المرضى وكبار السن .. الإسلام يكرمهم .. والغرب يقتلهم

برغم ما أحرزته الحضارة الغربية من تقدم مادي وتكنولوجي في هذا العصر؛ فإن الحضارة العربية الإسلامية تظلُّ هي الأبقى والأصلح؛ لما تتميز به من طابع إنساني، يقوم على احترام آدمية الإنسان أيًّا كانت ديانته، أو جنسيته.

  • التصنيفات: الأدب مع الوالدين -

- القتل الرحيم.. حيلة شيطانية اخترعها المجتمع الغربي للتخلص من المرضى وكبار السن.

- رحمة الصغير، وتوقير الكبير، ورعاية المريض؛ قيم إسلامية أصيلة، لا يجوز أن يفقدها المجتمع.

- توعية المجتمع بمكانة المسنِّين وحقوقهم، من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية.

برغم ما أحرزته الحضارة الغربية من تقدم مادي وتكنولوجي في هذا العصر؛ فإن الحضارة العربية الإسلامية تظلُّ هي الأبقى والأصلح؛ لما تتميز به من طابع إنساني، يقوم على احترام آدمية الإنسان أيًّا كانت ديانته، أو جنسيته.

ولقد وصلت الحضارة الغربية إلى قمة انهيارها وفسادها عندما أهدرت قيمة البشر، وحوَّلتهم إلى مجرد آلات تعمل، فإذا توقفت عن العمل- لمرض، أو عجز، أو شيخوخة - فلا سبيل إلى صيانتها، ولكن يجب التخلص منها. فأصحاب هذه الحضارة المادية يبيحون القتل، ويسهِّلون سُبُلَه، ويقدِّمون الوصفات السحرية للانتحار والتخلص من الحياة لمن يرغب في ذلك.

هذه الحيلة الشيطانية التي يسمونها بـ "القتل الرحيم" - والتي تستهدف أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن - لها جذور تمتد لعشرات السنين؛ فقد أُلِّفَتْ في إنجلترا عام (1936م) جمعية باسم "القتل بدافع الرحمة"، طالبت السلطات بإباحة الإجهاز على المريض الميئوس من شفائه، وتكرر الطلب، فرُفض، كما تكونت جمعية لهذا الغرض في أمريكا، وباء مشروعها بالفشل سنة (1938م)، وما زالت هذه الدعوة تكسب أنصارًا في هذه البلاد، فانتشرت انتشاراً عظيماً في أمريكا ودول الغرب، ووصل الحدُّ ببعض هذه الدول إلى وضع تشريعات قانونية تسمح بهذا القتل، ولا تجرِّم مرتكبيه من الأطباء وغيرهم، مثل هولندا، كما وصل الحدُّ ببعض الأطباء إلى اختراع الأجهزة التي تسهِّل الانتحار للراغبين فيه، وأُعدَّت البرامج التلفازية لترويجه، ونُشرت الكتب التي تؤيده وتدعو إليه. 

حجج فاسدة:

يستند المؤيدون للقتل الرحيم في المجتمع الأوربي إلى عدة حجج؛ منها: أن الإنسان حرٌّ في تقرير مصيره، وله حق التصرف في جسده كما يشاء؛ فله حق الحياة وحق الموت، وحقٌّ أن يُقتل إن هو طلب ذلك، وأن القتل الرحيم من شأنه أن يريح المريض من معاناته وآلامه، كما أن القتل الرحيم بمنزلة مساعدة على الانتحار. ويقولون: إن حياة بعض كبار السن والمرضى لا تساوي عدمها، وخير لهم أن يموتوا، وإن قيمة الحياة تقاس بمقدار مساهمة الإنسان إبداعًا وإنتاجًا، ويقولون أيضاً: ما قيمة الحياة عندما يصبح الإنسان معتمداً على غيره في قضاء حوائجه؟!.

كما يستند هؤلاء إلى العامل الاقتصادي، ويرون أن التخلص من بعض المرضى وكبار السن فيه توفيرٌ مادي على المجتمع والدولة، فمن الواجب تخليص المجتمع من الحشائش الضارة!! ويمثِّلون لذلك بمرضى الإيدز. 

