بـر الوالديـن
عباد الله! الإسلام دين الخلق العظيم، والنهج القويم، والتعامل الكريم دين المودة والألفة والمحبة والأخوة والشفقة والرحمة والبر والصلة، الالتزام بمنهجه سعادة والارتباط بأحكامه عزة والتأدب بآدابه حماية تفلح الشعوب إذا صارت على منواله وتقوى شوكة المجتمعات الملتزمة بحباله، يزرع الطمأنينة وينشر المحبة ويبث المودة يسري رحيق آدابه إلى القلوب فيحييها ويفيض نداه إلى النفوس فيرويها ويفوح شذا عبيره إلى العقول فيهديها وينعشها ويزكيها.
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالهدى ودين الحق فبلغ البلاغ المبين - صلى الله عليه وسلم - وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [الحشر: 18]، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) [النساء: 1].
عباد الله! الإسلام دين الخلق العظيم، والنهج القويم، والتعامل الكريم دين المودة والألفة والمحبة والأخوة والشفقة والرحمة والبر والصلة، الالتزام بمنهجه سعادة والارتباط بأحكامه عزة والتأدب بآدابه حماية تفلح الشعوب إذا صارت على منواله وتقوى شوكة المجتمعات الملتزمة بحباله، يزرع الطمأنينة وينشر المحبة ويبث المودة يسري رحيق آدابه إلى القلوب فيحييها ويفيض نداه إلى النفوس فيرويها ويفوح شذا عبيره إلى العقول فيهديها وينعشها ويزكيها.
وإن من أعظم آدابه التي دعا إليها ومحاسنه التي حث عليها: بر الوالدين.
فهو من كمال الإيمان وحسن الأعمال ومن أفضل العبادات وأجل القربات طريق إلى الجنة وسبب للمغفرة وزيادة في العمر وبركة في الرزق.
الأبوان رمز العطف وعنوان الشفقة ومهبط الرحمة.
الأبوان زينة الحياة وسعادة الوجود واستمرار الأنس وامتداد الرعاية والشعور بالعناية.
الأبوان وجودهما دعاء مستمر، وحرص مستنير، وعاطفة ملازمة، ورحمة مخيمة.
هل هناك أجمل وأحسن لدى الولد البار من صوت أبيه يدوي في البيت ومن نغمة تتردد في المنزل؟ هل هناك أمتع لدى الولد البار من يد أبيه الحانية يجد بردها على صدره ويشم عطرها بكفه؟ وهل هناك أروع من ابتسامة الأم في البيت، ومن حسن لقائها وروعة دعائها تنتقل في أركان البيت بسجادتها الطاهرة، فما هو إلا صلاة ودعاء وبكاء ورجاء وتكبيراً وتهليلاً وتسبيحاً وتحميداً.
نصف صلاتها تسبيح واستغفار ونصفها دعاء وانطراح بين يدي الجبار أن يحفظ ابنها ويحميه ويقيه شر الأشرار، تغضب أنت على أبنائك فتريد عقابهم فتقف الأم حائلاً دونهم وتجعل نحرها دون نحورهم، لا تنام حتى تعود إلى بيتك ولا تهدأ حتى تجد صوتك وتطمئن على وجودك وصحتك وعافيتك، وقد تنزل بك النازلة لا سمح الله أو تحل بك الكارثة فيضجر منك الناس ويمل منك جل الأقارب، بل ربما إذا امتد بالإنسان المرض وطال به القعود تسأم منه زوجته وبنوه وإخوانه وأهلوه إلا الوالد والوالدة فلا يزيدهما إلا صبراً واحتساباً وخدمة وحناناً.
إليك هذه القصة المؤثرة لترى حنان الأم وعطفها ورقتها وصبرها وتفردها وتميزها منذ قديم الزمان.
كان صخر بن الشريد أخو الخنساء في غزوة يقاتل فيها قتالاً شديداً، فأصابه جرح واسع، فمرض فطال به مرضه، وعاده قومه، فقال أحد الزائرين يوماً لامرأته سليمى: كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حياً فيرجى، ولا ميتاً فينسى، فسمع صخر كلامها فشق عليه وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا، قالت: نعم غير معتذرة إليك، ثم جاءهم زائر آخر، فقال لأم صخر: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحاً لا نزال بحمد الله بخير ما رأينا سواده بيننا، فلما سمعها صخر أنشد قائلاً:
أرى أم صخر ما تمل عيادتي *** وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة *** عليك ومن يغتر بالحدثان
فأي امرئ ساوى بأم حليلة *** فلا عاش إلا في أذى وهوان
لعمري لقد أمدحت من كان نائماً *** وأسمعت من كانت له أذنان
أيها الأحبة! إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية لكل شيء بالذات وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة، فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية، وهما مع ذلك سعيدان بهذا البذل وهذه التضحية أما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ويندفعون بدورهم إلى الأمام إلى الزوجات والذرية وقلما يوجه اهتمامهم إلى الوالدين وفي هذا تنكر للجميل وعصيان للوالدين ونسيان للمعروف وإهدار للإنسانية.
