صور من احتساب النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب (2)

فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكل أمر فيه خير للناس ومنفعة لهم في دينهم ودنياهم، وكل ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، ويحذرهم من كل ما يسبب لهم الشقاء في الدنيا والآخرة، وسنذكر في هذه العجالة بعضاً من صور احتسابه صلى الله عليه وسلم، ودلالته على الخير، وتحذيره ممّا يخلّ بالآداب.

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

إن الله تبارك وتعالى أخرج برسالة النبي صلى الله عليه وسلم الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، علم أمته كل خير، فحثهم إليه ورغبهم فيه، وبين لهم كل شر وحذرهم منه، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤذى فلا يَغضب، ويُنتقص فلا ينتقم، ويُشتم فلا يرد، ويُساء إليه فيدفع الإساءة بالإحسان، وما انتصر لنفسه أبدا، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب غضباً شديداً إذا انتهكت حرمات الله تبارك وتعالى، أو عطلت له فريضة؛ فيتغير لونه، ويتمعَّرُ وجهه، ويعلو صوته؛ محذرًا منذرًا، آمرًا ناهيًا، قالت عائشة رضي الله عنها: "ما انْتَقَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ قَطُّ إلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله فَيَنْتَقِمَ بها لله" (رواه البخاري برقم [5775]).

فهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم تحكيه أقرب الناس إليه، وأعلمهم به، فإذا نظرنا إلى سيرته عليه الصلاة والسلام وجدناها لا تعدو وصف عائشة رضي الله عنها؛ فقد أوذي صلى الله عليه وسلم أشد الأذى وما انتقم ممن آذوه وهو قادر عليهم، بل يردُّ إساءتهم بالإحسان، ومن ذلك ما روى أَنَس رضي الله عنه قال: "كنت أَمْشِي مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حتى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَثَّرَتْ بها حَاشِيَةُ الْبُرْدِ من شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قال: يا محمد مُرْ لي من مَالِ الله الذي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ له بِعَطَاءٍ" (رواه البخاري برقم [2980]، ومسلم برقم [1057]).

فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم  بكل أمر فيه خير للناس ومنفعة لهم في دينهم ودنياهم، وكل ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، ويحذرهم من كل ما يسبب لهم الشقاء في الدنيا والآخرة، وسنذكر في هذه العجالة بعضاً من صور احتسابه صلى الله عليه وسلم، ودلالته على الخير، وتحذيره ممّا يخلّ بالآداب:

- فمن صور احتسابه صلى الله عليه وسلم أنه يُنكر على الأفرادِ ما يَقع منهم، من خللٍ في الآداب والأخلاق والسُّلوك؛ كما في حديث المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ رضي الله عنه قال: "أَقْبَلْتُ بِحَجَرٍ أَحْمِلُهُ ثَقِيلٍ، وَعَلَيَّ إِزَارٌ خَفِيفٌ، قال: فَانْحَلَّ إِزَارِي وَمَعِيَ الْحَجَرُ، لم أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ حتى بَلَغْتُ بِهِ إلى مَوْضِعِهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ إلى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ، ولا تَمْشُوا عُرَاةً»" (رواه مسلم برقم [341]).

- وجعل عليه الصلاة والسلام من حق الطريق لمن جلس فيه أن يحتسب على الناس، ولا يسكت إذا رأى المنكرات، وإلا لم يكن مؤدياً لحق الطريق، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس على الطرقات»، فقالوا: "ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها"، قال: «فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها»، قالوا: "وما حق الطريق؟" قال: «غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر» (رواه البخاري برقم [2333]).

والأسواق كالطرقات، تكثر فيها المنكرات، ويرتادها كثير من الناس، وقل فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا من تقصيرهم في هذا الباب العظيم من الدين، فعلى مرتادي الأسواق أن يقوموا بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

- واحتسب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه رضوان الله عليهم عندما هموا بضرب الأعرابي الذي بال في المسجد، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» (رواه البخاري برقم [5777]، ومسلم برقم [284]، واللفظ للبخاري)، وهذا فيه بيان ما ينبغي أن يكون عليه المحتسب من الرفق واللين مع المخالفين.

- ومن صور احتسابه صلى الله عليه وسلم أنه كان أحياناً يغيِّر المنكر بيدِه ويبيِّن سببَ ذلك؛ ليعلَمَ صاحب المنكر لِمَ غيَّره؛ كما في حديث عائِشة رضي الله عنها قالت: "دخل عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم وفي البَيْتِ قِرامٌ فيه صُوَرٌ، فتَلوَّنَ وجْهُهُ، ثُمَّ تَناوَلَ السِّتْرَ فهَتَكَهُ، وقال: «من أَشَدِّ النَّاس عَذابًا يوم القِيامة الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هذه الصُّوَرَ»" (رواه البخاري برقم [5758] ، ومسلم برقم [2107]).

