جوانب احتسابية في قصة سليمان عليه السلام في سورة النمل
فعلى المحتسبين أن يشعروا بما شعرت به "نملة" نحو بني جنسها من ضرورة الاهتمام بهم، وأمرهم بما يدفع الشر عنهم، فيقوم هؤلاء المحتسبون بتحذير عموم المسلمين من أي خطر وضرر يتهددهم، وأن لا يهتموا فقط بنجاة أنفسهم من هذا الضرر أو الخطر؛ لأن قصر اهتمام المسلم بنفسه فقط من مظاهر الأنانية المقيتة.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
ذكر الله - سبحانه وتعالى - عبده ورسوله سليمان - عليه السلام - في مواطن كثيرة من كتابه الكريم، وقص علينا من أخباره وأحواله ما نأخذ منها العظات والعبر، وقصة هذا النبي تناولتها بعض سور القرآن إجمالاً وتفصيلاً، وفي كل سورة ذكر الله فيها قصته - عليه السلام - يذكر لنا حدثا وخبرا غير الذي ذكر في السورة الأخرى، ومما ذكره الله لنا عن نبيه ورسوله سليمان - عليه السلام - قصته في سورة النمل، وهي قصة طويلة فيها دروس كثيرة ولكن سنقتصر من هذه القصة على بعض الجوانب الاحتسابية، وما فيها من فوائد.
القصة كما وردت في سورة النمل:
يقول الله - تعالى -: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 16-44].
الجوانب الاحتسابية:
أولاً: الشعور بالخطر وتحذير الآخرين منه، عندما أتى سليمان - عليه السلام - على واد النمل هو وجنوده خشيت النملة على بنات جنسها من أذية هذا الجيش، فحذرت بقية النمل الأخرى وأعلمتهم بالخطر، قال - تعالى -: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، فقول النملة هذا إشعار باهتمامها بأمور جماعتها، باعتبارها واحدة من هذه الجماعة وليست أميرة عليها، وكان يسعها أن تنجو بنفسها من سليمان وجنوده، بأن تختفي في مكان أمين، وتدع بني جنسها من النمل وشأنهم، ولكنها لم تفعل ذلك، بل قامت بتحذيرهم مع بيان وجه هذا التحذير، مما يدل على شعورها بالمسؤولية نحوهم، وأن من الواجب عليها أن تحرص على نجاتهم، ودفع الشر عنهم؛ كما تحرص على نجاة نفسها ودفع الشر عنها.
فعلى المحتسبين أن يشعروا بما شعرت به "نملة" نحو بني جنسها من ضرورة الاهتمام بهم، وأمرهم بما يدفع الشر عنهم، فيقوم هؤلاء المحتسبون بتحذير عموم المسلمين من أي خطر وضرر يتهددهم، وأن لا يهتموا فقط بنجاة أنفسهم من هذا الضرر أو الخطر؛ لأن قصر اهتمام المسلم بنفسه فقط من مظاهر الأنانية المقيتة[1].
ثانياً: جانب الحزم مع العدل، ونأخذ ذلك من قوله - تعالى -: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).
يقول العلامة السعدي: "والشاهد أن تفقد سليمان - عليه السلام - للطير، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير: (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) أي: هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان غائبا من غير إذني ولا أمري؟.
فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) دون القتل، (أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة واضحة على تخلفه، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح فلذلك استثناه لورعه وفطنته"[2].
فالمحتسب لابد يكون حازما في تصرفاته مع المحتسب عليهم حتى لا يتهاونوا بما يريد، ويستخفوا بما يقول، ولا يعني هذا أن يكون شديدا في أمره ونهيه، بل المطلوب منه أن يستخدم الأسلوب المناسب وفي الوقت المناسب، فاللين مع من ينفع معه اللين، والشدة مع من لا ينزجر ولا يرتدع إلا بها.
ثالثا: الحرص على هداية الناس ودخولهم في دين الله - سبحانه وتعالى -: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)، فنبي الله سليمان - عليه السلام - عندما علم بهؤلاء القوم وما هم عليه من الشرك أرسل كتابا إليهم يدعوهم إلى دينه والدخول فيه، والسمع والطاعة له وعدم التعالي عليه، وهذا الهم هو الذي ينبغي أن يحمله المحتسبون والدعاة، فلا يسمعون بمنكر إلا باشروا في إزالته، والقضاء عليه، مستخدمين في ذلك كل الوسائل الممكنة التي تؤدي إلى إزالة هذا المنكر وفق الضوابط الشرعية التي بينها العلماء.
ومن قوله: (اذْهَبْ بِكِتَابِي) نرى أن نبي الله سليمان استخدم وسيلة الرسالة في الدعوة، ونأخذ من ذلك أن المحتسب ينبغي عليه أن يستخدم الوسائل المتوفرة لديه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أكثر الوسائل المتوفرة اليوم: الكتيب، الشريط، الرسالة: خطية، أو عبر الجوال أو البريد الالكتروني، أو الاتصال أو غير ذلك، المهم أن تصل الموعظة.
رابعاً: الإنكار من سليمان - عليه السلام - على صنيع بلقيس وقومها عندما أتى رسلُها بهدايا ليصرفوه عن الهدف الحقيقي، وهو دخولهم في الإسلام، والمجيء إليه طائعين: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)، قال ابن عاشور: "وقد أبى سليمان قبول الهدية لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله: (وأتوني مسلمين) فتبين له قصدها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بث سلطانه على مملكة سبأ.
والخطاب في أتمدونن لوفد الهدية لقصد تبليغه إلى الملكة لأن خطاب الرسل إنما يقصد به من أرسلهم فيما يرجع إلى الغرض المرسل فيه.
والاستفهام إنكاري؛ لأن حال إرسال الهدية والسكوت عن الجواب يقتضي محاولة صرف سليمان عن طلب ما طلبه بما بذل له من المال، فيقتضي أنهم يحسبونه محتاجا إلى مثل ذلك المال فيقتنع بما وجه إليه"[3].
فلا مساومة على قضايا الدين، ولا تنازل عن أوامر رب العالمين من أجل حطام الدنيا الفانية، وهذا ما يجب أن يدركه القائمون على أمر هذا الدين، سواء أكانوا دعاة أو مفتين، أو محتسبين.
خامساًٍ: التهديد والوعيد، فعندما عرف سليمان قصد أولئك، وأنهم يريدون من تلك الهدية أن يتركهم على حالهم، توعدهم وهددهم بإنزال العقوبة الموجعة لعدم استجابتهم، قال - تعالى -: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "إن تهديد سليمان بلقيس بالحرب إن لم تسلم وقومها- يدخل في باب إزالة المنكر بالقوة إذا تيسرت القوة لذلك"[4].
وهذا الأمر يقدره المسئولون على قضايا الحسبة، فإذا كان المنكر لا يزول إلا بالقوة فتستخدم القوة، وإذا كان أصحاب المنكر لا يرتدعون إلا بالعنف والشدة فيستخدم العنف والشدة، ومن هؤلاء: السحرة، والمشعوذين، وقطاع الطرق، وتجار المخدرات والمسكرات، وغيرهم، فهؤلاء لا تردعهم إلا القوة.
نسأل الله بنمه وكرمه أن يفقهنا في دينه، ويعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، والحمد لله رب العالمين.
[1] انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (1/425) بتصرف.
[2] تيسير الكريم الرحمن (ص: 603).
[3] التحرير والتنوير (19/ 268).
[4] المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (1/440).
منصور صالح حسين الجادعي