حياة الإنسان قيمة:

إن الأسانيد التي اعتمدوا عليها في تقنين هذا القتل مردودة؛ إذ تحكمها النزعة المادية البحتة، وتهدر قيمة الحياة البشرية، وتقيس هذه الحياة بميزان النفع المادي للإنسان، فإذا توقف هذا النفع أو تعطَّل - لمرض أو عجز - فلا ضرورة لبقاء الإنسان على قيد الحياة، وهي الدعوى التي تقدم خير دليل على فساد الحضارة الغربية وانهيارها، وإهدارها لحقوق الإنسان، خاصةً في حالة العجز والمرض، إن الإنسان في هذه الحضارة مجرد آلة صماء، إذا تعطلت وعجز المجتمع عن إصلاحها يجب التخلص منها، فماذا بقي لهذه الحضارية المادية البغيضة كي تحافظ عليه، بعدما أهدرت قيمة البشر، وسعت لإقامة المجازر والمقاصل للمرضى وكبار السن تحت حماية القانون، مع ما أحرزته من تقدم مادي وتكنولوجي في هذا العصر؟!. 

موقف الإسلام:

قوبلت هذه الدعوى الخبيثة في عالمنا العربي والإسلامي بالرفض، فقتل الإنسان أيًّا كان؛ سواء المريض الميئوس من شفائه، أو المُسِنّ العاجز عن الحركة والعمل - كما يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر -: "ليس قرارًا متاحًا من الناحية الشرعية للطبيب، أو لأسرة المريض، أو للمريض نفسه، وحياة الإنسان أمانة يجب أن يحافظ عليها، وأن يحفظ بدنه ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة؛ لقوله - تعالى -: ( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، وقد حرَّم الإسلام قتل النفس؛ لقوله - تعالى -: ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: 29]، ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أن يقتل الإنسان نفسه نهيًا شديدًا، وتوعَّد من يفعلون ذلك بسوء المصير في الدنيا والآخرة، فقد أكَّدت شريعة الإسلام على التداوي من أجل أن يحيا الإنسان حياة طيبة، كما أمرت الشريعة الإسلامية الأطباء بأن يهتموا بالمريض، وأن يبذلوا نهاية جهدهم للعناية به، وعلى الطبيب والمريض أن يتركا النتيجة إلى الله - سبحانه وتعالى -. كما أن على الطبيب ألا يستجيب لطلب المريض إنهاء حياته، وإذا استجاب؛ يكون خائنًا للأمانة - سواء بطلب المريض أو بغير طلبه - وإلا أصبح قاتلاً، وتعرض للعقاب".

أكدت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف أن الإسلام يحرم قتل المريض بدعوى الرحمة، وقالت اللجنة: "إن الآجال محددة بعلم الله - سبحانه -، ولا يدري أحد ولا يستطيع تحديد متى يموت، ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34]، والمرض وحده ليس كافياً في توقع الموت؛ فكم من حالاتٍ أجمع الناس فيها على حتمية الموت العاجل، ثم كانت إرادة الله - عز وجل - بالشفاء!! فنتائج الأسباب مظنونة، وإرادة الله - عز وجل - غالبة".

والإسلام يحرم القتل بدافع الرحمة مهما كان الغرض منه، ولا يبيحه لمن يشرف على علاج المريض، سواء أكان طبيباً أو غيره، حتى وإن أَذِنَ المريض أو أولياؤه؛ لأنه قتل حرَّمه الله - سبحانه - إلا بالحق، والمريض إن أَذِنَ به يعد منتحراً، هذا وقد تقدم نهيه - سبحانه - عن قتل النفس، حيث قال - تعالى -: ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً). 

الإسلام وكبار السن:

إن المتأمل في نظرة الإسلام إلى كبار السن؛ لتتبدَّى له حقيقة ثابتة، ألا وهي أن الإسلام - من منطلق الكرامة الإنسانية التي قررها لكل فرد من بني آدم - قد اهتم بالإنسان في جميع مراحل حياته؛ حيث يقول الله - تعالى -: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70]، ومراحل حياة الإنسان هي قوة بين ضعفين؛ شباب بين طفولة وشيخوخة، وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في قوله - تعالى -: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54]، فالإنسان لا محالة أي إنسان تبدأ حياته بطفولة ضعيفة، قد تنتهي بشيخوخة ضعيفة أيضاً - إذا أمد الله في عمره، فيصبح في حاجة إلي رعاية غيره من أفراد المجتمع.

ولقد أقر البرلمان الكويتي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قانوناً يعاقب المسيء لوالديه ولكبار السن، يدعو هذا القانون إلى رعاية المسنين، ويقضي بفرض عقوبات مشددة على كل من يتعرض لوالديه ولكبار السن بالأذى وسوء المعاملة، وحدَّد هذا القانون عقوباتٍ على من يتعرض بالسوء لوالديه أو أيٍّ من أقربائه، وعلى من لا يرعى والديه الرعاية المستحقة، خاصة عند وقوع ضرر جسيم.

