل!
والله أعلم.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام