عند الترجمة الذاتية (2)
كمال المرزوقي
التّرجمة الذّاتيّة عليها ما على الحدود والتّعريفات من الاعتراضات من كونها لا تعرّف من جَهِلَها بحقيقة وماهية الشّيء بقدر ما تفصله له عن غيره وتخرّج له الفرق، لو عرّفت الحبّ بأنّه حركة في القلب، أو نسيم ليالي إبريل السّاحرة بأنّها تيّار هوائيّ بارد، أو أمسيات الحزن والذّكريات بأنّها ساعة ما بين العصر إلى المغرب .. ألا تشعر بالخيانة لهذه المعاني والحقائق ؟!
- التصنيفات: التصنيف العام -
التّرجمة الذّاتيّة عليها ما على الحدود والتّعريفات من الاعتراضات من كونها لا تعرّف من جَهِلَها بحقيقة وماهية الشّيء بقدر ما تفصله له عن غيره وتخرّج له الفرق.
لو عرّفت الحبّ بأنّه حركة في القلب، أو نسيم ليالي إبريل السّاحرة بأنّها تيّار هوائيّ بارد، أو أمسيات الحزن والذّكريات بأنّها ساعة ما بين العصر إلى المغرب .. ألا تشعر بالخيانة لهذه المعاني والحقائق ؟!
وحين تختصر حياتك وأحزانك، أفراحك وإحباطاتك، نجاحك وفشلك، فخرك وبغضك، في نقاط مرقّمة مسلسلة ... تقرؤها فلا تعرف فيها نفسك، ألا تشعر بالخيانة ؟
وكان مبدأ الأمر يوما من سنة 1984 .. كنتُ فيه ذلك القلب الصّغير الّذي ضخّ لأربع سنوات فقط الدّم في شراييني، وكنتُ فيه ذاك الفؤاد الخليّ الّذي أنشد المجنون فيه:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا
كنتُ ألهو عابثا، وأعبثُ لاهيًا، وذلك الوالد الصّالح عندي تحقيقا لا تعليقًا ولولا النّهي ما زكّيتُ بعده أحدًا وإنّي لكذلك أحسبه يقرأ ورده من القرآن.
وكان يكرّ محفوظه على عادته والمصحف بين يديه منشور غير أنّه لا ينظر فيه، فنُسّي الآية وأخطأ الحرف وما انتبه.
فأنطق الله ذاك اللّسان اليافع الّذي أتت عليه أربع سنين مخصباتٍ، ففتح عليه ونبّهه لما ألقى على لسانه الشّيطان.
وما أزال وقد مرّت فوق تلك الأربع ثلاثون قرّبت نحو المنون - والله نسأل حسن الختام - جموده وتصلّب حركاته، ثمّ تعديله لوضع جلسته ونظرته السّريعة إلى المصحف مستثبتًا ورِعشة إنسان عينه وهو يرمقني مستفهمًا :
- كيف قلت ؟
فأعدتُ عليه ما قال وما قلتُ وصوّبتُ ذلك الثّاني وطأطأتُ الرّأس إلى ما كنتُ فيه مشتغلا في جدّ وهمّة بما بين يديّ من لعبي وأشيائي الصّغيرة الّتي هي عالمي الحميم الألصق !
كانت الآية من سورة البقرة .. وجاءني السّؤال الثّاني يزعجني عمّا أنا فيه باستخبار متواتر :
- أكنت تسمع ما أقرأ ؟
- نعم
- فهل تعرف السّورة الّتي أقرأ ؟
- لا
- فهل تعرف غير هذه الآية ؟
- نعم
- فاقرأ ما تعرف
فاستفتحتُ البقرة أقرأ وذلك الوجه الحبيب فاغر فاه دهشة وفي عينيه تصطرع - لو أنّني حينها كنت أدرك - فرحة وانبهار وعجب ونشوة وخشوع ورضا وراحة وانشراح .. حتّى وقفتُ عند قوله تعالى : " ليس البرّ ".
وما لقّنني ملقّنٌ ولا علّمني معلّمٌ إلّا تكراره أمامي كلّ يوم للورد قبل المغرب، وما تتعتعتُ بحمد الله في حرف ولا أحلتُ معجما ولا متحرّكا.
وعُرضتُ على الأمّ والأعمام والأخوال وحتّى جارتنا اليهوديّة (مدام إيفلين)، في كلّ مرّة يقال لي اقرأ فأقرأ، ويعجب القوم، وأنا من عجبهم أعجب ولا أبين !
وكان لزامًا أن تتلطّف يد العناية لتلهم ذيّاك الوالد أنّ هذا برعمٌ ينبغي رعايته فبدأ يحفّظني كتاب الله تعالى، وكان أوّل سورة أتحفّظها سورة العنكبوت .. وإنّي لأمرّ اليوم في وردي عليها فواللّه الّذي لا إله غيره إنّي لأشمّ بأنفي ريح تلك السّنين أيّام كان للهواء طعم لم يتسنّه وللحياة لون لم يبهت ولم يحل.
ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيرا!