نوستالجيا (مارجريت) (8)
كمال المرزوقي
وكالعادة استلقيتُ محملقا في السّقف، ليبدأ (الجينيريك) المعتاد : خيوط معقّدة تزداد كثافة وتشابكا في سرعة من نسج عنكبوت أيّامي الّتي يصنع لي منها شبكة ذكريات ملوّنة ... ثمّ يغزو الضّوء الباهر لبداية الحلم عينيّ فأستيقظ في ذلك العالم الّذي نفرّ إليه كلّما أثقلتنا هنا الآلام والأحزان.
- التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
- عندي غدا موعدٌ مع مدير دار النّشر والتّوزيع، فأحتاج أن أنام قليلا ليصفو ذهني.
هزّت (مارجريت) رأسها في صمت، وانطلقت تجهّز لي طقوس نومي ..
وكالعادة استلقيتُ محملقا في السّقف، ليبدأ (الجينيريك) المعتاد : خيوط معقّدة تزداد كثافة وتشابكا في سرعة من نسج عنكبوت أيّامي الّتي يصنع لي منها شبكة ذكريات ملوّنة ... ثمّ يغزو الضّوء الباهر لبداية الحلم عينيّ فأستيقظ في ذلك العالم الّذي نفرّ إليه كلّما أثقلتنا هنا الآلام والأحزان.
كانت الملكة (شاميرام) تستقبلني استقبال أبطال الأساطير الفاتحين، لتتشرّف برؤيتي لحدائق بابل المعلّقة .. سعيدة بكونها هي دليلي السّياحي.
عقلي الباطن في أثناء الرّحلة الّتي تقطر فيها كلّ حركة من حركاتي بصلَفِ وكِبْرِ وعنجهيّةِ من يمكن أن تخطب ودّه الملكةُ يخبرني أنّني مصاب بجنون العظمة، وأنّ فرويد يقول: ( ... )
فأذبّه أنا بصولجان المجد الّذي أحمله وأزجره صارخا فيه همسا من بين أسناني محاولا أن لا أجعلها تتفطّن لمحاورتي معه حتّى لا تظنّ بيَ الظّنون لكونها لا ترى من أخاطب :
- اخرس يا أحمق، فرويد نفسه ما زال لم يخلق بعدُ لو كنت ذا عينين وتنبّهت للتّاريخ المعلّق على الحائط الأشوريّ الضّخم .. اخرس!
وتلتفت لي (شاميرام) بجمالها الخالص الّذي يشبه وجه امرأة لتعزف لي بصوتها سؤالا :
- هل أمرتني بشيء ؟
قلت وأنا أحاول أن أعدّل وضعيّة وقاري المصطنع الّذي بعثره للحظة عقلي المستكنّ :
- احم .. كلاّ، واصلي واصلي..
وصحوتُ غارقا في العرق البارد ..
حتّى حلم اللّيلة الّذي أنتظره كديدني طيلة النّهار بشوق، وأسوّي له وضعيّة وسادتي، وأضبط لأجله درجة حرارة الغرفة، كان سمجا باردا سخيفا مملّا ، بل وأزعم أنّه مكرّر رأيتُه قبل هذا مرّتين على الأقلّ!
تجهّزتُ بسرعة، وقمتُ بشيء يشبه الاستحمام، ووقفتُ على مأدبة الإفطار الصّباحيّ الّتي جهّزتها لي (مارجريت) من الجبن والزّبدة والمربّى والقهوة و(الكورن فليكس) والخبز والحليب المتخثّر والعصائر والقهوة حاسبة أنّها تطعم فيلًا حديث الولادة.
فاضطرّتني لأن أقف أدبا أمام المائدة وأدخّن سيجارتين على سبيل الإفطار ناويا المجاملة لا أكثر!
واختطفتُ محفظتي من على الأريكة وسترة بذلتي السّوداء من مكان عشوائيّ لا أدري كيف ظفرتُ به من غير عناء .. وانطلقتُ أحاول أن ألحق موعدًا لا آبهُ له في حقيقة الأمر.
كان الاكتشاف الأوّل هو حالة الطّقس الّذي يلعب معي دوما لعبة : " لستُ كما تظنّ " .. فإذا قمتُ صباحا أتلوّى بردًا أجد شمسَ (يونية) تتثاءب في الشّارع مللًا من روتين المسؤوليّة الّذي يجبرها على حرقنا وشوْينا بلا رحمة، وإذا قمتُ مختنقا من الحرارة وجدتُ دموع المطر تسحُّ هَتونًا وزمهرير الرّيح يسلّم معانقا لاثمًا الوجه واليد صافعًا القفا في قلّة أدب وانعدام ضمير !
بكلّ حال أنا اليوم قمتُ غارقا في العرق البارد، فتوقّعتُ أن أجد فصلا ربيعيّا لطيفا أكرهه برغم كلّ شيء .. فهو يشعرني بالنّفاق وعدم قدرته على الاختيار وتحديد موقف واضح .. أحارّ هو أم بارد ؟!
لكنّه كان مصرّا على لعبته السّمجة .. كان خانقًا ..
قيظٌ خانقٌ لأبعد الحدود، يحرق الرّوح نفسها، ويبخّر الهواء من رئتيك قبل أن تجد المسكينتان الفرصة لتحويل ثاني أوكسيد الكربون إلى أوكسجين – إن كانتا فعلا تفعلان هذا - ..
