آلام أم!
تلك الأصناف وغيرها كثير انتشرت الآن في بيوتنا المسلمة، وبانت علامات المروق من العهدة الأبوية والخروج من أمانة البر، والهروب من تبعة حقوق الوالدين، حتى إننا لنسمع يوميا من الأخبار مالا يصدقه عقل، لا ينبئنا بشيء إلا وقد نبأنا به ديننا وحذرنا منه رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
إنها الأم التي انتظرت وليدها في لهفة وشوق وتخيلت شكله وهو ينبض نبضاته الأولى في حملها فتحملت آلامها التسعة أشهر حتى إذا جاءت ساعة اللقاء التي تنسيها كل لحظة عناء.
بدأت أياماً أخرى أشد تعباً من سهر ورعاية وشقاء طوال اليوم، وكل يوم تنسى تعبه بضمة وليدها والنظر في وجهه البريء وهو يبتسم إليها، فلا ترضعه لبنا فقط بل ترضعه حناناً وعطفاً حتى يكبر أمامها يوما بعد يوم.
ومع شدة تعبها تزداد فرحتها به عندما تجده صار شاباً في ذات الوقت الذي بدأ الشيب يغزوها، فقد قدمت زهرة شبابها لذلك الابن.. ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين)، فأمره الله برعايتها وبرها: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا..)، وفي البخاري عن عبد الله بن مسعود لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله))
ورغم ذلك فإننا نجد منا أنواعاً مختلفين في رد الجميل لتلك الأم الكريمة المعطاءة.. فبعضهم أوفياء يردون لها بعض الجميل بالرعاية والبر من قلوبهم مخلصين لله - سبحانه - راجين منه - تعالى -المكافأة يوم الحساب.
لكن العجب كل العجب لمن أغفلته دنياه وألهته وسائل الفتن وسيطرت على قلبه فانتزعت منه إنسانيته فتاه مع التائهين وغرق مع الغارقين فغيرت تلك المغريات قلبه وأذهبت حياته فأنسته تلك الأم التي أحنت ظهرها في تربيته وشاب رأسها في رعايته
نعم إنها صور مؤلمة ومتكررة مع كل أسف لبعض الشباب حينما يتعامل مع أمه بالغلظة والشدة والعنف مما أدى إلى أن بعض الأمهات أصبحن يخفن من أولادهن خوفاً حقيقياً إذ لا يرعى الابن فيهن أمانةً ولا حقاً بل يقدم لها أسوأ النماذج في سوء الأدب والتطاول والعبوس والصراخ في وجهها!
إنه يعبس في وجهها بينما يبتسم في وجه أصدقائه الذين يقضي معهم الأوقات أو زوجته التي يعيش معها أو من يعلم منهم النفع الدنيوي، أما أمه فليس لها عنده سوى الوجه القبيح !
إنه سلوك خائن من هؤلاء الأبناء الذين ينبغي عليهم رد الجميل للتي هرمت وذابت في تربيتهم والتي أوصاهم الله - تعالى -بها حيث قال: ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)
وبينما الأم تنتظر يوماً آخر من أيام ابنها السعيدة، تنتظر يوم زواجه؛ لتسعد به وتفرح معه فرحاً يكاد يفوق فرحه هو ذاته، لا تدري تلك الأم أنها بذلك تنتظر يوم رحيل ابنها عنها بشكل شبه تام، ومقاطعته لها في غالب وقته، حتى إنه ليكاد منذ يوم زواجه لم يرها إلا في النادر من المناسبات والاحتفالات ويؤدي زيارتها عندئذ كشيء واجب عرفي ليس إلا!!
هذا الذي ألهته الدنيا بشدة انشغاله فهو في العمل صباح مساء، وقد يخرج من رحلة عمله اليومية متعباً إلى أن يعود إلى بيته وزوجته وأولاده، والأيام تتوالى وكلها تماماً تشبه بعضها حتى ينسى السؤال عن تلك الأم بل ويترك زيارتها والسؤال عنها!
حدثتني أحدى الأمهات بعدما سألتها هل من عمل عملتيه ثم ندمت عليه؟ فردت قائلة: نعم إنني اندم على تعبي وعذاب السنين التي قدمتها لأبنائي ثم هم ينسونني وأنا أعيش معهم في نفس المنزل لكن في الطابق العلوي، وأضافت: حتى إنني لو اشتقت لرؤية أحدهم أتحسس وقت نزوله وخروجه إلى عمله وأنظر إليه من وراء النافذة بقلب ينادي عليه وهو لا يسمعه، فأراه ولا يراني، إنني لا أريد من أبنائي مالاً ولا طعاماً، إنما أريد أن أراهم وآنس بهم ولو ساعة من كل نهار، لكنهم ينسون ذلك القلب الذي يصرخ مناديا عليهم!!
