التطبيع

إن أسلوب التطبيع قديم، قدم الشيطان اللعين، الذي جربه مع أبينا آدم، إذ زين له المعصية، واعدا إياه بالخلد والملك الذي لا يبلى، {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه:120]، وما زال يقسم على ذلك، حتى، صدّق آدم - عليه السلام -، بأن شجرة الزقوم، التي تنبت في أصل الجحيم، وطلعها كأنه رؤوس الشياطين، هي بالفعل شجرة الخلد، وأن الملك الذي لا يدوم لغير الله، يمكن أن يدوم له، إن هو أكل من الشجرة، فكانت نتيجة هذا التصدق، الطرد من الجنة.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

إن مفهوم التطبيع، مشتق من مصطلح الطبيعة، الذي يتخذ عدة دلالات، وله خصائص مادية معينة، والطبيعة عند ابن منظور، هي الخليقة والسجية، التي فطر الله عليها الإنسان، ويقصد بها مجموع الخصائص، التي لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الظروف والعوارض، وبتعبير آخر، هي باطن الشيء أو جوهره وماهيته، وهو ما يسميه إيمانويل كانط بالنومين، أو الشيء في ذاته، أي الشيء الثابت، الذي تلتف حوله الظواهر والأعراض الخاضعة للتغير وعدم الثبات، وكلود لفي ستراوس عرف الطبيعة بكونها "كل ما يوجد فينا بحكم الإرث البيولوجي"، والشيء الطبيعي هو الشيء النقي الباقي على أصله، لا تخالطه الشوائب والزيادات الغير مرغوب فيها، كالمواد الكيماوية مثلا، والأمر الطبيعي، هو الذي نقبله بدون خجل ولا نفر منه، ولا نستهجنه، كالصدق والسلام والعدل والحرية والإيمان والتدين؛ لأنه يحمل في ذاته القيم العليا، والمثل الرفيعة، التي لا يختلف اثنان حول أصولها العامة، وحسنها وخيريتها.
ومن ثم كانت الطبيعة الإنسانية، أو الفطرة الإنسانية واحدة، والقرآن الكريم، أشار إلى هذه الوحدة، في قوله - تعالى -: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم آية:30]، كما أكدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل تحسون فيها جدعاء)) [متفق عليه]، إن هذه الوحدة الطبيعية للإنسان، تتوقف على البعد المادي، البيولوجي، الوراثي، الغريزي، البعيد عن أي تدخل أو تأثير خارجي، وعلى الخضوع للسنن والقوانين، التي وضعها الله - سبحانه وتعالى - للطبيعة، التي ينتمي إليها، أما ما يتميز به الإنسان عن غيره، فهو نتيجة البعد الثقافي؛ لأن الإنسان كائن عاقل، يفكر ويعيش داخل مجتمع يكسبه عادات، وتقاليد، وتقنيات، وصناعات، ويلقنه أسس الأدبيات التربوية والتعليمية، والأخلاقية، والاجتماعية، والقانونية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية، ويعلمه نظم وطرق المعيشة والمعاملات والتواصل، ويساهم في تحويله، من كائن طبيعي، إلى كائن ثقافي ينتج الثقافة، ويعمل على نشرها بين بني جنسه، متبادلا معهم التجارب والخبرات والتأثير والتأثر، فيخضع حينا لثقافة مجتمعه، ويثور عليها أحيان أخرى، وقد يعمل على تغيرها وتبديلها، أو يكتفي بتطويرها وتعديلها.

