جعل المسجد معلمًا للتاريخ ومرتادًا للسياحة
فللمسجد عظمته وحرمته ومكانته في الإسلام، يجب على المسلمين أن يقوموا بها، وأن يقدروها حق قدرها ويرعوها حق رعايتها.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المساجد بُنيت لغايةٍ سامية ورفيعة، بُنيت لكي يعبد الله تعالى فيها، بنيت ليجتمع فيها عباد الله الموحدون، ليؤدوا ما فرض الله عليهم، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36]، فالغاية من وجودها أن يعبد الله تعالى فيها.
والمسجد قلعة الإيمان، وحصن الفضيلة، وهو المدرسة التي يتخرج منها المسلم، وهو بيت الأتقياء، ومكان اجتماع المسلمين، ومركز مؤتمراتهم، ومحل تشاورِهم وتناصحهم، والمنتدى الذي فيه يتعارفون ويتآلفون، وعلى الخير يتعاونون، منه خرجت جيوشهم، ففتحت مشارق الأرض ومغاربها، وإليه يرجع مسافرهم أول ما يرجع، ومنه تخرج العلماء والفقهاء، فهو ملتقى الأمة، وناديها وجامعتُها، ومكان شُوراها (1).
ولما للمسجد من شأن فقد اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم فحين قدم المدينة كان أول شيء أمر به هو بناء المسجد، الذي هو بناء الرجال، الذين يفدون إليه، وتتعلق به أفئدتهم، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم إظهار وتنبيه لعميق الدور الذي يقوم به المسجد بناء المجتمع وتأصيل للعقيدة والتوحيد الخالص لله جل وعلا التي هي أساس ذلكم البناء.
وقد فهم المسلمون الأولون وظيفة المسجد، وما بني له، فأدوا رسالته على أكمل وجه، واعتنوا بمضمونه وجوهره، لا شكله ومظهره، فما كانوا يبالغون في بنائه ولا يهتمون بزخرفته ونقشه، بعيدًا عن المقصد من وجوده، والغاية من بنائه. خلافًا لما في عصرنا الحاضر الذي كثر فيه الاهتمام بالهيئات، والظواهر، والأشكال من زخرفة ونقوش وزينة، وتُتركت الغاية الأساسية التي يبني من أجلها المسجد، فقد بلغت بعض مساجد المسلمين اليوم من الزخرفة فيها والنقوش التي تملأ جدرانها وحيطانها، وارتفاع سُقُفِها وتشكيلها الهندسي الجذاب ما يجعلها تقصد بالزيارة، وتتخذ معلمًا تاريخيًا ومرتادًا للسياحة، يضرب إليه السائحون أكباد الإبل، ويتجولون في أرجائها، ويلتقطون الصور التذكارية، في رحابها.
وربما كانوا بهيئات تتنافى مع الفضيلة والشرف والخلق القويم فضلاً عن حرمة المساجد، فربما دخل أحدهم وهو على نجاسة، أو دخلت النساء متبرجات متكشفات، أو ملوثات بدماء الحيض، مع التصوير، والتدخين، وما إلى ذلك من المنكرات.. التي يتنافى مع حرمة المسجد ومكانته.
وليس المقصد منع الكفار من دخول المساجد فإنه "لا حرج في دخول الكافر المسجد إذا كان لغرض شرعي وأمر مباح؛ كأن يسمع الموعظة، أو يشرب من الماء، أو نحو ذلك. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل بعض الوفود الكافرة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ ليشاهدوا المصلين، ويسمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم وخطبة، وليدعوهم إلى الله من قريب، ولأنه صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال الحنفي في المسجد لما أتي به إليه أسيرًا، فهداه الله وأسلم" (2).
وإنما المنع من انتهاكٌ حرُمات المساجد، والتشويش على العابدين في عبادتهم، وهو ما ينبغي على وُلاة أمور المسلمين ألّا يتسامحوا فيه، وأن يأمروا بكل ما فيه صِيانة بيوت الله وتعظيمُها: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج:30]، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج:32].
فللمسجد عظمته وحرمته ومكانته في الإسلام، يجب على المسلمين أن يقوموا بها، وأن يقدروها حق قدرها ويرعوها حق رعايتها.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يحفظ علينا ديننا، وأن يرد المسلمين إليه ردًا جميلًا، اللهم أصلح أحولنا وأحوال المسلمين يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
-------------------
(1) راجع: المسجد في الإسلام (صـ9-11).
(2) مجموع فتاوى ومقالات ابن باز، المجلد الثامن، حكم دخول الكفار المساجد.