رؤية نقدية للفكر الحضاري الأمريكي
التحليل العلمي لحضارة ما بالطبع يجب أن يرتكز على مرتكزات علمية واقعية، وليس على مجرد قياسات مؤقته، يلعب فيها الجانب النفسي والأيديولوجي الدور الأبرز، فتحليل البنى الحضارية وتفكيك إشكالاتها لا يمكن أن يكون نائياً عن خريطة الواقع السياسي العالمي، وواقع الحراك الاجتماعي على المسطح الأرضي الذي تقطنه الشعوب بكامل تناقضاته وتوافقاته على السواء.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
التحليل العلمي لحضارة ما بالطبع يجب أن يرتكز على مرتكزات علمية واقعية، وليس على مجرد قياسات مؤقته، يلعب فيها الجانب النفسي والأيديولوجي الدور الأبرز، فتحليل البنى الحضارية وتفكيك إشكالاتها لا يمكن أن يكون نائياً عن خريطة الواقع السياسي العالمي، وواقع الحراك الاجتماعي على المسطح الأرضي الذي تقطنه الشعوب بكامل تناقضاته وتوافقاته على السواء.
والدعوة المنادية بتقييم الفكر الحضاري الأمريكي على أنه فكر تم استهلاكه باستخدام التعبير الأشهر في الثقافة الأمريكية الاجتماعية وهو مصطلح الاستهلاك وأنه فسد فلم يعد ينتج إلا أنواعاً مختلفات من الانحراف الذي يبتعد بالتوجه الإنساني عن استقامته وفطرته الطبيعية ومدارج تطوره الإيجابي، تستند على اعتبارات وتفرض فروضا تعتبرها ثابتة الأثر واقعيا بل ومعملياً أيضاً.
ولا يمكن لمحلل للبنى الحضارية لإمبراطورية ما أن يعتمد بحال على دغدغة مشاعر الشعوب أو يعتمد على تخدير فكرهم مستغلا حالة اجتماعية أو حضارية كحالة الضعف التي تمر بها الشعوب الإسلامية مثلاً أو حالات الهزيمة النفسية عند آخرين أو مثلها.
وحالة السقوط للفكر الحضاري الأمريكي هي حالة يتم تداولها بالبحث والدراسة في كثير من المراكز البحثية الأمريكية، وعلى لسان الفلاسفة والباحثين الأمريكيين أنفسهم، ليس لمجرد الاعتراف بالسقوط من عدمه بل للبحث عن عوامل يمكنها أن تستنقذ تلك الحضارة من الانهيار الذي تبدو علاماته عصية على التجاهل والاستخفاء.
وعندما أعلنت الإدارة الأمريكية قبل أسابيع عن انسحاب من العراق، فلم يكن ساعتها الحلم الأمريكي ببريقه الذي تخيله قائدو الغزو على تلك البلاد الخضراء، لكنه بدا مقعرا في مرآة الرؤية السياسية ومشوها كمقوم من مقومات الظهور الامبراطوي وانتصاره.
لقد خرجت أمريكا من هذه الحقبة التاريخية، بوصف مضاد تماما لما ترتجيه الامبراطوريات المنتصرة، فكانت أوصاف كالقوة الغاشمة، والغزاة الأوغاد، والمجرمين العتاة، والكذابون الجناة، وغيرها قد شاعت كوصف للامبراطورية التي سعت نحو تجميل وجهها عبر عقود طويلة لتحتل صدارة العالم المتحضر، وبدت أفكار المؤسسين الفكريين المعاصرين لأمريكا الحديثة صامويل هينتجتون وفرانسيس فوكوياما وبارنالد لويس، كأفكار صدامية لم تؤسس للامبراطورية بل دفعتها للهاوية!