ومرةً رَأَى خاتَمًا من ذَهَبٍ في يد رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَعْمِدُ أحدُكم إلى جَمْرة من نارٍ، فَيَجْعَلُها في يَدِه» (رواه مسلم برقم [200]).

- ومن صور احتسابه صلى الله عليه وسلم تعليمه أصحابه الآداب العامة بين المسلمين، والحقوق الإسلامية فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» (رواه البخاري برقم [1183]، ومسلم برقم [2162])، وروي من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية الفضة، وعن المياثر والقسي، وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق" (رواه البخاري برقم [5312]، ومسلم برقم [2066]).

- ولرُبَّما ظهر على حالِه صلى الله عليه وسلم شدَّةٌ وغضب في إنْكارِه للمُنْكر؛ غيرةً لله تعالى، وتربيةً لِمن يرونه؛ لئلا يتهاونوا بالمنْكَرات؛ لأنَّ تهاوُنَهم به يؤدِّي إلى اعتياده ثم أُلْفَتِه، وهو عند الله تعالى عظيم.

فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى منكرًا، أو يسمع به إلا بادر إلى الإنكار على صاحبه، كائنًا مَن كان، وتنوَّعت أساليبُه في الإنكار باللسان فتارةً يخصُّ صاحب المنكر بالإنْكار، فيخاطبه مباشرةً؛ فمرة رأى عَبْد الله رضي الله عنه وعليه ثوبين معصفرين فأنكر عليه يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: رَأَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوْبيْنِ مُعصْفَرَيْن، فقال: «إنَّ هذه من ثِيابِ الكُفَّارِ؛ فلا تَلْبَسْها» (رواه مسلم برقم [2077])، وفي روايةٍ قال: «أَأُمُّكَ أمَرَتْكَ بهذا؟» قلْت: "أغْسِلُهُما؟" قال: «بَلْ أحْرِقْهُما» (رواه مسلم برقم [2077])، وهذا احتساب من النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما وتعليمه آداب اللباس.

وعن عُقْبة بن عامِرٍ رضي الله عنه قال: أهديَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فلَبِسَهُ ثمَّ صلَّى فيه، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شديدًا كالكارِهِ له، ثُمَّ قال: «لا يَنْبَغِي هذا لِلمُتَّقِين» (رواه البخاري برقم [368]، وبرقم [5465]، ومسلم برقم [2075]).

وأحياناً يصعِد المنبر فيخطب خطبةً لأجْل إنكار منكر، وقع فيه النَّاس أو بعضهم؛ ليُحذِّرَهم صلى الله عليه وسلم مما وقعوا فيه، ومن ذلك ما بلغه صلى الله عليه وسلم من خطأ في معاملاتهم باشتراط شروط ليست صحيحة، فصعد المنبر لإنكار هذا المنكر فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بالُ أقْوامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليست في كِتابِ الله؟! من اشْتَرَطَ شَرْطًا ليس في كِتابِ الله، فَلَيْسَ له، وإنِ اشْتَرَطَ مِائة مَرَّةٍ» (رواه البخاري برقم [444])، وهذا فيه بيان بعض آداب المعاملات.

وفي بعْض الأحيان يُعلن براءته من المنكر؛ ومن ذلك: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قتل بعض الأسرى، فأُخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اللهُمَّ إني أَبْرأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خالِدُ بن الوَلِيدِ» مَرَّتَيْنِ (رواه البخاري برقم [6766]).

وفي بعض المنكرات يوجه أصحابَه رضي الله عنهم إلى الشدَّة والغلظة في الإنكار؛ كما في حديث أُبَي بن كَعْبٍ رضي الله عنه أنَّ رَجُلاً اعْتَزى بِعَزاءِ الجاهليَّةِ، فَأَعَضَّهُ ولم يُكَنِّهِ، فَنَظَرَ القَوْمُ إليه، فقال لِلقَوْمِ: "إني قد أرَى الذي في أنْفُسِكُمْ، إني لم أسْتَطِعْ إلا أن أقُولَ هذا، إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَنا: «إذا سَمِعْتُمْ مَن يَعْتَزِى بِعَزاءِ الجاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ، ولا تُكَنُّوا»" (رواه الإمام أحمد في المسند برقم [21233]، وقال محققوه: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم [619]).

وروى هَمَّامُ بن الحارِثِ: أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمانَ، فَعَمِدَ المِقْدادُ فَجَثا على رُكْبَتَيْهِ، وكان رَجُلاً ضَخْماً، فجَعل يَحْثُو في وجْهِهِ الحَصْباءَ، فقال له عُثْمانُ: "ما شَأْنُكَ؟" فقال: "إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رَأَيْتُم المَدَّاحِينَ، فاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرابَ»" (رواه مسلم برقم [3002]).

فهذه صور ومواقف احتسابية للنبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكرتها للسير على نهجه، واقتفاء أثره فالله تبارك وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لطاعته ورضاه، والحمد لله رب العالمين.

 

محمد بن عبد الله العبدلي