تعالوا -أيها الأحبة- في سياحة سريعة لنرى مكانة الوالدين في شرعنا الحنيف، ونهجنا المطهر، ودستورنا المبجل، لقد قرن الله - تعالى - طاعة الوالدين بطاعته، وجعلها تالية للأمر بتوحيده وعبادته، فقال - عز وجل - في هدايته: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))[النساء: 36]، وقال عز من قائل: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))[الإسراء: 23]، وقال - جل وعلا -: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ))[لقمان: 14]، وهنا على وهن: جهد على جهد وضعفاً على ضعف، وفصاله في عامين: أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ثم انظروا إلى هذه الآيات العظيمة والكلمات المؤثرة والعبارات الموحية في قوله - جل وعلا -: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) [الإسراء23 - 24].
وكلمة (عِنْدَكَ) وتقديم الظرف وهو: (عِنْدَكَ) يصور معنى الالتجاء والاحتماء من حالة الكبر والضعف، والنهي عن كلمة أف، أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق وما يشي بالإهانة وسوء الأدب: ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ))[الإسراء: 24]، هنا يشف التعبير ويلطف حتى يبلغ شغاف القلب، فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً ولا يرقب أمراً وكأن ما لهذا الذل جناح يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام: ((وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا))[الإسراء: 24]، أمر بالدعاء ولفتة للتذكير بأيام الطفولة الضعيفة التي رعاها الوالدان، هكذا تتجلى عظمة القرآن وروعة أحكامه وسمو تعاليمه وقمة آدابه ولا غرو فهو من لدن حكيم عليم.
وإن العناية ببر الوالدين لم تكن مقصورة على الشريعة الإسلامية فحسب بل كان كذلك في الشرائع السابقة ومنذ بزغ فجر الإسلام قال - جل وعلا -: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))[البقرة: 83]، وقال - تعالى -عن يحيى - عليه السلام -: ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا))[مريم: 14]^، وقال - تعالى -عن عيسى - عليه السلام -: ((وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا))[مريم: 32].
أما الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - فأكثر من أن تحصى فقد أمر ببر الوالدين ودعا إلى طاعتهما وحذر من العقوق وعده من كبائر الذنوب، قال - صلى الله عليه وسلم -: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس قال: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت » متفق عليه.
وجاء رجل إليه - صلى الله عليه وسلم - يقول: « أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله - تعالى -، فقال: فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما » ما أعظمه من دين وما أعظمه من تربية وما أسعده من منهج.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: « رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخلاه الجنة »، « وسأله رجل عن أحب العمل إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين ».
ويؤكد - صلى الله عليه وسلم - على طاعة الأم بالذات وزيادة الاهتمام بها؛ لأنها هي التي نالت أشد التعب، وتعرضت لأنواع الشدائد، كم صبرت على ألم؟! وكم سهرت من ليال؟! وكم ذرفت من دموع؟! وكم لحقها من ويلات الحمل والولادة والرضاعة والتربية؟!.
سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك » متفق عليه.
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن خير التابعين أويس القرني وحث من وجده أن يطلب منه أن يستغفر له وضمن أنه لو أقسم على الله لأبره، والسبب: أن له والدة كان براً بها.
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة تحت أقدام الأمهات.
استمع إلى هذا الحديث الرائع والخبر الماتع عنه - صلى الله عليه وسلم - عن معاوية - رضي الله عنه - قال: « أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك! أحية أمك، قلت: نعم يا رسول الله! قال: ارجع فبرها ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك أحية أمك؟ قلت: نعم، قال: ارجع إليها فبرها ثم أتيته من أمامه قلت: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ويحك أحية أمك؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: ويحك الزم رجلها ثم الجنة ».
ثم انظر إلى شؤم العقوق وفظاعته وما يحل بالعاق من المكر والعذاب يقول - صلى الله عليه وسلم -: « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى » أخرجه النسائي.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: « رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد »، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى لفتة عظيمة وواقع ملموس وأمر مشاهد وسنة متبعة وهو أن العاق لوالديه تظهر عليه أسباب الندامة وملامح العقوبة وعلامات الشقاء وويلات العذاب في الدنيا قبل الآخرة يقول - صلى الله عليه وسلم -: « كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا البغي وعقوق الوالدين أو قطيعة الرحم يعجل لصاحبه في الدنيا قبل الموت ».