ومخطئ على أية حال من يظن أن ضحايا الامبراطورية كانوا من منطقة واحدة فقط ولا من المسلمين فقط، نعم ربما يكونون الأكثر تضرراً، لكن منطقة كأوربا وأفريقيا الوسطى واستراليا وأمريكا الجنوبية لم تسلم من الآثار السلبية لتلك الامبراطورية "يمكننا الحديث عن إبادة الهنود الحمر بطرق بشعة، وإلقاء قنبلة هيروشيما في عام 1945، دفن المخلفات النووية ببلاد مستعمرة، ثم حروب أفغانستان والعراق..وغيرها"
والذين يعتبرون عمر تلك الامبراطورية الأمريكية قصير لدرجة لا تتيح لنا الحديث عن سقوطها باعتبار قانون البقاء والانهيار هم أيضا مخطئون، فقد ظهرت أمريكا كامبراطورية طاغية منذ أربعينيات القرن الماضي، وبدت كقوة أمبريالية بحضور طاغ في مواجهة السوفييت كما بدت كوريث غير شرعي لانجلترا العجوز إذ تداعت وفقدت مستعمراتها حول العالم في انهيار لم يدرس بعناية حتى الآن، هذا فضلا على أن القياس الزمني الحضاري العصري قد اختلف عن أيام مولد قانون القيام والسقوط للدول، فالتسارع هو سمة العصر، وقيمة البناء والاختفاء صارت لا تقاس بمساحة زمنية وإنما تقاس بالآثار.
جانب آخر قد يشي بالفكرة، ففي عمر الفتوة للإمبراطوريات عادة لا تؤثر الأدوار الفردية للقادة أو المسئولين الكبار، بل يسيرون في ركاب الحضارة الإمبراطورية الغالبة، وتكون تأثيراتهم تابعة للفكر المسيطر، والحضارة الرومانية نموذج ماثل أمامنا، إذ تتابع عليها القياصرة، لا يكادون يذكرون بسياسات متميزة عبر التاريخ، برغم تفرد كل منهم بها، إذ كان النتاج الحضاري الطاغي يذيب الأثر الفردي لهم، لكن في النموذج الأمريكي يبدو لنا شكل آخر من تأثير الأفراد، يدل بذاته على ضعف البناء الحضاري وتأثره بالفردية، ونتمثل بالطبع شخصية بوش الأب والابن، والشخصيات التابعة لهما، ويبدو لنا معهم كم كان الأثر الفردي ظاهراً في التحرك الإمبراطوري عالميا، وكم كان دوره في إضعاف بلاده وتشويه صورتها، وجلب شعارات الكره والحقد عليها عالميا، وتأثير أيديولوجيته بادية التعصب على القرار.
إن معادلة تضع في خانتها اليمنى فشلاً بائناً في أفغانستان، وآخر بادياً في العراق، وثالث على المستوى الاقتصادي، ورابع على مستوى الأداء الاجتماعي يصعب أن ينتظر منها كنتاج على الطرف الأيمن شيئا سوى الضعف أو بداية السقوط، وهو ما عبر عنه كثيرون من أصحاب الرأي والفكر الغربيين إذ يتحدثون بصراحة عن: "خدعة العم سام"، أو "سراب الحلم الأمريكي"، أو "انكسار الأيديولوجية الغرور"، ولهم في ذلك رؤى مختلفة.
ويمكننا نحن هنا بدورنا أن نتحدث عن الصورة الدموية التي بدا بها الفكر الأمريكي وكيف أنتجت ردود فعل مضادة، إذ إن كل ثقافة صارت تعمل على حماية نفسها، وكل حضارة صارت تعمل على إنقاذ ما تبقى لها من آثار، ظهر ذلك بجلاء في التعامل مع الحضارة الصينية والإفريقية واللاتينية، وكانت جذوة ظهوره مع الحضارة الإسلامية، التي بدا منها مقاومة عنيدة تجاه المشروع الدموي الأمريكي، يعلن عن صراع حضاري كامل من شتى الوجوه، ما يدل عن استعصاء تلك الحضارة الإسلامية على الانكسار الهزيمة أو الذوبان كما يعلن عن ميلاد متجدد لها ناتج عن عدم انكسار الظهر، بل تقويته بما تلقى من ضربات، ويظهر من جانب آخر باد عن قوة مكتومة بها ما تلبث أن تعود قدرتها من جديد.
