أمي
مهران ماهر عثمان
درج كثير من الناس على الاحتفال بعيد الأم في الحادي والعشرين من مارس في كل عام، والذي يحتاج إلى مثل هذه الأعياد المنكرة من رمى بأمِّه في دور العجزة والمسنين، أما المسلمون فلا حاجة لهم في ذلك؛ وهذا ما سيبين لكلِّ من طالع هذه المقال الذي أسأل الله أن ينفع به.
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
درج كثير من الناس على الاحتفال بعيد الأم في الحادي والعشرين من مارس في كل عام، والذي يحتاج إلى مثل هذه الأعياد المنكرة من رمى بأمِّه في دور العجزة والمسنين، أما المسلمون فلا حاجة لهم في ذلك؛ وهذا ما سيبين لكلِّ من طالع هذه المقال الذي أسأل الله أن ينفع به[1].
الأمر ببرِّ الأم
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: (( أبوك)) [رواه البخاري ومسلم].
وعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: ((أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ)) [رواه أبو داود].
وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: ((نعم صلي أمك)) [متفق عليه].
ومعنى راغبة: راغبة فيما عندي، أو راغبة عن الإسلام لا تريده.
وعن معاوية بن جاهمة - رضي الله عنهما - أن جاهمة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: ((هل لك من أم))؟ قال: نعم. قال: ((فالزمها فإن الجنة عند رجلها)) [رواه ابن ماجه والنسائي].
وبه استدل بعض علمائنا على جواز تقبيل رجل الأم.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنهما - أن رجلا أتاه، فقال: إن لي امرأة، وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع هذا الباب أو احفظه)) [رواه ابن ماجه والترمذي].
وينبغي التنبه إلى أنه أمره بعدم عقوقها، ولم يأمره بطلاقها، فإذا أراد الإبقاء على زوجه ولم يكن بها من بأس فإنه يمسكها ويُرضي أمه، فليس معنى الحديث أن يطلقها، وإنما إن كان طلب الطلاق بدون مسوغ فينبغي عدم فعله، ولكن يقوم بإرضاء أمه حرصاً على برها.
أما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي: طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((طلقها)) رواه أبو داود، فالأمر كما قال العلامة الألباني - رحمه الله -: "هذا لعمر، ومن مثل عمر"[2].
الترغيب في بر الوالدة
من برَّ أمه نال خيراً عظيماً، ومن ذلك:
1- استجابة الدعاء وعلو الكعب
ثبت في صحيح مسلم أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)). فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ. قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
قال أصبغ بن زيد - رحمه الله -: "إنما منع أويسا أن يقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بره بأمِّه" [حلية الأولياء 2/87].
فاستجاب الله دعوته، بل كان ممن لو أقسم على الله لأبرَّه ببرِّه بأمِّه، ورفع بذلك قدرَه ومكانته.
2- تكفير الكبائر
في الأدب المفرد للإمام البخاري، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أتاه رجل فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله - عز وجل - وتقرب إليه ما استطعت. فذهبت فسئل ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله - عز وجل - من بر الوالدة.
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح قال الإمام أحمد: "بر الوالدة كفارة الكبائر".
3- دخول الجنة
عن عائشة - رضي الله عنها -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الجنة، فسمع فيها قراءة، فقال: ((من هذا))؟ قالوا: حارثة بن النعمان. فقال: ((كذاكم البر، كذاكم البر)) [رواه أحمد].
وكان من أبر الناس بأمه كما قال الذهبي في السير وغيره من رواة هذا الحديث.
تحريم العقوق
عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات))[رواه البخاري].
الترهيب من عقوق الأم
التسبب في أذية الأم كبيرة فكيف بأذيتها المباشرة ؟
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه))[رواه البخاري ومسلم]. يعني يتسبب في سبهما بسبه لوالدي غيره.
الأم يستجاب دعاؤها على ولدها ولو كان من أولياء الله الصالحين المكرمين بكرامات رب العالمين، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ((كَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُمِّي وَصَلَاتِي؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ. فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ؟ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ، فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ. فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ. فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي. قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ، وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا))[متفق عليه].
وعقوق الأم من أسباب عذاب القبر
عن العوام بن حوشب - رضي الله عنه - قال: نزلت مرة حيا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر، فخرج رجل رأسه رأس الحمار وجسده جسد إنسان، فنهَق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر، فإذا عجوز تغزل شعرا أو صوفا، فقالت امرأة: ترى تلك العجوز؟ قلت: ما لها ؟ قالت: تلك أم هذا، قلت: وما كان قصته؟ قالت: كان يشرب الخمر، فإذا راح تقول له أمه: يا بني اتق الله، إلى متى تشرب هذه الخمر؟ فيقول لها: إنما أنت تنهِقين كما ينهِق الحمار. قالت: فمات بعد العصر، فهو ينشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات ثم ينطبق عليه القبر. [رواه الأصبهاني وغيره، وصحح إسنادها الألباني].
