الخصائص لابن جني

أحمد البراء الأميري

لقد فتح ابن جني في العربية أبوابًا لم يتسنَّ فتحُها لسواه، ووضع أصولاً في الاشتقاق، ومُناسبة الألفاظ للمعاني، وإهمال ما أُهمِل من الألفاظ، وغير ذلك.

  • التصنيفات: تراجم العلماء -

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، أيها الإخوة القرآء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

موضوع اليوم كتاب (الخصائص) لابن جني، بل مقدِّمته القيمة الضافية التي تُقارِب صفحاتها السبعين، بقلم محقِّقه العالم الثقة الشيخ محمد علي النجار، الأستاذ بكلية اللغة العربية بالأزهر.

 

قال المحقِّق:

هو عثمان بن جني، لا يُعرف من نسبه إلا هذا القدر؛ وذلك أنه غير عربي، وكان أبوه جني روميًّا يونانيًّا، وكان مملوكًا لسليمان بن فِهر بن أحمد الأزدي.

وكأنما كان ابن جني يُحِسُّ ضَعَة عند الناس أنْ لم يكن مِن أصل عربي، فعُني أن يُفصِح عن نفسه، ويَذكر أن عنده ما يُعوِّضه هذا النقص؛ وذلك إذ يقول من قصيدة طويلة:

فإن أُصبِح بلا نسَبٍ *** فعِلمِي في الورَى نَسَبِي

على أنِّي أؤولُ إلى *** قرومٍ سادةٍ نُجُبِ

قياصِرة إذا نطَقُوا *** أرمَّ الدهرُ ذو الخطبِ

أُولاَكَ دعا النبيُّ لهم *** كفَى شرفًا دعاءُ نَبِي

 

وهذا إشارة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على كِسرى عندما مزَّق كتاب رسول الله، فقال: مزَّق الله مُلكه، ولقيصر: ثبَّت الله مُلكَه.

 

وكلمة (جني) معرَّبة عن الروميَّة، ومعناها: الفاضل، النبيل، العبقري، الجيِّد التفكير.

وُلد ابن جني في الموصل سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وتوفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة عن عمر يُناهِز السبعين، ويَذكر الرواة أنه صَحب أبا عليٍّ الفارسي أستاذه أربعين سنة، وكانت سنُّ ابن جني عندئذٍ خمس عشرة سنة، وهذه الأرقام محلُّ اجتهاد العلماء، وليسَت الإطالة في الحديث عنها ومناقشتها مُفيدةً في هذه العُجالة.

 

وكان ابن جني رحمه الله أعوَر، ويقول المُترجِمون له: إنه كان ممتَّعًا بإحدى عينَيه، في الكناية عن عوَرِه، ومما يُنبئ عن ذلك ما نُسب إليه من أبيات قالها في التشوُّق لصديق له:

صدودُك عني ولا ذنب لي *** دليلٌ على نيَّةٍ فاسدهْ

فقد -وحَياتِكَ- مما بكيت *** خشيتُ على عينِيَ الواحِدهْ

ولولا مخافةُ ألا أراك *** لما كان في تَركِها فائدهْ

 

وكان ابن جني رحمه الله رجل جدٍّ، وامرأ صدَق في قوله وفعله؛ فلم يؤثَر عنه ما أُثر عن أمثاله من رجال الأدب في عصره من اللهو، والشرب، والمُجون، وما جرى في هذا المذهب، وكان عفَّ اللسان والقلم، يتجنَّب الألفاظ المُندية للجبين، وقد يكون مردُّ هذا إلى أنه اشتغل بالتعليم والتدريس، ولم يكن ممَّن همُّه مُنادمة الملوك وإرضاؤهم كأبي الفرج الأصبهاني وأضرابه، ولقد بلغ من أمره أن يُغيِّر في الشِّعر ما يُستهجَن ويَقبُح ذكرُه، مع أن هذا الأمر يعد منافيًا لتمام الأمانة العلمية عند بعض النقاد.