الخلاصة .. أسير تحت الشّمس وهي تمجّ ريقَها كأنما أتنفّس داخل برّاد شاي يغلي ..
والأتعس من كلّ هذا .. أسيرُ بخمسين ورقة لا تحمل غير مقدّمة الرّواية لموعد مع ناشر أقابله لأوّل مرّة ينتظر منّي أن أقدّم له بعض أعمالي الّتي هو منبهرٌ بها، ولا أدري أنا عنها شيئا !
وأتعسُ التّعْس أنّني كنت موقنًا مع قلّة النّوم وانتفاخ عينيّ أرقًا وتبلبل خواطري وانزعاجي من مقلب حلم ليلة الأمس أنّني سأصل مبعثر الأفكار بشكل فوضويّ، بلا نقطة ارتكاز واحدة تمكّنني من التّوازن، ولا منطقة ثابتة أحاول أن أستقرّ عليها في الحوار ..
وهكذا بائسا كبطل قصّة (فيكتور هوجو) سرتُ أتأمّل وجوه العابرين في وقاحة وأدندن:
لكنّ سماءك ممطرة وطريقك مسدود مسدووووود
وصلتُ إلى المطعم فاحش البذخ الّذي ضُرب لي فيه الموعد .. كأنّني خارج من حصّة (ساونا) ..
واستقبلني نادلٌ أنيق يصلح أن يكون (ماركيزًا) أو (دوقًا) بابتسامة أنيقة مزيّفة جدّا ..
- مرحبًا سيّدي
- أهلًا .. أين الحمّام ؟
خفتت الابتسامة المسرحيّة ولاحت في عينيه نظرة عدم ارتياح وتوجّس، وأشار بيده إلى لا مكان .. وأجاب في كبرياء :
- من هنا .. تفضّل.
أدركتُ بذكائي الخارق أنّه يتساءل في نفسه عن سرّ طلبي المشروع هذا، فقلتُ له مفسّرا في لباقة كي لا يقتله الفضول :
- مثانتي ممتلئة.
هزّ رأسه في تعاسة .. وكرّر إشارته محاولا الخلاص منّي، كأنّني قادم فقط لأفرغ مثانتي في هذا المحلّ المحترم..
- شكرا ..
دخلتُ مباشرة للحمّام، ورحمةً بكم، وبالقارئات من المحترمات سأعفيكم من تفاصيل اللّذّة الّتي تعقب الألم، والنّشوة الّتي يصنعها دخولك لحمّام رخاميّ أسود كالأبنوس لتقضي حاجتك الفيزيولوجيّة العاديّة الّتي تفعلونها جميعا سرّا وتستحيون منها، والشّعور بالرّضا عن الدّنيا والكون الّذي يغمرنا بعدَ ..
المهمّ ..
رجعتُ إلى الصّالون الرّئيسيّ للمطعم أبحثُ عن الأستاذ (عارم)، ولم ألبث إلّا يسيرا حتّى سمعتُه يناديني ..
التفتُّ لأجد رجلا .. رقيقا إلى حدّ الأنوثة .. رحيما إلى حدّ الخنوثة .. لطيف الحركات كالرّاهبات .. وعرفتُ فيما بعدُ أنّه من النّوع الّذي ربّاه أهله ليحيا في عالم لا يوجد إلّا في كتب آداب المعاملة وكيف تتعلّم الإيتيكيت ؟ .. عالم يُستعمَل فيه في كلّ خطوة مفرداتُ : ( من فضلك، لو سمحت، شكرا، عفوا، هل يمكنني، تفضّل، معذرة ... )، والّتي تُترجم في واقعنا وعند الرّعاع من أمثالي إلى لافتة كبيرة مضيئة مكتوب عليها : ( أنا هشّ ضعيف مغرٍ بالإهانة فاصفعني كما تشاء) ..
وشكله وتكوينه الجسمانيّ لم يكن بعيدا أبدًا عن تكوينه النّفسيّ ببدانته الأنثويّة المترهّلة، وتراخيه، وتهدّل كتفيه، وقصر قامته المفرط الّذي يجبرك أن تنظر للأسفل لتحدّق في أعلى صلعته الحمراء الّتي أنهكتها عوامل التّعرية والانجراف، وعينيه الغافيتين طيلة اليوم حتّى لَتَحتاجُ جهدا حقيقيّا وخيالا خصبا لتتصوّر أو تصدّق أنّه يمكن أن يكون مستيقظا !
وكان يمدّ يديه كلتيهما قبل الأمتار الثّلاثة الّتي تفصلني عنه في إرادة شهوانيّة – هكذا بدا لي – للمصافحة ..
صافحته بحرارة وتركته يأخذ بيدي في حنان ! ليصطحبني للطّاولة الّتي يجلس عليها ..
وخطوتُ معه خطوات ثمّ انعطفنا يمينًا ليقف أمام الطّاولة هاتفًا في حبور :
- أقدّم لك الآنسة (سميراميس)..
والتفتت هي ورفعتْ إليّ عينيها ..
فحبيبة قلبك يا ولدي ساكنة في قصر مرصووووود
وتوقّف الزّمنُ عندي يستردّ أنفاسه ..
تبّا لك سائر اليوم يا .. (فرويد)!