وكم والله رأينا من إنسان تنغص حياته، ويكدر عيشه، وتنزل به المصائب، وتحل به ،الكوارث وتجمع الناس أنه بسبب عقوقه لوالديه، وكم رأينا من إنسان ليس لديه كثرة صلاة أو صيام، ولكنه موفق في حياته سعيد مع أهله، مبارك في رزقه، ويعرف الناس أنه ببركة دعاء والديه، وببره وطاعته لأبويه.
جعلنا الله وإياكم من الموفقين البارين بالوالدين الفائزين برضا رب العالمين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله واشكروه وأطيعوه وراقبوه واعلموا أنكم ملاقوه.
عباد الله! وكما سبق في الخطبة الأولى وتحدثنا عن أهمية بر الوالدين، وخطر العقوق وأضراره نتحدث عن مظاهر العقوق لنحذر منها، فمنها:
تعريض الوالدين للسب أو اللعن، قال - صلى الله عليه وسلم -: « إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه » رواه البخاري ومسلم؛ وهذه وللأسف تسمعها من كثير من الشباب.
ومنها: سب الوالدين مباشرة، وإيذاؤهما ولو حتى بكلمة من حرفين (أف) ولو وجد أقل منها لقيلت:
غذوتك مولوداً ورمتك يافعاً *** تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضامتك بالسقم لم أبت *** لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي *** طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها *** لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي *** إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلـت جزائي غلظة وفظاظة *** كأنـك أنـت المنعـم المتفضل
فليتـك إذ لم ترع حق أبوتي *** فعلـت كما الجار المجاور يفعل
ومن مظاهر العقوق: الاهتمام بالزوجة والذرية وفرض كل الوقت والمال والعناية بهم مع إهمال الوالدين، واهتمام الرجل بزوجته وأبنائه، ليس به عيب أو غضاضة، لكن ذلك يشبه مقيتاً إذا قدم كل ذلك على والديه والتمس رضا المرأة معرضاً عن رضا الأم وليعلم كل إنسان أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، فإن بررت والديك برك أبناؤك، وإن من أعظم البر: إدخال السرور على والديك لتكسب به دعاء وحباً ورضا وقبولاً كيف يغفل المرء وينسى والديه وهما أصحاب الفضل عليه؟! كيف ينسى أمه؟!
كيف أنساك وقد أفنيت عمراً *** ترسمين الحب حولي والأماني
كيف أنساك وفي قلبي هوى *** صاغه النور حروفاً في لساني
كيف يا أماه أنسى قبلة *** ويداً كل مناها في احتضاني
ومن العقوق: عدم برهما والإحسان إليهما بعد وفاتهما قال رجل: « يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما -أي الدعاء لهما- والاستغفار وإنفاذ عهدهما بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: « إن أبر البر: صلة الرجل أهل ود أبيه ».
وأخيراً: إليكم هذه التربية منه - صلى الله عليه وسلم - عن طريق القصة، في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، قال - صلى الله عليه وسلم -: « انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أي لا أقدم العشاء لأحد قبلهما- أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون -أي يتصايحون عند قدمي- فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه..» إلى آخر الحديث المتفق عليه.
وهكذا كان بر الوالدين سبباً لنيل رحمة الواحد الأحد وسبباً في إجابة الدعاء، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله - عز وجل -: من بر الوالدة، ويقول أيضاً: ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسباً إلا فتح الله له بابين يعني في الجنة وإن كان واحداً فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه قبل، قيل له: وإن ظلما؟ قال: وإن ظلما.
وقد ضرب الصحابة -رضوان الله عليهم- أروع الأمثلة في البر بالوالدين، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - كان في بيت وأمه في بيت آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.
قال المأمون: لم أر أحداً أبر من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره به أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماء مسخن، وهما في السجن، فمنعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم كان يسخن فيه الماء، ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائماً وهو في يده حتى أصبح.
يقول الإمام أحمد: بر الوالدين كفارة الكبائر.
وخلاصة الأمر أن بر الوالدين هو الخير والفلاح والرضا والسعادة والسرور والحبور في الدنيا والآخرة، قال - تعالى -: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))[نوح: 28].
هذا وصلوا على من أمرتم بالصلاة عليه، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء الأئمة النجباء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى الصحابة والقرابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين واحم حوزة الدين وأهلك الكفرة وسائر المشركين المحادين لدينك المعادين لأوليائك الذين يبغونها عوجاً اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم أنزل رجزك وسخطك إله الحق الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم من أرادنا أو أراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم أنجهم في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية.
اللهم ألف بين أهل الإيمان واجمع كلمتهم على الحق وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وتتوب علينا وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم اهدنا واهد بنا ويسر الهدى لنا، اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
علي بن محمد بارويس