عمر بن الخطاب وواجبات الخليفة نحو رعيته

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الخشية والمراقبة لله عزّ وجلّ في جميع أحواله، ولقد كان في تعامله مع رعيته أشد خشية لله وخوفًا من أن يضيع ما استرعاه الله عز وجل.

  • التصنيفات: سير الصحابة -

خشية عمر من تضييعه حقوق رعيته:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الخشية والمراقبة لله عزّ وجلّ في جميع أحواله، ولقد كان في تعامله مع رعيته أشد خشية لله وخوفًا من أن يضيع ما استرعاه الله عز وجل.

قدم معاوية بن حديج رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه بفتح الإسكندرية، وأناخ راحلته، فخرجت جارية لعمر رضي الله عنه فرأته وعليه أثر السفر، فأدخلته فقربت إليه خبزًا وزيتًا وتمرًا، فأكل، فقال عمر لمعاوية رضي الله عنهما: "ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟" قال: قلت: "إن أمير المؤمنين قائل" (نوم القيلولة)، قال عمر: "بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!" [1].

وقال عمر رضي الله عنه: "لو مات جمل من عملي ضياعًا، خشيت أن يسألني الله عنه" [2].

ولما كانت آخر حجة حجها عمر رضي الله عنه أناخ بالأبطح ثم كوم كومة من بطحاء ثم طرح عليها رداءه، ثم استلقى ومد يديه إلى السماء، فقال: "اللهم قد كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مضيع" [3].

ولما حضرته الوفاة رضي الله عنه جعل الناس يثنون عليه بعدله في إمارته وقيامه بحقوق رعيته، فقال رضي الله عنه: "أبالإمارة تغبطوني، فوالله لوددت أني نجوت منها كفافًا لا عليَّ ولا لي".

ومن الآثار الدالة بمجموعها على خشية عمر رضي الله عنه من التفريط في رعيته ما روي من أنه رضي الله عنه كان يدخل يده في دَبَرَةِ البعير (قرحتها)، ويقول: "إني أخاف أن أسأل عما بك" [4].

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: بينما أنا أمشي مع عمر رضي الله عنه ذات يوم وهو يضرب وحشي قدمه بالدرة، تنفس تنفسة ظننت أنها قد فضت أضلاعه فقلت: "سبحان الله، وما أخرج هذا منك يا أمير المؤمنين إلا أمر عظيم"، قال: "ويحك يا ابن عباس، والله ما أدري كيف أصنع بأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم".

قلت: والله إنك بحمد لله لقادر على أن تصنع ذاك منها في البقية، قال: "إنه والله يا ابن عباس ما يصح هذا الأمر إلا القوي في غير عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، الممسك في غير بخل"، يقول ابن عباس: "والله ما أعرف غير عمر" [5].

وروي أن مالك الدار (مالك بن عياض)، مولى عمر وخازنه قال: غدوت على عمر رضي الله عنه يومًا، فقال لي: "يا مالك، كيف أصبح الناس؟" قلت: "أصبح الناس بخير"، قال: "هل سمعت من شيء؟" فقلت: "ما سمعت إلا خيرًا"، قال: ثم غدوت عليه اليوم الثاني فسألني، فأخبرته، واليوم الثالث سألني وأبرمني، فقلت: "وما تخشى من الناس؟" فقال: "ثكلتك أم مالك، هل خشيت أن يكون عمر يضرب عن بعض حقوق المسلمين فيغدون عليه براياتهم يسألون حقوقهم" [6].

وروي أن عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة خطب فقال: "يا أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استطلاعًا بما ينوب من مهم أموركم ما توليت ذلك منكم، ويكفي عمر مُهِمّا محزنًا انتظار موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها، ووضعها أين أضعها، وبالسير فيكم كيف أسير، فربي المستعان، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة، ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده".[7]


تعرّفه رضي الله عنه على أحوال رعيته:
وقد قام عمر رضي الله عنه بواجباته نحو رعيته خير قيام وأتمه، فقد كان عمر رضي الله عنه دائم التعرف على أحوال رعيته بنفسه يجلس للرعية، ويلتقي بهم ويعرضون عليه حاجاتهم، كبيرهم وصغيرهم، شريفهم ووضيعهم، ولم يكن رضي الله عنه يحتجب عنهم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان عمر بن الخطاب كلما صلى صلاة جلس للناس، فمن كانت له حاجة نظر فيها، وكان رضي الله عنه يجلس بعد صلاة الفجر للنظر في أمور رعيته حتى ترتفع الشمس، ثم يقوم فيدخل بيته.[8]

وكان بعض الرعية لا يستطيع أن يعرض حاجته على عمر رضي الله عنه هيبة منه، فاجتمع عدد من الصحابة رضوان الله عليهم لإعلامه بذلك، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وكان أجرأهم عليه عبد الرحمن بن عوف.