كما يمكننا أن نتحدث من جهة أخرى عن أدبيات الحضارة الأمريكية وكيف حاولت تهميش الآخر عن طريق تقسيم البشر لدرجات ومستويات، وتقليل قيمة موروثاتهم الحضارية التي يعتزون بها، وتصغير حجم المبادئ والقيم التي توارثتها الشعوب في مقابل القيم والمبادئ الأمريكية، وهو بذاته ما اصطدم بشدة مع النموذج الحضاري الإسلامي الذي يدعو إلى التعايش الإنساني واحترام الآخرين، والمساواة بين حقوق الناس أجمعين.
ويمكننا أن نشير أيضا إلى استراتيجية الضغط التي انتهجها الفكر الأمريكي تجاه إرادة الشعوب، ما أنتج نوعين من النتائج أحدها يتمثل في المقاومة النفسية لحالة التقمص الإنساني التي أرادها الفكر الأمريكي والثاني ما يمكن التعبير عنه بالسقوط الحتمي في مستنقع الكراهية العالمي.
من جانب آخر ضعف كثيرا أثر عمليات الانبهار بالتكنولوجيا الصناعية في السيطرة على عقول النخب في المجتمعات المختلفة، خصوصا الإسلامية منها، إذ حطمت الأسواق وإغراق المعروضات، وتنامي عمليات الاتصال العالمية أسطورة احتكار عرض التكنولوجيا، فصار المنتج الحديث متاحا في يد الجميع فور عرضه بالأسواق وصارت عمليات الانبهار مكسورة الأثر ومرتبطة بالقدرة المالية لكل أحد على حده.
لقد صدم المجتمع الأمريكي من داخله إبان الإعلان عن التدهور الاقتصادي الشديد للامبراطورية، وبان للمواطن الأمريكي الجاهل بالسياسة الخارجية غالبا أن ممارسات النتاج الحضاري لامبراطوريته التي سلمها للنخب، قد أفقدته عبر الحروب ومحاولات السيطرة على العالم قوت يومه ومساكنه، وكثيرا من بنوكه وشركاته ومؤسساته، وظهر حينها الوجه الأقبح للرأسمالية المتغولة وآثارها المدمرة الممكن حدوثها، إذ جعلت حياة الأفراد قائمة على نهج استهلاكي دائم، ودورة اقتصادية نفعية قد تقهر الفرد وتهرسه وتمرغ أنفه بالتراب، هذا أيضا كان له أثر آخر سلبي على تقييم الأداء الحضاري للامبراطورية القوية، واهتزت بعد هذا العارض في أعين الشعوب تلك الصورة العملاقة للاقتصاد والاستثمار التي نسجها الخيال الأمريكي في هوليود محاولا تصديرها إلى الحضارات المغلوبة.
على الجانب الإنساني فقد أدى تصوير الإنسان في الفكر الحضاري الأمريكي على أنه مجموعة من الأفكار والممارسات الشهوانية التي لا ترعى قدرا لحدود قيمية ولا دينية ولا عرفية إلى ثورة معارضة أخلاقية عالمية تبناها أصحاب القيم وأصحاب المبادئ والمحافظون والمتدينون، إذ أعلنوا رفضهم لهذا التصور"الشهواني الاستهلاكي" وبان أثرهم إيجابيا بقوة على شعوبهم، وظهرت دعوات متتابعة لمعارضة الانحلال الأخلاقي الأمريكي وإدانته في مقابل الدعوة إلى المحافظة، بالطبع لم يبد ذلك بأثر متساو في مختلف المجتمعات، بل كان غالب الظهور في المجتمعات المحافظة والإسلامية بالأخص، على أن مجتمعات مفتوحة أيضاً لم تخلو من مثل تلك الدعوات "منعت الحكومة الصينية أيضا المواقع الإباحية من الانترنت بصورة تامة".
