لا تحقري من النصح شيئاً
فقد قيل: رب رمية من غير رامٍ، وهي تعني أن الإنسان قد يصيب أمراً من غير قصد، ويحقق هدفاً من دون عمد، وأحياناً تقع في الأذن كلمة من غير استماع ولا تنصت، فتؤثر في النفس تأثيراً بالغاً، تغير من بعض الطباع أو بعض العادات، وربما بلغت كلمة عابرة مبلغاً أعظم من نصيحة متعمدة، مرتبة.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فقد قيل: رب رمية من غير رامٍ، وهي تعني أن الإنسان قد يصيب أمراً من غير قصد، ويحقق هدفاً من دون عمد، وأحياناً تقع في الأذن كلمة من غير استماع ولا تنصت، فتؤثر في النفس تأثيراً بالغاً، تغير من بعض الطباع أو بعض العادات، وربما بلغت كلمة عابرة مبلغاً أعظم من نصيحة متعمدة، مرتبة.
ولنا في هذا الشأن قصة يحكيها صاحبها -نقلناها للفائدة- ويذكر أن كلمة الله أعلم بقصد قائلها- قد تكون عفوية لا يغزى بها ولا يورَّى، كانت أبلغ من خطبة عصماء، وخطيب بليغ، إنه "رجلٌ كان مُسرفاً على نفسه بالمعاصي، وكان يشرب الخمر، ويسهر مع رُفقاء السوء على الخمرِ والغناء، وكان يترك الصلاة -أو يُصلي أحياناً؛ حياءً أو خَجَلاً أو مُجاملةً-، وذات مرة زار هذا العاصي إحدى قريباته، فحمل طفلاً من أولادها، فَبَالَ الطفل عليه..
يقول هذا الرجل: فَقُلتُ لأمه: خُذي هذا الطفل فقد بَالَ على ملابسي.
فقالت: الحمد لله أنه لم يَبُل على ملابس فُلان. -وكان قد حضر معه أحد أقاربها من محارمها-.
فاستغرب هذا الرجل العاصي، وسأل عن السبب، قالت: أنت لا تصلي، لست مثله، والبَول على الثياب لا يضرك.
فكانت هذه الكلمات القليلة: "أنتَ لا تُصلي، لست مثله، البول على الثياب لا يضرك" سهماً صائباً بلغ أعماق فؤاده فألقاه على أرض اليقظة صريعاً يتخبط بين جدران الندم، ويتقلب في أزقة العبرة.
يقول هذا الرجل: فرجعتُ إلى المنزل وتُبْتُ إلى الله - عز وجل -، واغْتَسَلْتُ وتركتُ الخمر وهجرتُ رُفقاء السوء، ولَزِمتُ الصلاة، وفَرِحَتْ بي زوجتي المُتدينة التي تَحثني دائماً على تركِ الخمر.
يقول الكاتب: لقد رأيتُ الرجل قبل موته يترك أي عمل إذا سَمِعَ المُؤذن، وإذا كان في السيارة يقف عند أَقْرَبِ مسجد إذا سَمِعَ الأذان، فرحمةُ الله عليه وعفا عنَّا وعنه[1]".
- رحمه الله تعالى -، لقد مات وترك لنا أثراً نستفيد به، ونذكر به أنفسنا، بعد أن انغمس في مستنقع المعاصي ولوَّث قلبه ونفسه بوحل الذنوب، ومضى عليها زمناً جفَّتْ أوحال آثامه عليه، فوكزته مِطرقة المحتسبة الكريمة ذات يوم فتحاتَّتْ من عليه طينة البلاء، وتساقطت أدران الماضي فالتحق بركب الصالحين ولبس لباسهم الأبيض، ورداءهم الجميل.
إن القصة تتكرر مع الكثير في كلمة عابرة أشبه بالتعريض، كما يجتمع بعض الضيوف أحيانا للغداء، وفيهم من لا يصلي، ويقول قائل: لا نبدأ حتى يأتي فلان من الصلاة، فينغضون إليه رؤوسهم خجلاً.
وحين يأتي أحد الطلاب بنتيجة عالية في الامتحان، وليس من أهل الجد، فيقول أحدهم: لو كان فلان نعم، إنه لا يغش، أو كنت أظن فلانًا يأتي بهذه الدرجة، لأنه مثابر..
وأشبه هذه القصة كثير ذكَّرتنا بها المرأة الصالحة التي عرَّضت تعريضاً جميلاً بأسلوب لطيف يُشعر المذنب بذنبه، ويتركه يقلب حسرته في قلبه.
وهذه القصة العابرة تفيدنا فوائد عدة، في جانب الاحتساب:
أولاً: دور المرأة عظيم، ولو كان بكلام يسير، يؤثر في رجل وصل في الفسق موصلاً يُخاف منه، وكلمة منها أعادت للرجل شريط الذكريات مصحوباً بصوت الحسرة وإيقاع الندم يتجلجل في أذنيه، أشعرته بدناءته وخسته، وأخرجت من قلبه ظلام الضياع فأشعلت فتيل الضياء، وصار يحيى بنور الله - تعالى - بفضل الله وتوفيقه.
ثانياً: استغلت المرأة فرصة مناسبة غاية المناسبة، في وضع مقارنة عابرة لإيصال الرسالة الهادفة باختصار، وبأسلوب منطقي بسيط غير معقد ولا غامض، "ذاك يصلي وأنت لا تصلي"، فألهبت مشاعر الغَيرة في نفسه على نفسه، وأنه دون فلان!.