ومن نصوص هذا القانون: إذا كان الضرر الواقع على أحد كبار السن من قريب له؛ فإن العقوبة هي السجن لمدَّة عام - كحدٍّ أقصى -، وبغرامة تتراوح بين خمسة آلاف دينار - كحدٍّ أقصى -، وألف دينار على الأقل، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

 وأما إذا كان المتضرِّر هو أحد الوالدين؛ فإن العقوبة هي السجن مدةً لا تتجاوز السنتين، وتتراوح الغرامة بين ألفين وعشرة آلاف دينار. وشدد هذا القانون على حقوق الوالدين؛ فقرَّر أن العقوبة قد تصل إلى السجن مدة قد تصل إلى عشر سنوات، وتتراوح الغرامة بين ألفين وخمسة آلاف دينار كويتي.

وأصدر مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة في إحدى دوراته السابقة قراراً بشأن حقوق المسنين؛ انطلاقاً من حاجة المجتمع الإسلامي اليوم إلى من يذكِّره بهذه الحقوق المنسية، ويقوده إليها، بعد أن بدأت بعض قيم الغرب المادية تنتشر بيننا.

أكد مجمع الفقه الإسلامي ما قرره الإسلام من رعاية الأبوين وكبار السن في المجتمع الإسلامي؛ حيث يقول الله- سبحانه -: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أكرم شابٌّ شيخاً لسنّه؛ إلا قيَّض الله لهم من يكرمه عند سنِّه))؛ أخرجه الترمذي، وقال أيضاً: ((ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا))؛ رواه الترمذي، وأحمد في "مسنده".

وقرر مجمع الفقه الإسلامي ضرورة توعية المُسِنِّ بما يحفظ صحَّته الجسدية والروحية والاجتماعية، ومواصلة تعريفه بالأحكام الدينية التي يحتاج إليها في عبادته ومعاملاته وأحواله، وتقوية صلته بربه، وحسن ظنه بعفوه - تعالى - ومغفرته، وتأكيد أهمية عضوية المسنين في المجتمع، وتمتعهم بجميع الحقوق الإنسانية، وأن تكون أُسَرُهم هي المكان الأساسي الذي يعيشون فيه؛ ليستمتعوا بالحياة العائلية؛ وليبَّرهم أولادهم وأحفادهم، وينعموا بصلة أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، فإن لم تكن أُسَرٌ؛ فينبغي أن يوفَّر لهم الجو العائلي في دور المسنين.

كما يجب توعية المجتمع بمكانة المسنين وحقوقهم من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية، مع التركيز على بر الوالدين، وإنشاء دور الرعاية للمسنين الذين لا عائل لهم، أو تعجز عائلاتهم عن القيام بهم، والاهتمام بطب الشيخوخة في كليات الطب والمعاهد الصحية، وتدريب بعض الأطباء على اكتشاف أمراض المسنين وعلاجها، مع تخصيص أقسامٍ لأمراض الشيخوخة في المستشفيات، وتخصيص مقاعد للمسنين في وسائل النقل، والأماكن العامة، ومواقف السيارات، وغيرها؛ لرعايتهم. 

عناية الإسلام بكبار السن:

وهذه الحقوق التي قرَّرها مجمع الفقه الإسلامي للمسنين إنما هي بعضٌ مما كفله الإسلام لهم من حقوق، فلا يوجد دين عُني بحقوق الشيوخ وكبار السن كما عُني بها هذا الدين، فالإسلام يُعنى بالإنسان طفلاً، ويُعنى به صبياً، ويُعنى به شاباً، ويُعنى به كهلاً، ويُعنى به شيخاً، إنه يمضي مع الإنسان في رحلة حياته كلها، من المهد إلى اللحد، من صرخة الوضع إلى أنَّة النـَّزْع، يشرِّع لهذا الإنسان، ويوجهه في جوانب حياته كلها.

وفي ذلك يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "عُني الإسلام بمرحلة الشيخوخة، ومرحلة الشيخوخة مرحلة طبيعية من مراحل حياة الإنسان، أشار القرآن إليها حينما قال: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) [غافر: 67]؛ فقد أشار إلى المرحلة الجنينية، والمرحلة الطفولية، ومرحلة بلوغ الأَشُدِّ، وتشمل مرحلة الشباب والكهولة، ثم مرحلة الشيخوخة، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً.