سياسياً بدا الفكر الليبرالي كما لو كان منقذا لصورة أمريكا السياسية، خصوصاً بعد نجاح الديمقراطيين، وبرغم أن الظرف العالمي، يشير إلى أن هذا العصر هو العصر الذهبي لليبرالية، فإن تساقطا لها أيضاً يبدو على مستويات داخلية وخارجية، فنسبة الأمريكيين الذين يطلقون على أنفسهم ليبراليين ثابتة أو تشهد تراجعا، وهناك الآن اثنان من المحافظين في أمريكا مقابل كل ليبرالي، و على مدى الأربعين سنة الماضية، عجزت الليبرالية بشكل مذهل عن توسيع حصتها على الساحة. ووفقا لاستطلاع أجرته جريدة نيويورك تايمز وشبكة سي بي إس نيوز في أكتوبر الماضي فلا يثق في الأداء الليبرالي من الشعب الأمريكي أكثر من 10 % فقط من الأمريكيين!!
أوباما الذي لبس ثوب مارتن لوثر لم يفلح في تقليد دوره في القضاء على المفسدين، وذاعت حالات الفساد الحكومية، ولم ينفع الديمقراطيين تلك النزاعات المفتعلة في الكونجرس لكسب التأييد، وبدا نجم الجمهوريين في البزوغ من جديد، مما دعا أوباما لاتخاذ مواقف أكثر تطرفا من المواقف الجمهورية رهانا على تأييد المواطن "الإبقاء على معتقل جوانتانامو، دعم حكومة جنوب السودان العنصرية، دعم أثيوبيا وكينيا للسيطرة على الصومال، استمرار الدور العسكري في أفغانستان... الخ".
الليبرالية في خارج أمريكا هي الأخرى بادية السقوط، فقد تعاملت الليبرالية خارجيا منذ نشأتها مع ثلاثة أنماط مختلفة من المواجهات، هي الأيديولوجيات المدعومة شعبياً، والغير مدعومة شعبيا والأخطار القادمة من داخل المجتمع نفسه، وبالنظر للتغير المجتمعي في العقد الأخير نستطيع أن نتهم نظرية فوكوياما القائلة بانتصار اللليبرالية إلى الأبد بالخسران، فالصدام دوما وإن كان مقبولا سياسيا إلا أنه عدو للقيم المجتمعية، وخاصم دوما من المكاسب السياسية، والحروب التي مارستها أمريكا عززت سقوط القيم الليبرالية، وأنشأت قيما أخرى وقوانين وممارسات طاغية "قوانين مكافحة الإرهاب نموذجاً".
ثم يأتي اختيار هادم آخر للفكر الإمبراطوري الأمريكي هو ما يسمى فرض الديمقراطيات بالقوة، ما أدى إلى انهيار مسمى القوة الناعمة للدبلوماسية الأمريكية، أضف إلى ذلك ارتفاع منحنى الانفصال الليبرالي عن القاعدة الأخلاقية للجماعة وفقدانها للمثل العليا.
لقد تمثلت خيارات الممارسة الحضارية للفكر الأمريكي في عدة نماذج لا غير، الأول هو نموذج التميز الغربي حيث يرى أن أمريكا تمثل الحداثة، وأن كل العالم سوق لرأسماليتها على المستوى الاقتصادي، وسوق لليبراليتها على المستوى السياسي، والثاني هو النموذج الامبراطوري المعتمد على القوة في تنفيذ الفكرة، والثالث هو نموذج الاستنساخ من المجتمع الأمريكي، والرابع هو نموذج القلعة، حيث يتراجع الفكر الأمريكي ويتمحور حول نفسه ليحمي نفسه، والرابع هو نموذج التعايش والجذب، وقد تنقل الفكر الأمريكي بالفعل بين تلك النماذج محاولا صهر العالم فيها للإبقاء على صورة القطب الأوحد لكن لا يبدو حسب الرؤية التحليلية السابقة أنه سينجح!
خالد روشه