 

أيها الكرام:

وقد اجتمع ابن جني بالشاعر الأكبر الأشهر، أبي الطيب المتنبي، بحلب عند سيف الدولة، وفي شيراز عند عضد الدولة، وكان به معجبًا، وكان المتنبي يُجلُّه، ويقول فيه: هذا رجل لا يعرف قدرَه كثيرٌ من الناس، وكان المتنبي إذا سُئل عن شيء من دقائق النحو والصرف في شِعره، يقول: سَلوا صاحِبَنا أبا الفتح، ويقول: عليكم بابن جني فسلوه؛ فإنه يقول ما أردتُ وما لم أُرِد، وترجع مقالة المتنبي هذه -إذا صحَّت نسبتُها إليه- إلى سَعة علم ابن جني، وتشعُّب مذاهبه، فقد يقع له في الكلام من المعاني ما لم يقع لقائله.

 

وابن جني أول مِن شرح ديوان المتنبي، وقد شرَحه شرحين: الشرح الكبير والشرح الصغير، والأخير هو الباقي لنا، وقد تعقَّب بعض مُعاصريه ومَن بعدهم شرْحَه، وانتقدوا عليه فيه أشياء.

 

وكان أبو علي الفارسي، إمام اللغة العظيم، وشيخ ابن جني، إذا مرَّ به أبو الطيب يَستثقِله على قبح زيِّه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء، وكان ابن جني يَسوءُه إطناب أبي علي في ذمِّه، واتَّفق أنْ قال أبو عليٍّ يومًا: اذكروا لنا بيتًا من الشِّعر نبحث فيه، فأنشد ابن جني:

حُلتِ دونَ المَزارِ فاليومَ لو زُرْ *** تِ لحالَ النُّحولُ دونَ العِناقِ

 

فاستحسنه أبو علي واستعاده، وقال: لمَن هذا البيت؛ فإنه غريب المعنى، فقال ابن جني: للذي يقول:

أزورُهم وسوادُ الليلِ يَشفعُ لي *** وأَنثنِي وبياضُ الصُّبحِ يُغرِي بِي

 

فقال: هذا -واللهِ- أحسنُ! بديع جدًّا! فلمَن هما؟ قال: للذي يقول:

أمضَى إرادتَه فسَوفَ له قدٌ *** واستقرَبَ الأقصى فثمَّ له هُنا

 

فكثُرَ إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال: لمن هذا؟ فقال ابن جني: للذي يقول:

ووضعُ النَّدَى في مَوضِعِ السيفِ بالعُلا *** مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ النَّدَى

 

فقال: وهذا أحسَن! والله لقد أطلتَ يا أبا الفتح، فأخبرنا مَن القائل؟ فقال: هو الذي لا يزال الشيخ يَستثقِله، ويستقبح زيَّه وفِعلَه، وما علينا مِن القشور إذا استقام اللبُّ! قال أبو علي: أظنك تَعني المتنبي؟ قلت: نعم.

 

أيها الكرام:

بلغ أبو الفتح بن جني في علوم العربية من الجلالة والخطر ما لم يبلغه إلا القليلُ؛ يقول صاحب (مسالك الأبصار) عنه: "لم يُرَ مثله في توجيه المعاني، وشدِّ بيوت القصائد الوثيقة المباني"، ويقول ابن ماكولا: "وكان نحويًّا حاذقًا مجودًا". ويقول الثعالبي في (يتيمَة الدهر): "هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهَت الرياسَة في الأدب".

 

وعلى مباحِث ابن جني طابَعُ الاستِقصاء والغوص في التفاصيل، والتعمُّق في التحليل، واستِنباط المبادئ والأصول مِن الجزئيات، وهو في هذا يُشبِه ابن الرومي في الشِّعر، وكأنما للجنسِ الرومي الذي يَنتميان إليه أثرٌ في هذا، ومِن مَباحثه التي اهتدى لها، وسَبَق بها، الاشتقاقُ الأكبر، وإن كان قد استمدَّ فكرتَه مِن أستاذه أبي علي، وهو مع حرصه على اتِّباع مَن سبَقه من الأئمة العلماء، وتبجيله لهم - لا يُبالي أن يُخالفهم إذا تهدَّى لرأي لم يقولوا به، واستوى له دليله، واستقرَّت عنده حُجَّتُه.

