عند الترجمة الذاتية (1)
كمال المرزوقي
التّرجمة الذّاتيّة عليها ما على الحدود والتّعريفات من الاعتراضات من كونها لا تعرّف من جهلها بحقيقة وماهية الشّيء بقدر ما تفصله له عن غيره وتخرّج له الفرق.
- التصنيفات: التصنيف العام -
التّرجمة الذّاتيّة عليها ما على الحدود والتّعريفات من الاعتراضات من كونها لا تعرّف من جهلها بحقيقة وماهية الشّيء بقدر ما تفصله له عن غيره وتخرّج له الفرق.
لو عرّفت الحبّ بأنّه حركة في القلب، أو نسيم ليالي إبريل السّاحرة بأنّها تيّار هوائيّ بارد، أو أمسيات الحزن والذّكريات بأنّها ساعة ما بين العصر إلى المغرب .. ألا تشعر بالخيانة لهذه المعاني والحقائق ؟!
وحين تختصر حياتك وأحزانك، أفراحك وإحباطاتك، نجاحك وفشلك، فخرك وبغضك، في نقاط مرقّمة مسلسلة ... تقرؤها فلا تعرف فيها نفسك، ألا تشعر بالخيانة ؟
قلتُ لوالدي يوما وهو يمسك بيدي ونحن نمشي تحت فجر سماء يوم بعيد جدّا في خطّ الزّمن الوضعيّ، قريب جدّا في توصيلات ذاكرتي من سنة 1986، وأنا ألهث تحت معطفي والكوفيّة الملتفّة حول عنقي وقلنسوتي الصّوفيّة الّتي يحاربون بها إمكانيّة إصابتي بزكام، ونحن نرجع بعد صلاة الصّبح للبيت في الطّريق اللّاحب الطّويل الّذي لا يكاد ينحني من شارع مرّاكش بحلق الوادي :
- لو حفظتُ القرآن ماذا ستشتري لي ؟
قال متنهّدا، وعيناه تلتمعان في حلم .. ويده تنقبض على كفّي الصّغيرة النّائمة في راحته الدّافئة الآمنة :
- آآآه .. لو حفظت القرآن سأشتري لك أيّ شيء، أشتري لك حتّى طائرة !
لم يشتر لي والدي أبدا طائرة.
وكنت أدرك حتّى حينها أنّ كلامه مجاز، ولمّا أدر بعدُ الخلاف فيه ..
بالواقع لم يشتر لي والدي عندها شيئا أصلا ..
ولم أطلب الهديّة والجائزة قطّ ..
لكنّني اليوم أدرك أنّ ما أهداه إليّ كان أكبر بكثير .. وأنّ تسجيل هذه الحادثة بتفاصيلها في خلايا ذاكرتي المثقلة بأحداث السّنين لا يمكن أن يكون عبثا ..
لقد أعطاني هذه الذّكرى ..
هل ستشعر أنت بنصف عشر معشار ما أحسّه أنا حين تغزو هذه السّيمفونيّة الحالمة قاعدة دماغي ؟
هل ستشعر بقيمتها الّتي لا تغني عنها كنوز قارون ولا تبلغ شأوها عندي الموناليزا ولا تطربني كهِي خير أوبيرات فانجليز ؟
كيف أكتب لك هذه المسلّة الأثريّة في صفحة شخصيّتي في التّرجمة ؟
كيف أصفها لك، وأشعرك بقيمتها ؟
إنّ التّرجمة لا تغدو أن تكون وصفا لقناعك الّذي تحبّ أن يعرفك به النّاس، وأمّا (أنت) فستظلّ هناك في داخلك مختبئا يزيّفك للنّاس اسمك ومهنتك وصفتك وطولك ووزنك وحالتك الاجتماعيّة ورصيدك في البنك ومعارفك وعلاقاتك والكتب الّتي تقرأ والكلمات الّتي تقول ..
ثمّ تختزل لك ذلك كلّه التّرجمة فتزيدك زيفا إلى زيفك ..
أنا وأنت يا صاحبي مجموعة ذكريات، نشترك فيها فتغدو حيّة، ونتقاطع عندها فنتعارف، وتتباين طرقنا فنكتفي بمراقبتها من بعيد كالآثار القديمة .. قد تعجبك زخرفتها لكنّها لا تغيّر حياتك أبدا ..
اللّهمّ اجعل لوالدي عندك يدا بكلّ حسنة أخلصتُ لك فيها يوما وأرجى عمل كتمته تجعل جزاتي به عندك في كنف سترك .. خذ له منّي حتّى يرضى وأصلح له شأنه كلّه، إنّك أهل الفضل والمغفرة.
ربّ يسّر وأعن!