هكذا لابد أن يصل الإنسان إذا لم يدركه الموت في الصِّغَر؛ أن يصل إلى الشيخوخة، والشيخوخة مرحلة ضعف، فالسنين تعمل عملها في الإنسان، كما تعمل عوامل التَّحَاتِّ والتعرية في الأرض وفي المادة وفي الحياة الطبيعية، كذلك مُضِيُّ السنين والأعوام يعمل في الإنسان؛ فيضعُف بعد قوة، وتقل حواسه من السمع والبصر، ويضعُف إدراكه، ويعتمد على عُكَّازةٍ بعد أن كان يمشي على رجلَيْه سليمتَيْن"!!.

ومن الشيخوخة مرحلة متأخرة سماها القرآن أَرْذَلُ العُمُر: ( وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) [الحج: 5]. وأرذل العمر - كما قال ابن عباس -: أردؤه؛ بحيث يصبح المرء كالصبي الصغير، يحتاج إلى غيره في كل الأشياء، أو في معظم الأشياء، لقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله من أمور خمسة؛ قال: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أَرْذَل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، ومن عذاب القبر)). استعاذ بالله أن يُردَّ إلى أَرْذَل العُمُر فينسى بعد تذكُّر، ويضعف بعد قوة، ويصبح كَلاًّ على غيره، فهذا مما يُستعاذ بالله - تعالى - منه. 

حقوق مؤكدة:

والإنسان إذا بلغ من الكبر عتيّاً - كما يقول القرضاوي -: "ضعُف واحتاج إلى غيره، وقد عبَّر عن ذلك نبي الله زكريا، حينما قال: ( رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً) [مريم: 4]. هذه طبيعة الإنسان، أن يَهِنَ عظمه، وتضعف قوته وحيلته، ويفتقر إلى معونة غيرِه. بعد أن كان هو الذي يعين غيرَه، ويعُول أولاده، أصبح في حاجة إلى معونة أولاده!! وهنا يوجب الإسلام لهذا الإنسان الضعيف حقوقاً مؤكدة، حقوقاً مادية وحقوقاً أدبية، فمن حق هذا الإنسان أن يعيش مكفول الحاجات المادية، لابد أن يوفَّر له مطعَمه، ويوفَّر له مشرَبه، ويوفَّر له ملبَسه، ويوفَّر له مسكَنه، وتوفَّر له أدويته، وكل ما يحتاج إليه. هذه الأمور لابد أن توفَّر له، وأول من ينبغي أن يوفِّر له هذا هو أسرته وأولاده؛ فله حقٌّ عليهم؛ كما أنه رباهم صغاراً، يجب أن يكفلوه كبيراً. هذا حقٌّ من حقوق الله - تعالى - على الأولاد، ومن حقوق الوالدين على أولادهم، لا يجوز لهم أن يفرِّطوا في هذا الحق بوجه من الوجوه، ولا أن يمتنُّوا على آبائهم ولا أمهاتهم بهذا؛ فهو حقٌّ مؤكَّد، ولذلك لم يُجِزْ الفقهاء أن يعطي الإنسان زكاته لأبيه وأمه؛ لماذا؟ لأن نفقتهم واجبة عليه؛ فكأنما يعطي نفسه، هؤلاء جزء منك، جزء من أسرتك، كما يجوز لك أن تعطي ابنك، يجوز لك أن تعطي أباك، فالنفقة نفقة واجبة مؤكدة".

وإذا لم يكن الأولاد قادرين؛ فعلى المجتمع أن يسد هذه الحاجة؛ فالإسلام يجعل أهل كل حيٍّ، وأهل كل قريةٍ، وأهل كل عَرَصةٍ - ساحة - متكافلين فيما بينهم، يأخذ القوي بيد الضعيف، ويصب الغني على الفقير، ويحمل بعضهم بعضاً؛ فكأنهم أسرة واحدة، ((ليس منَّا مَن بات شبعانَ وجارُه إلى جَنبه جائع وهو يعلم))، ((أيُّما أهل عَرَصَة من المسلمين بات فيهم امرؤ جائع؛ فقد برئت منهم ذمَّة الله وذمَّة رسوله)). وإذا لم يكفِ ذلك، يؤخذ من موارد الدولة، التي قد تكون من الزكاة، أو من الغنائم - خمس الغنائم - قد تكون من الفيء، قد تكون من الخراج، قد تكون من أملاك الدولة مما يفيء الله عليها من باطن الأرض؛ من النفط، من الذهب، من المعادن، من أشياء أخرى تملكها، كل هذا لهؤلاء الشيوخ الضعفاء حقٌّ فيه، ولا يجوز أن يذهب هذا الحق، ولا أن يضيع أبداً في أمة مسلمة. 

