حكمة الابتلاء بالذنوب والمعاصي (1) إصلاح علاقة العبد بربه
قد يتساءل كثيرون عن حكمة وقوع المعاصي وما يترتب عليها من الابتلاءات، وربما خطر في بالهم السؤال الآتي: ألم يكن المولى عز وجل بقادر على أن يمنع هذه المعاصي فلا تقع أصلا؟
- التصنيفات: التوبة - الطريق إلى الله -
قد يتساءل كثيرون عن حكمة وقوع المعاصي وما يترتب عليها من الابتلاءات، وربما خطر في بالهم السؤال الآتي: ألم يكن المولى عز وجل بقادر على أن يمنع هذه المعاصي فلا تقع أصلا؟ وعن هذا التساؤل أجاب ابن القيم باستفاضة، وفصّل أنواع الحكمة الإلهية التي اقتضت وقوع الذنوب أو المعاصي.
ويمكن تقسيم هذه الحكم العظيمة والمنح الجليلة في ثلاثة أمور:
1- إصلاح علاقة العبد بربه عز وجل.
2- إصلاح علاقة العبد بنفسه.
3- إصلاح علاقة العبد بالآخرين.
الأول: إصلاح علاقة العبد بربه عز وجل:
يتجلى ذلك بوضوح فيما يلي:-
أ- التوبة وصولا إلى الكمال البشري:
قال بعض العارفين: لو لم تكن التوبة أحب إلى اللّه لما ابتلى بالذنب أكرم المخلوقات عليه (الإنسان) فالتوبة هي غاية كل كمال آدمي، ولقد كان كمال أبينا آدم عليه السلام بها، فكم بين حاله وقد قيل له: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى} [طه:118]. وبين حاله وقد أخبر عنه المولى بقوله: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} [طه:122].
فالحال الأولى حال أكل وشرب وتمتع، والحال الثانية حال اجتباء واصطفاء وهداية، ويا بعد ما بينهما، ولما كان كماله (آدم) بالتوبة كان كمال بنيه بها أيضا، ذلك أن كمال الآدمي في هذه الدار إنما يكون بالتوبة النصوح، وفي الآخرة بالنجاة من النار، وهذا الكمال الأخير مرتب على الكمال الأول.
ب- الحمد والشكر والرضا:
ومن الحكمة أيضا ما توجبه التوبة من آثار عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدونها فيوجب له ذلك من المحبة والرقة واللطف وشكر اللّه تعالى وحمده والرضا عنه عبوديات أخرى، ويكفيه أن اللّه عز وجل يفرح بتوبته أعظم فرح، وينعكس ذلك على الإنسان فيحس بفرح الظفر بالطاعة والتوبة النصوح، ويجد لذلك انشراحًا دائمًا ونعيمًا ومقيمًا.
ج- الاستغفار:
إذا وقع الإنسان في الذنب شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين وأن الجميع مشتركون في الحاجة إلى مغفرة اللّه عز وجل وعفوه ورحمته، وكما يحب المرء أن يستغفر له أخوه المسلم ينبغي له أيضًا أن يستغفر لأخيه، فيصير هجيراه وديدنه.
د- الإحسان والبر والإفضال:
ومن حكم الابتلاء بالمعصية أن اللّه يحب أن يتفضل على عباده ويتم نعمته عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه وإحسانه، ومن أعظم أنواع الإحسان والبر، أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب.
هـ- تحقيق معنى الأسماء الحسنى:
ومن الحكم في الابتلاء بالذنب؛ أنه سبحانه له الأسماء الحسنى، ولكل من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر، لا بد من ترتبه عليه، كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الراحم، ولو لم يكن من عباده من يخطئ ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه، لم يظهر أثر أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب، وما جرى مجراها.. فأسماؤه الغفار والتواب تقتضي مغفورا له وكذلك من يتوب عليه، وأمورًا يتوب عليه من أجلها.
و تعريف العبد بعزة اللّه في قضائه وقدره:
ومن الحكمة أيضا أنه سبحانه يعرف عباده عزه في قضائه وقدره ونفوذ مشيئته وجريان حكمته، وأنه لا محيص للعبد عما قضاه عليه ولا مفر له منه بل هو في قبضة مالكه وسيده.
ز- بيان حاجة العبد إلى حفظ اللّه ومعونته:
ومن حكم الابتلاء بالمعاصي تعريف العبد حاجته إلى حفظ اللّه له ومعونته وصيانته، وإلا فهو هالك، وإن وكله اللّه إلى نفسه وكله إلى ضيعة وعجز وذنب وخطيئة وتفريط، وقد أجمع العلماء على أن التوفيق، ألّا يكل اللّه العبد إلى نفسه، وأن الخذلان كل الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه، وفي دعاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم: « ».
ح- الاستعانة والاستعاذة والدعاء:
يستجلب اللّه من العبد عند ما يبتليه بالذنب ما هو من أعظم أسباب السعادة له من الاستعاذة والاستعانة والدعاء والتضرع والابتهال والإنابة والمحبة والرجاء والخوف.
ط- تمام العبودية:
يستخرج اللّه بهذا النوع من الابتلاء من العبد تمام العبودية، بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلّا للّه وانقيادا وطاعة، والمراد بالذل هنا، ذل المحبة الذي يستخرج من قلب المحب أنواعا من التقرب والتودد والإيثار والرضا والحمد والشكر والصبر والندم، وتحمل العظائم لا يستخرجها الخوف وحده، ولا الرجاء وحده، وهناك ذل آخر هو ذلك المعصية، وبيان ذلك أن العبد متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وتعاظمت نفسه وظن أنه وأنه، فإذا ابتلى بالذنب تصاغرت إليه نفسه وذل للّه وخضع.
ي- سعة حلم اللّه وكرمه وعفوه:
ومن الحكمة أيضًا في ذلك تعريفه سبحانه عبده سعة حاله وكرمه في الستر عليه، وأنه لو شاء لعاجله بالذنب ولهتكه بين عباده فلم يطب له معهم عيش أبدًا، ولولا حلمه وكرمه ما استقام أمر، ولفسدت السموات والأرض، ولا سبيل لعبد في النجاة إلا بعفوه ومغفرته وقبول توبته، فاللّه عز وجل هو الذي وفق العبد للتوبة وألهمه إياها، ومن هنا تكون توبة العبد محفوفة بتوبة قبلها عليه من اللّه إذنا وتوفيقا، وتوبة ثانية منه عليه قبولا ورضًا.
ك- الإنابة والمحبة والفرار إلى اللّه عز وجل:
رب ذنب قد أهاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل والإنابة، والمحبة والإيثار، والفرار إلى اللّه، ما لا يهيجه له كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سببًا لاستقامة العبد وفراره إلى اللّه وبعده عن رق الغي، وهو بمنزلة من خلّط فأحس بسوء مزاجه، وعنده أخلاط مزمنة قاتلة وهو لا يشعر بها، فشرب دواء أزال تلك الأخلاط العفنة التي لو دامت لترامت به إلى الفساد والعيب، إن من تبلغ رحمته ولطفه وبره بعبده هذا المبلغ، وما هو أعجب وألطف منه لحقيق بأن يكون الحب كله له والطاعات كلها له، وأن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر.
ل- التواضع والخشية:
ومن ذلك أن العبد إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق ربه رأى القليل من النعم كثيرا والكثير من عمله قليلا، فيورثه ذلك تواضعًا وخشية وإنابة وطمأنينة ورضا، وأين حال هذا من حال من لا يرى للّه عليه نعمة إلا ويرى أنه كان يستحق أكثر منها.
(من كتاب: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم)