الرسول ينتصر لامرأة
لقد كان هذا الرد الاستفزازي من اليهود مؤشراً خطيراً، ينذر ببداية المواجهة، ويشير إلى تهتك الصلح والموادعة والمعاهدة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وتلاشيها أمام أحقاد اليهود الدنيئة، وحسدهم البغيض.
- التصنيفات: السيرة النبوية - قضايا المرأة المسلمة -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من بدر، جمع اليهود، ودعاهم إلى دين الله عز وجل مرة أخرى لعل الله يهديهم إلى صراطه المستقيم، روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: "لما أصاب رسول الله قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال: « »، قالوا: "يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قاتلت نفراً من قريش كانوا أغمار[1]، لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا"، فأنزل الله عز وجل في ذلك {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:12-13] (الحديث ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود).
لقد كان هذا الرد الاستفزازي من اليهود مؤشراً خطيراً، ينذر ببداية المواجهة، ويشير إلى تهتك الصلح والموادعة والمعاهدة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وتلاشيها أمام أحقاد اليهود الدنيئة، وحسدهم البغيض.
وكانت بنو قينقاع ذات الصدارة في اليهود، فقد كانوا أشجع اليهود، وأقواهم عدداً وعدة، وكان عدد مقاتليهم سبعمائة رجل، أربعمائة حاسر، وثلاثمائة ذارع، وكانوا في حصون مجاورة للمدينة، وبنو قينقاع لا يشتغلون بالزراعة، وإنما هم أهل حرفة، فكانوا يعملون في صياغة الحلي والمجوهرات، ولهم سوق في المدينة يحمل أسمهم وهو (سوق بني قينقاع) وكذلك كان منهم حدادون وصُنَّاع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحروب، ولما فتح الله على المسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم، وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرِّهم وغطرستهم، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدُّوا على أنفسهم أبواب الحياة (الرحيق المختوم ص [265]).
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها -وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع (ابن هشام [2/47-48]).
وحينئذٍ عيل صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب، وسار بجنود الله رضي الله عنهم إلى بني قينقاع.
ولما رأوه تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشد الحصار، وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة 2هـ ودام الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا.
وحينئذٍ قام عبد الله بن أبي ابن سلول -زعيم المنافقين- بدوره النفاقي، فألحَّ على رسول الله أن يُصدر عنهم عفواً، فقال: "يا محمد، أحسن في مواليَّ"، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرر ابن أبي مقالته، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول الله: « »، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللاً ثم قال: « »، ولكن المنافق مضى على إصراره، وقال: "لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ أربعمائة حاسر وثلاثمائة ذارع قد منعوني من الأحمر والأسود، وتحصدهم في غدّاة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر".
وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنافق الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب، عامله بالمراعاة، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم (الرحيق المختوم [266-267]).
إن غزوة بني قينقاع تأديب قوي لمعشر اليهود خونة العهود وقتلة الأنبياء.
نسأل الله أن يعز دينه ويهزم أعداءهم من اليهود والنصارى ومن شايعهم إنه سميع قريب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-----------
[1] (أغماراً: قال ابن الأثير: "جمع غُمر -بالضم- وهو الجاهل الذي لم يجرب الأمور"،انظر النهاية [3/385]).