وعقوقها سبب لدخول النار
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) قال: ((أتاني جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا محمد، من أدرك أحد أبويه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين)) [رواه الطبراني بأسانيد أحدها حسن].
فالحديث واضح الدلالة على أنه من عق أمه فهو في النار.
بر الأم دأب الأنبياء والصالحين
قال عيسى - عليه السلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم32] أي: وجعلني بارًّا بوالدتي، ولم يجعلني متكبرًا ولا شقيًا، عاصيًا لربي.
وفي صحيح مسلم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - استأذن ربه في أن يزور قبر أمه، فأذن له، فزاره وبكى، وبكى من من حوله.
وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي أمًا بلغت الكبر ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطيّة لها، فهل أديت حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءَك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين.
وفي الأدب المفرد للبخاري، شهد ابن عمر - رضي الله عنهما - رجلا يمانيا يطوف بالبيت وقد حمل أمه وراء ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المُذلَّل *** إن أُذعرت ركابها لم أُذعر
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة. والزَّفْرة: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع.
في صحيح مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اهد أم أبي هريرة)) فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرا، قال: قلت: يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم حبب عبيدَك هذا -يعني أبا هريرة- وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين)) فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
ولا ينافي هذا بغضُ الشيعة له؛ فليسوا بمؤمنين.
وأورد الإمام الطبري بإسناده عن عصمة بن راشد عن أبيه قال سمعت أبا هريرة يقول: "رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه". قلت: ولأبيه؟ قال: "لا؛ إنَّ أبي مات وهو مشرك".
فهذا من بره العظيم بأمه.
وهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - طلبت أمه أن يسقيها ماء في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح.
وكثيراً ما يقول الذهبي في ترجمته للأعلام: "كان باراً بأمه".
وفي الآداب الشرعية، قال محمد بن المنكدر - رحمه الله -: "بتُّ أَغْمِزُ رجلي أمِّي وبات عمي يصلي فما سرني أن ليلته بليلته".
وحيوة بن شريح - رحمه الله -وهو أحد أئمة المسلمين وفقهائهم- كان يجلس في حلقته ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة أعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
قال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين - رضي الله عنهم - كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
قال محمد بن سيرين: بلغت النخلة على عهد عثمان - رضي الله عنه - ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جُمَّارها، فأطعمها أمَّه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلةَ قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها.
وعبد الله بن عون نادته أمه فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمّه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا.
وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمّه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بُكاها.
أطع أباك ولا تعق أمك
فإذا اختلفا في أمر وأمراك بمتناقضين فافعل الصواب، ودارِ الآخر أو لا تخبره، واحرص على رضائهما جميعاً.
بر أمك وأحسن إلى زوجك وأعط كل ذي حق حقه
وبئس الرجل الذي يقدم زوجته على أمه، وبئست الزوجة التي لا تعين زوجها على بر أمه!
فلا تطـع زوجةً فِي قطـع والدة *** عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا
فكيف تنكر أمًّا ثقلَك احتملـت *** وقد تَمرغت فِي أحشائهـا عسرا
وعالَجت بك أوجاع النفاس وكم *** سُرَّتْ لَمّا ولدت مولودها ذكـرا
وأرضعتـك إلى الحولين مُكْمَلَـةً *** في حجرها تستقي من ثديها الدررا
ومنـك ينجسها ما أنـت راضعه *** منهـا ولا تشتكي نتنـا ولا قذرا
و(قل هو الله) بالآلاف تقرؤهــا *** خوفًا عليك وترخي دونك السُـتُرا
وعـاملتك بإحسـان وتربيــة *** حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تفضّـل عليهـا زوجة أبـدًا *** ولا تدع قلبــها بالقهر منكسـرًا
ولو فكرت الزوجة وأمعنت النظر في النصوص التي تدل على أن البرَّ سببٌ لنيل البركات في الدنيا والآخرة لحملت زوجها عليه؛ لأنها أول من يتنعم بما يأتي زوجها من بركات برِّه، والعكس بالعكس إن كان عاقاً.
الزكاة للأم
لا يجوز إعطاء الأم من الزكاة؛ لأن نفقتها واجبة.
كيف يكون بر الأم بعد موتها؟
في صحيح البخاري، عن ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رضي الله عنه - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا.
والمِخراف اسم البستان، وسمي بذلك لأنه يُخرف ثمره، أي: يجنى.
وفي صحيح البخاري كذلك عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا)).
اللهم من كان من آبائنا وأمهاتنا حيا فنسألك له عيش السعداء، والعافية من كل بلاء، وحسن الخاتمة، ومن كان منهم مات فاغفر له وارحمه، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأسكنه الفردوس الأعلى.
رب صل وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أصله خطبة جمعة في يوم 30 ربيع الآخر 1433هـ، الموافق: 23/3/2012م
[2] سمعته من بعض أشرطته.