ثالثاً: المرأة الخيِّرة دائماً تحمل حس الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعلم الله كم كانت تتحين فرصة مناسبة في نصحه أو تذكيره، وجاءت لها هذه الفرصة صيداً فاقتنصتها فأحسنت القنص.
رابعاً: في القصة عبرة وعظة لكل المحتسبين والمحتسبات الذين أيسوا من بعض العصاة، فمثل صاحب القصة - رحمه الله -، وقد ذكر عنه من الفجور ما ذكر، كان المتوقع أن لا يرجع إلى الله ويتوب عن معصيته إلا بجلسات وعظية مطولة، أو ملك يخطفه من فسوقه إلى بيت الله، وما يدرينا أن توبته مكتوبة بكلمة قصيرة وعبارة جارية على لسان امرأة ليست من أهل العلم، وهذا يعني:
-خامساً: - أن لا نحقر من المعروف شيئاً، وأن لا يتردد أحدنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوى عدم العلم، وضعف الأسلوب، وقلة التجربة، فربما يكتب الله - تعالى -بالكلمة اليسيرة ما لا يكتبه بمواعظ عديدة، وبدون تحضير ولا ترتيب.
سادساً: في قلب كل إنسان بذرة خير محتاجة إلى من يسقيها بماء التذكير، وبإذن الله سرعان ما تترعرع وتنتعش، وإن تركت ماتت وتساقطت أوراقها سريعاً، فعليهم أنفسهم أن لا ييأسوا من الرجوع إلى الله والتوبة الصادقة والقبول من رب العالمين القائل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [(53) سورة الزمر]، وبهذا "يخبر - تعالى - عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال: (قُلْ) يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه، مخبرا للعباد عن ربهم: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب.
(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)... ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى الله - تعالى -بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم"[2].
فمن علامات القبول بإذن الله- أن ترى الحسنة تدعو إلى حسنة والعمل الصالح يتجدد ويتكرر، فلقد كان هذا الرجل بعد توبته يوقف سيارته عند أقرب مسجد يسمع فيه الأذان ليؤدي الصلاة، ومن يتوقع هذا من مثل هذا الرجل؟. فرحمة الله واسعة، ومن طلبها وجد منها ما تقر به عينه وتطيب نفسه، ويُرفع شأنه.
سابعاً: لقد قال الرجل فور توبته كلمة تعتبر رسالة إلى كل محتسبة شفيقة، قال: "وفَرِحَتْ بي زوجتي المُتدينة التي تَحثني دائماً على تركِ الخمر" فزوجته ظلت تدعوه وتذكره وتحثه على ترك الخمر، ولم تيأس ولم تضجر، رغم عدم استجابته لها، وإصراره على العصيان، فجهدها مسجل مدخر تراه ولو بعد حين، فالعاصي حين يسمع من محتسب نصحاً، يمكنه أن يتناسى الكلمات لكن لن ينساها، سيظل يذكرها يوما بعد يوم، وربما أثرت فيه يوماً ما، ولعل امرأة هذا الرجل كانت كثيرة الطرق، فما قالت المرأة أم الطفل- كلمتها إلا وقد بلغ النهاية وحُقَّ للقيد أن ينكسر، وينطلق الرجل من سجن الذنوب حراً بتقوى الإله.
ثامناً: فرح الزوجة بتوبة زوجها حكمةُ عظيمة، فلا تقُل المحتسبة: كيف تأثر بكلام فلانة، ولم يتأثر بكلامي وأنا أدعوه وأعظه كل يوم؟!، فرجوع المذنب عن ذنبه وفعله الخير هو ضالة المحتسبين، وأنى وجدت على يد أي أحدٍ فرحوا بها، فكما لو ضاع على أحدنا مالٌ واستعان بآخرين ليبحثوا عليه، لا يقول: ليتني أجدها أنا، لا أريد أن يجدها أحد غيري، ثم إن وجدها غيره تململ واستنكر، وربما لامَ وذم بعض التفاصيل.. فلهذا: إن زوجة الرجل نحسبها حكيمة تقتدي بها النساء، وذلك أنها كانت تدعوه وتدعوه فلما تاب على يد غيرها فرحت وظهر فرحها حتى شعر به زوجها، وحمد منها ذلك، وهكذا تكون الزوجة الصالحة التقية، المحبة لأهلها وزوجها وقبل ذلك كله دينها ومنهجها التي تحيا عليه وتموت عليه.
وهذه القصة إنما هي نموذج لمثل هذه الطريقة في الاحتساب، والغرض من الإفادة من تجارب الآخرين، وقصص المحتسبين، مما تجري على المرء دون اعتبار، ولو حلَّلنا كثيراً من الوقائع والأحداث لوجدنا فيها فوائد قيمة، سيأتي من بعدنا بأجيال، ويقرؤونها على أنها من قصص الأولين وتاريخ الماضين بالنسبة لهم، فنحن أولى بالإفادة منها.
نسأل الله - تعالى - بمنه وكرمه أن يعلمنا ويوفقنا وينفعنا ويصلح شأننا.. آمين.
[1] - 28 قصة من حياة الصالحات المعاصرات للشيخ: عبد السلام العييري: http://forum.hawahome.com/t350270. htmlبتصرف.
[2] - تفسير السعدي: (ص: 727).
علي بن أحمد المطاع