فقالوا له: "لو كلمت أمير المؤمنين للناس، فإنه يأتي الرجل طالب الحاجة، فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يقض حاجته"، فدخل على عمر رضي الله عنه، فكلمه، فقال: "يا أمير المؤمنين، لن للناس، فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك". فقال عمر رضي الله عنه: "يا عبد الرحمن أنشدك الله أعلي وعثمان وطلحة والزبير وسعد أمروك بهذا؟" فقال: "اللهم نعم". قال: "يا عبد الرحمن، والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة، فأين المخرج؟" فقام عبد الرحمن يبكي يجر رداءه، يقول بيده: أف لهم بعدك، أف لهم بعدك.[9]

وأما من كان من الرعية بعيدًا عن المدينة كأهل العراق والشام وغيرهما من أقطار المسلمين، فإن عمر كان يسأل عن أحوالهم ويستخبر عنها ويتعرف عليها ومن ثم يقضي حاجتهم. كتب عمر رضي الله عنه إلى عامله بالعراق: "أن ابعث إلي برجلين جليدين نبيلين أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم".

بل لقد عزم رضي الله عنه على أن لا يدع بلدًا من بلاد المسلمين إلا ويأتيه ويطلع على أحوال أهله بنفسه، ويقضي حاجاتهم، قال عمر رضي الله عنه وقد عزم على قضاء حوائج رعيته قويهم وضعيفهم شريفهم ووضيعهم: "لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي"[10].

ومن الأقوال المروية عن عمر رضي الله عنه في اهتمامه برعيته قوله: "إني والله لأكون كالسراج يحرق نفسه ويضيء للناس".

وروي أن عمر رضي الله عنه قال في أول خطبة خطبها: "إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلوا عن الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلن بهم" [11].

 

عبدالسلام بن محسن  آل عيسى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (أحمد بن حنبل: الزهد، ص [152]. ابن عبد الحكم: فتوح مصر ص [81]، ومداره على موسى بن عُلي اللخمي. قال الذهبي: ثبت صالح، الكاشف [2/ 306]. وقال ابن حجر: صدوق ربما أخطأ، وبقية رجاله عند أحمد ثقات، فالأثر حسن).
[2] (ابن سعد: الطبقات [3/ 305]. ابن أبي شيبة: المصنف [7/ 99]. الطبري: التاريخ [2/ 566]. ابن عساكر: تاريخ دمشق، ص [304]. والأثر حسن لغيره بمجموع طرقه).
[3] (الأبطح: جزع من وادي مكة بين المنحى إلى الحجون، ثم تليه البطحاء إلى المسجد الحرام، وكلاهما من المعلاة، ثم المسفلة. والحديث رواه مالك: الموطأ  [2/21] .ابن سعد: الطبقات [3/ 324]–[330]. ابن أبي شيبة: المنصف [7/ 96]. الحاكم: المستدرك [3/91]–[92]. والأثر حسن لغيره بطرقه).
[4] (رواه ابن سعد: الطبقات [3/ 286]. البلاذري: أنساب الأشراف، ص [217]. والأثر ضعيف).
[5] (رواه ابن شبه: تاريخ المدينة [3/ 96]، ورجاله ثقات سوى محمد بن إسحاق فهو صدوق مدلس من الثالثة، ولم يصرح بالسماع فالأثر ضعيف).
[6] (رواه ابن شبة: تاريخ المدينة [2/ 348]، الأثر ضعيف).
[7] (رواه الطبري: التاريخ [2/ 572]–[573]، الأثر ضعيف).
[8] (ابن سعد: الطبقات [3/ 288]. الطبري: التاريخ [2/ 565 ]-[566]. ابن شبة: تاريخ المدينة [2/270]، والأثران كلاهما حسن).
[9] (رواه ابن سعد: الطبقات [3/ 287]. ابن شبة: تاريخ المدينة [2/ 246]. البلاذري: أنساب الأشراف، ص [200]. الطبري: التاريخ، [2/ 568]، والأثر حسن).
[10] (البخاري: الأدب المفرد، ص [353]، البخاري: الصحيح [2/ 297 ]–[298]. ابن أبي شيبة: المصنف، [7/ 483]، ابن شبة: تاريخ المدينة  [3/ 38]. الطبري: التاريخ [2/ 565]).
[11] (رواه عبد الرزاق: المصنف [11/326]. ابن سعد: الطبقات [3/274] . ابن شبة: تاريخ المدينة [2/240]-[241]).