 

اشتهرَ ابنُ جني ببلاغة العبارة، وحُسْن تصريف الكلام، والإبانة عن المعاني بأحسن وجوه الأداء، وهو يَسمو في عبارته، ويَبلُغ بها ذِروة الفَصاحة في المسائل العلميَّة الجافَّة، البَعيدة عن الخيال ووجوه التطريَة، وله في عباراته وجوه في استعمال بعض المُفردات يُدوِّنها اللغويون، ويُنوِّهون بها، كما يُدوِّنون ما يَصدُر عن العرب ثقةً بطبيعته العربية، وسجيته اللغوية، على أنه قد تندُّ منه بعض الهنات الكلامية التي لا تَثلم البلاغة، ولا تغضُّ مِن شأوِه، وفَراهة أسلوبه.

 

أيها الكرام:

ويَمضي الشيخ العلامة محمد علي النجار في مقدمته لكتاب (الخصائص) قائلاً: لقد فتح ابن جني في العربية أبوابًا لم يتسنَّ فتحُها لسواه، ووضع أصولاً في الاشتقاق، ومُناسبة الألفاظ للمعاني، وإهمال ما أُهمِل من الألفاظ، وغير ذلك.

وكان بذلك إمامًا يَحتاج إلى أتباع يَمضون في سبيله، ويَبنون على بحوثه، وإذًا لنضجت أصولُه، وبلغَت إناها، ولكنَّه لم يُرزق هؤلاء الأتباع.

 

على أنه أُتيح له لُغويٌّ كبير، أغار على فوائده وبحوثه اللغوية، ذلك هو ابن سِيدَه، علي بن أحمد، المتوفَّى سنة ثمانٍ وخمسين وأربعمائة، وهو كثيرًا ما يُغفِل العزو إليه في كتابه (المحكم)، ويأتي صاحب (اللسان) فينقل ما في ابن سيده، ويَنسبه إليه، وهو لابن جني، وهذا بحث يَحتاج إلى استقصاء.

 

وتمضي مقدِّمة الخصائص لتتحدَّث عن علمِ ابن جني باللغة، ثم لتدفع عنه تُهمة الشعوبيَّة، ثم شُبهة التشيع، ولتتحدَّث بعد ذلك عن مذهبِه الفقهي، وميله إلى مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله وعن مذهبه الكلامي وميله إلى الاعتزال، وعن مذهبه في النحو، ثم عن شِعره، وعن موضوعات أخرى ذات بالٍ، أقف منها عند شِعره، وأختار منها للمُستمع الكريم قوله في الغزل:

تجبَّب أو تدرَّع أو تقبَّا *** فلا واللهِ لا أزدادُ حبَّا

 

وتجبَّب: الْبَسِ الجبة، وتدرَّع: البس المدرعة -وهي ثوب من صوف- وتقَبّا: البس القباء، وهو ثوب يُلبَس فوق الثياب أو القميص، ويُتمَنطَق عليه، يقول:

تجبَّب أو تدرَّع أو تقبَّا *** فلا والله لا أزدادُ حُبَّا

أخذتَ ببعضِ حبِّكَ كلَّ قلبي *** فإن رمتَ المزيدَ فهاتِ قَلبَا

 

أيها الكرام، هذا بعض ما جاء في مقدمة كتاب (الخصائص)؛ لإمام العربية الكبير: أبي الفتح عثمان بن جني، وهي التي قدَّم الكتاب بها مُحقِّقه الأستاذ محمد علي النجار رحمه الله وإلى الملتقى مع مقدمة أخرى لكتاب آخر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.