صنف آخر من الأبناء قدمت لهم أمهاتهم كل طاقاتها وربما زادت من جرعات الحنان والتدليل حباً لهم وإكراماً، لكنهم لم يقدروا أن هذه الأم قد تكون آملة أن تجد ذلك الابن أفضل الأبناء من حولها، وكانت تتمنى أن تباهى به الناس في خلقه ودينه وبره لها، لكنها سرعان ما تتبدد أحلامها، وتفيق على كابوس بغيض، عندما لا تجد أمامها إلا ابنا ظلم نفسه وأهملها، ورفض منها حتى أي كلمة لوم أو عتاب أو نصح، فالغشاوة على عينيه غطت، فلا يرى أمامه شيئا من الحقوق أو الأمانات..
حدثتني أم مهيضة الجناح كسيرة النفس معذبة، تشكو لي من سوء خلق ولدها الذي لا يزال يعيش معها في نفس الدار، تشكو من صحبته للأشرار والفساق، وإدمانه طول السهر مع تلك الصحبة السيئة التي دمرته وشكلته تماماً مثلها، فالمرء على دين خليله، وتحكي لي أمه أنها تستقبله كل مساء ودموعها قد ملأت عينيها وقلبها يعتصر حزناً وألماً، لا تستطيع أن تكلمه كلمة وإلا نالت منه ما تكره!، كم كانت تتمناه مطيعاً لربه، باراً بها، مصادقاً للأخيار، إنها لا تستطيع الآن إلا أن تنظر إلى السماء داعية ربها بأن يهدى لها ولدها وينتشله مما هو فيه، بينما قلبها يدمي أملا عليه!
صنف آخر من الأبناء لا يتذكر أبواه إلا عندما يحتاج منهما شيئاً كمال أو معونة أو مساعدة، إنه ليذكرهم في أحزانه وفي ضوائقه، ثم ينساهم في أفراحه ومسراته، ووقت رغده، فالخير إن أتاه لا يعم إلا على زوجته وأولاده وينسى أن يقدم لأبويه أي لمسة من ذلك الخير حتى إنه إذا هم برحلة أو نزهة لا يتذكر سوى زوجته وأولاده هارباً من أبويه وكأنهم أصبحوا عليه عبئاً ثقيلاً، وينسى أنهم قد حملوه صغيراً واصطحبوه دوماً معهم في كل وقت، فالآن تغير الحال أصبح الهروب منهم هو الأصل!
ولنتأمل عجباً أيها القارئ الكريم، كيف قد يسعد الكثير بإنجاب البنين دون البنات بينما في كثير من الأحيان لا يجد الوالدان ما يرتجون من البر إلا عند البنات، فلو كانوا يعلمون الغيب لارتجوا خلاف ما رغبوا فيه!
تلك الأصناف وغيرها كثير انتشرت الآن في بيوتنا المسلمة، وبانت علامات المروق من العهدة الأبوية والخروج من أمانة البر، والهروب من تبعة حقوق الوالدين، حتى إننا لنسمع يوميا من الأخبار مالا يصدقه عقل، لا ينبئنا بشيء إلا وقد نبأنا به ديننا وحذرنا منه رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.
إننا لنطالب الأمهات الحزانى صاحبات الآلام من فعل أبنائهن، مكسورات القلب والنفس من سلوك من كن يرجين منه الأمل المستقبل في البر والرعاية، أن يلجأن إلى الله - سبحانه -، فليس لهن غيره، ولا ينتظرن من أحد معونة، فإن المعونة من الله - سبحانه -، وليؤدبن أبناءهن بطرق عديدة ولا يتركن أنفسهن نهبا للأحزان والآلام، ولا يدعن قلوبهن يقتلها الكمد والهم، وليكن إيجابيات في مواجهة المشكلة، ليفكرن في طريقة تقويم ذلك الابن مهما كبر ومهما تبوأ من مكانات، بالنصح تارة، وبالزجر تارة، بل وبالهجر الجميل تارة أخرى، لعلهم أن يتعظوا ويؤوبوا ويعودوا، فإن أبوا واستمروا في غيهم..فلله المشتكى وإليه المرجع والمآل!
أميمة الجابر