الحقوق الأدبية للمسنين:

والإسلام يوجب علينا أن نرعى حقوق المسنين المادية وحقوقهم الأدبية؛ فالإنسان ليس مجردَ حيوان يأكل ويشرب، الإنسان أكبر من ذلك، بعض الناس يظن أن أباه يحتاج إلى الأكل والشرب فقط، فيضعه في بيت للمسنين أو العَجَزَة - كما يسمونه، وهذه تسمية خاطئة، فلا يجوز أن نسميهم العجزة، إذ يمكن أن نسميهم (كبار السن)، أو (الشيوخ)، أو نحو ذلك - فإذا وضعه في هذه الدُّور، شعر أنه أدَّى ما عليه، وهذا خطأ كبير؛ فالإنسان له أشواق وطموحات، وحقوق أدبية، ومن حق الأب والجد أن يعيش مع أولاده وأحفاده، ومن حق الأحفاد أن يستمعوا إلى حكايات جدهم، وأن يتعلَّموا من تجاربه، من حقهم أن يؤنسهم، ومن حقه أن يؤنسوه، أما أن ترميه في المصحة، أو في دار العجزة، وتقول: لقد أديت ما عليَّ؛ فهذا لا يعرفه الإسلام، يقول الله - تعالى -: ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 23-24].

( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ)؛ لقد أوصى القرآنُ بالوالدين بصفة عامة، وخصَّ هذه الحالة بالذكر، حالة بلوغ الكبر، كبر السن والشيخوخة، فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ، (عندك)، وليس (في المصحة)!! عندك في بيتك، في دارك، ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)، هذان نهيان، الأُفُّ: مجرد التأفف والتضجر، سواء أكان بالكلام؛ كأن يقول: "أُف"، أو بالنَّفَس؛ مجرد النفخة حرام!!

قال بعض السلف: لو كان هناك شيء أقل من (أُفٍّ) لحرمه الله.

( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) نهى الله - تعالى - في هذه الآية عن أمرين، وأمر - سبحانه - بثلاثة أمور: ( وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).

القول الكريم: هو القول الليِّن، القول الطيب، القول الحسن، كأن يقول له: (يا أبتِ) كما رأينا سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يقول لأبيه، وهو - أي: والد إبراهيم - مشركٌ: ( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً) [مريم: 42]، ( يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) [مريم: 45]، وهكذا القول الكريم، ( وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..)

والإنسان المسلم يكسب الجنة ببِرِّ والديه؛ فالله - تعالى -قال لرسوله: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الشعراء: 215]، اخفض جناحك...، ولكن هنا قال: ( جَنَاحَ الذُّلِّ)، ليس مجرد خفض جناح، ولكنه جناح الذل، ولم يمدح الله الذل في القرآن إلا في موضعين؛ في هذا الموضع، وفي موضع آخر؛ حينما قال أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]، ذلُّ الإنسان لأبويه، وذلُّ الإنسان لأخيه المؤمن، ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، خفضٌ من الرحمة، ليس من هوان ولا من ضعف!!.

تذلَّلْ لهما، تحبَّب إليهما بهذا، ( وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)، ادعُ لهما أن يرحمهما الله - في حياتهما وفي موتهما.

كان بعض السلف إذا أصبح يقول لأبيه: "يا أبتِ، يرحمك الله كما ربيتني صغيراً". يقولها منفذاً تعاليم القرآن، فيقول له أبوه: "يا بني، وأنت يرحمك الله كما برَرتَني كبيراً". انظر إلى هذه العلاقة الطيبة الحسنة!!.

( وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)؛ فعلى الإنسان أن يرعى هذه العلاقة؛ إذ يستطيع بها أن يكسب المغفرة ويربح الجنة، إذا أحسن إلى أبويه - أو أحدهما - في حالة الكبر.

جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((رَغِمَ أنفُه. ثم: رَغِمَ أنفُه. ثم: رَغِمَ أنفُه. قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبواه عنده الكِبَر - أحدُهما أو كلاهما - فلم يُدخلاه الجنة)). لم يصل إلى الجنة من خيبته!! ضيَّع الجنة وكان يمكنه أن يكسبها ببرِّ والدَيه!! في هذه الحالة: رَغِمَ أنفُه، ثم: رغم أنفه، ثم: رغم أنفه.

