أمي .. أمي
من لطف الله بنا وبها ومما عزانا أنها توفيت بعد أن اعتمرت وأكملت ختمتها الأخيرة للقرآن وصلينا عليها في الحرم ودفناها في مكة. كان معها ورم في المعدة وانفجر ولهذا أرجو أن تكون شهيدة بفضل الله فهي ماتت مبطونة والمبطون شهيد لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المبطون شهيد، والمطعون شهيد)).
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين -
فقدت أمي وفقد الأم قاس مؤلم، والموت حق إلا أنه كان يصعب علي تخيل فقدها -رحمها الله- فكنت على وجل منه ولا أدري إذا وقع هل احتمله أم لا، ثم وقع ما كنت احذر إلا أن الله كان لطيفا بنا وبها فلم يكن ذلك فجأة بل كان بالتدريج فمرضت ثم أجريت لها عمليتان ثم كانت في حال شبيهة بالإغماء، وغلب على الظن أن هذا مرض الموت فلما وقع كان في النفس استعداد لقبوله والتسليم به رحمة بها وقبولا لسنن الله في خلقه..
من لطف الله بنا وبها ومما عزانا أنها توفيت بعد أن اعتمرت وأكملت ختمتها الأخيرة للقرآن وصلينا عليها في الحرم ودفناها في مكة. كان معها ورم في المعدة وانفجر ولهذا أرجو أن تكون شهيدة بفضل الله فهي ماتت مبطونة والمبطون شهيد لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المبطون شهيد، والمطعون شهيد)).
وأرجو أن يؤمنها الله من عذاب القبر لما رواه الترمذي في سننه وحسنه ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قتله بطنه لم يعذب في قبره))[وصححه ابن حجر والألباني في تخريج مشكاة المصابيح وفي الصحيحة]، وهذا الفضل من الله الذي نرجوه لها مما خفف ألم فراقها وإلا فالمصاب جلل. وقد تأملت فوجدت أن الله كريم معنا لطيف بنا فهي عاشت بيننا ثمانين سنة أو قريبا من ذلك وهذا لا يبلغه إلا القليل من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وعاشت هذا العمر بصحة وعافية وعبادة تخدم نفسها بل تخدم غيرها، وقد من الله عليها وعلينا فرأت أحفادها وذرية أحفادها وهذا فضل عظيم ونعمة كبيرة يعجز عنها شكرنا، فلله الحمد والمنة. والذي أرجوه أن ما عندالله لها خير مما عندنا وهو ارأف بها منا، ولكن المصيبة كل المصيبة أن بوفاتها أغلق عنا باب من أبواب الجنة بما فيه من عمل. وقد بقيت بحمد الله أعمال بر كبيرة وكثيرة لمن أراد أن يستزيد ونسأل الله أن يوفقنا للبر بها بعد موتها.
من نعم الله على الوالدة أنها تجيد القراءة فكانت دائمة القراءة في المصحف ولم أكن أعلم أنها تختم كل ثلاثة أيام إلا في ختمتها الأخيرة. ومن نعم الله عليها أنها سباقة في كثير من أعمال الخير والبر والعبادة.
والله ونحن الشباب من أبنائها وبناتها وأحفادها لا نستطيع اللحاق بها في شي من أعمال الخير فضلا عن أن نفوقها فيه: في الصلاة أو الصيام أو الهدية أو صلة الرحم أو حب مجالس الذكر أو سلامة الصدر أو حب النفع للناس أو الشفقة على الضعفاء وتفقد حاجاتهم.
أصابها مرض في شبابها أفقدها تقريبا حاسة السمع فلا تسمع إلا بسماعة ولكن مع كلفة ورفع صوت شديد، ومع ذلك كانت حريصة على حضور المحاضرات في الدور النسائية وتقول أريد أن تحفني الملائكة وتنالني بركة الدعاء.
بلغت الثمانين وتقوم الليل وتصوم الاثنين والخميس والأيام البيض وكانت حريصة إذا توضأت صلت ركعتين ولا أعلم أنها تركت ذلك إلا نادرا رغما عنها، ولم يكن مصحفها يفارقها حضرا أو سفرا وما خرجنا إلى البر إلا وخصصت وقتا لقراءة القرآن وصلاة النافلة، وتقول أريد الأماكن تشهد لي.
ومع اجتهادها في العبادة إلا أنها كانت أنيسة المعشر دائمة التبسم تشاركنا أحاديثنا ولا ترضى الغيبة، وكانت ذات دعابة محببة معنا ومع أحفادها.
والمصاب الأكبر في فقد الوالدة هو والدي - حفظه الله - فكانا يقومان الليل معا ويصليان صلاة الضحى معا -ليس جماعة - وكانا يصومان معا ويفطران معا وكانت هي من يقدم له سحوره وفطوره.
وكانت وهي ذات الثمانين تعد له قهوته قبل الفجر إذا قامت تصلي من الليل، ويشربانها معا في الصباح ولا تسمح لأحد غيرها يقوم بذلك وفي البيت من يسره إعدادها.
وأخبرني الوالد أنهما يقومان قبل الفجر بساعة وأحيانا بنصف ساعة يصليان، وسألته كم يقرأ فقال جزء أو جزء ونصف وسألته عن الوالدة فقال هي تقرأ أكثر مني لأنها أسرع في القراءة.
عاشت مع والدي - حفظه الله - أكثر من ستين سنة وعيت منها خمسين سنة ما رأيتهما فيها متخاصمين مرتفعة أصواتهما ولو حصل اختلاف بادر أحدهما لإرضاء الآخر.
كانا لا ينامان بعد الفجر ويصليان صلاة الإشراق ويفطران ثم ربما ناما وبعد العاشرة يستيقظان ثم هما في صلاة وقراءة للقرآن حتى الظهر.
كانت - رحمها الله - دائمة الصدقة تتصدق بالقليل والكثير وكانت يدها عليا دائماً لا تكاد تقبل من احد شيئا ومن أهداها شيئا سارعت بمكافأته.
وكان بناتها يحتلن عليها في إيصال الهدية لها وربما قبلت وربما تصدقت بالهدية.
كانت - رحمه الله - متحدثة جيدة وتجيد إيراد القصة وذات ذاكرة قوية وتقول أنها في شبابها ربما حفظت القصة والقصيدة من مرة واحدة، وكان من عادتها أن تقص علينا ونحن صغار، ومما قصته علينا بعض قصص الأنبياء قصة عيسى - عليه السلام - وأمه مريم بنت عمران وقصة موسى وفرعون وكنا نستزيدها فقالت هذا كله في القرآن.
فكان هذا دافعا لي لقراءة القرآن وختمه في تلك الصيفية وأظنني كنت في الصف الثالث، أو الرابع، كانت - رحمها الله - مربية.
كانت - رحمها الله - متعلقة بمكة تتابع بين العمرة والعمرة، ولعل الله علم صدقها فقبض روحها في المكان الذي تحبه بعد أداء العمرة.
وإكمال آخر ختمة لها ودفنت هناك، اللهم أنها قدمت عليك وأنت أكرم الأكرمين فارفع درجتها واغفر ذنبها وأبدلها دارا خيرا من دارها وأهلا خيرا من أهلها واجمعنا بها في دار كرامتك..
اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها..
عبدالله بن ناصر الصبيح