وجاء رجل إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بلغ بِرِّي بأمي أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطيّاً؛ أحملها وأذهب بها إلى المرحاض كما كانت تفعل بي في الصِّغَر، فأنا أؤدي إليها ما كانت تؤدي إليَّ؛ هل وفَّيْتُ حقَّها؟ فقال عمر: لا، إنها كانت تفعل بك ذلك وتتمنى لك عمراً طويلاً، وأنت تفعل بها ذلك وأنت تترقَّب موتها غداً أو بعد غد!! فرقٌ بين الأمرين. 

الرعاية التي يرضاها الإسلام:

فالواجب على الإنسان أن يرعى أبويه، ليس بمجرَّد رميهما في المصحة، وإن كانت المصحات لابد منها؛ لأن من الناس من لا عائلة له، وقد يكون الابنُ فقيراً لا يستطيع أن يُسكنَ أباه في بيته؛ ذي الحجرتين، فماذا يفعل؟ هنا يمكن أن يذهب المُسِنُّ إلى المصحة، ولكنْ لابد أن يزور بيت أولاده بين الحين والحين، ولابد أن يزوروه، وهناك - في بعض البلاد - أندية تقام للمسنين، يقضون نهارهم معاً في هذه الأندية، ثم يعودون إلى بيوت ذويهم في المساء، والحاجة إلى مثل هذه الدور في بلادنا ملحَّةٌ - خاصةً في عصرنا؛ إذ تعمل المرأة، والأولاد في المدارس، والابن يعمل، ويبقى الرجل المُسِنُّ وحده، وهذه حياة موحشة؛ فأقاموا لذلك أندية المسنين. لا بأس أن نقيم هذه الدور في بلادنا، وفي مجتمعاتنا، فالإسلام لا يمنع من إقامة مثلها؛ لتقوم بحق هؤلاء الشيوخ الكبار، وبحق المُسِنَّات من النساء أيضاً.

هذا واجبنا، وواجب المجتمع أيضاً أن يعين في ذلك، واجب المجتمع أن يوقِّر الكبار، وأن يؤدي إليهم حقهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا، ويعرف شرف عالمنا".

فرحمة الصغير، وتوقير الكبير، واحترام العالِم، قيم إسلامية أصيلة، لا يجوز أن تُفقد هذه القيم، ولا أن نستبدلها بقيم أخرى غريبة عن هذه المجتمعات، يرى الرجلُ الشيخَ الكبير فلا يعينه، يركب الحافلة وهو يحتاج إلى أن يجلس، فيظل الشاب جالساً ويترك هذا الشيخ!! هذه قيم غريبة عن هذا المجتمع، المجتمع يوقر الكبير، وكما قال الحديث الذي رواه الترمذي: ((ما أكرم شابٌّ شيخاً إلا قيَّض الله له من يكرمه عند سنِّه". إذا أكرمت شيخاً وأنت شابٌّ، جزاك الله من جنس عملك؛ فهيأ لك - وأنت شيخ - من يكرمك وأنت في حاجة إلى الإكرام، هذه الأمور كما يقول الناس (سلف)؛ البر سلف، والعقوق سلف، برُّوا آباءكم، تبرُّكم أبناءكم.

ويحذر الدكتور القرضاوي من أن تنتقل إلينا العدوى من الغربيين، الذين تفكَّكت أسرهم؛ فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحُلُم، إذا بلغ الشاب ستة عشر عاماً أصبح حبله على غاربه، بحث له عن صديقة، وبحثت الفتاة لنفسها عن صديق، ولا يكاد أحدهما يعرف أمه أو أباه، ولذلك احتاجوا إلى أن يحتفلوا بعيدٍ للأم، وعيدٍ للأب، يومٌ في العام يتذكر الواحد منهم فيه أن له أباً أو أماً!! وماذا يفعل؟ لعله يرسل إليه بهدية، أو يرسل إلى أمه بزجاجة عطر أو نحو ذلك!! هذه هي حياتهم!! ويعيش أحدهم في شيخوخة موحشة، الشيخوخة هناك موحشة أشد الإيحاش؛ لأن الإنسان يعيش وحده، لا يتمتع فيها بابن ولا بنت، ولا حفيد ولا حفيدة، والإسلام لا يرضى بهذه الحياة، لا يرضى للإنسان إلا أن يحيا كريماً عزيزاً موقَّراً.

بتصرف.


نعيمة عبد الفتاح ناصف