يعتقد الكثيرون أن مصطلح التطبيع، مصطلح معاصر، ظهر مع الصراع العربي الصهيوني، و استخدمه الرئيس المصري أنور السادات، بعد هزيمة1967م كشعار للسلام، ودعوة لتناسي العدوان الإسرائيلي، والسكوت على الجرائم اليومية، التي يرتكبها في حق أبناء فلسطين، واعتباره صديقا، يمكن التعامل معه سياسيا واقتصاديا، وبذلك يتحطم الحاجز النفسي، الذي يفصل بين العرب وإسرائيل، ولكن مفهوم التطبيع، ارتبط في ذهن الشعوب العربية والإنسان العربي، بالكراهية والرفض؛ لأنه يقتضي إنهاء المقاطعة، ويهدف إلى تحويل علاقات الصراع مع إسرائيل، إلى علاقات طبيعية، بدون مقاطعة ولا مقاومة، يحصد من ورائها العرب الاستسلام العسكري، والهوان السياسي، والاستلاب الثقافي، والارتهان الاقتصادي، والفساد الإداري، والسقوط الأخلاقي... وتحقق إسرائيل قيام دولتها، وأمان حدودها، وتفوق عسكرها، وضمان نشاط مؤسساتها الاقتصادية، والسياسية، والمخابراتية، وقضاء حاجات و مآرب أفرادها الخسيسة والوضيعة، دون أن تمكن العرب من الأرض مقابل السلام العادل والدائم، الشعار الذي تدغدغ به إسرائيل مشاعرهم.

إن أسلوب التطبيع قديم، قدم الشيطان اللعين، الذي جربه مع أبينا آدم، إذ زين له المعصية، واعدا إياه بالخلد والملك الذي لا يبلى، {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه:120]، وما زال يقسم على ذلك، حتى، صدّق آدم - عليه السلام -، بأن شجرة الزقوم، التي تنبت في أصل الجحيم، وطلعها كأنه رؤوس الشياطين، هي بالفعل شجرة الخلد، وأن الملك الذي لا يدوم لغير الله، يمكن أن يدوم له، إن هو أكل من الشجرة، فكانت نتيجة هذا التصدق، الطرد من الجنة، كما هو واضح من قوله - تعالى -: (ويا آدم اسكن أنت وزوج الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ماووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما من الناصحين فدلهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلك الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) [الأعراف: 19- 22]، فالغواية وتزيين الأعمال المنكرة، وتجميل صورة الهوى والظلم والفساد وتحسين الباطل وتقبيح الحق، أسلوب تطبيعي تلبيسي، أشهره إبليس كسلاح لغواية بني آدم، كما هو واضح في العديد من الآيات الكريمة كقوله - تعالى -: (قال ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) [الحجر: 39]، وقوله - تعالى -: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو اليوم وليهم ولهم عذاب أليم ( [النحل:63]، والنفس الأمارة بالسوء رفيقة الشيطان، وشريكته وحليفته ومعاونته على إضلال ودمار الإنسان وهلاكه في الدنيا ولآخرة، هي الأخرى، مارست التطبيع وتمارسه، لتسهل وتشجع على ارتكاب المعصية، وقد حذرنا - سبحانه وتعالى - منها، في أكثر من آية كقوله - تعالى -: (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين) [المائدة آية:30]، (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) [يوسف:53]، (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( [النجم: 23]، (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) [سورة ق آية:16].

إن اليهود ومن على شاكلتهم استوعبوا خطب الشيطان، التي تدعو إلى التطبيع مع المعصية والفساد، وأخذوا بنصائحه، فمارسوا التطبيع على مر التاريخ، إذ نجدهم يحرفون الكلم عن واضعه: (يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فحذروا) [المائدة:41]، (أفتطمعون أن يومنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) [البقرة: 75]، (وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [الأعراف آية: 78]، لقد حرفوا كلام الله وكذبوا عليه، وسموا الأشياء بغير أسمائها، فهذا الخمر أطلقوا عليه المشروب الروحي، وباسم الفن والموضة والشيك والأناقة والجمال والحرية الشخصية، عرضوا النساء للعري، وتحت غطاء الدراسة والصداقة والزمالة والتحرر من ما سموه بالعقد النفسية، شجعوا الاختلاط بين الجنسين، متهمين كل من يرفضه بالتمييز العنصري، قال أحد القائمين على الشأن التربوي: "كل من يفصل بين الجنسين داخل الفصل الدراسي أتهمه بالتميز العنصري، ويجب أن يشطب عليه من سلك التعليم"، لقد كان أول تطبيع مع الاختلاط في بلادي، يحمله غلاف كتاب القراءة لأحمد بوكماخ، الذي رسم عليه طفل، يأخذ بيد زميلته في الدراسة،  ربما صدر ذلك عن حسن نية من السيد بوكماخ، ولكنا كأطفال آن ذاك، استنكرنا المشهد، وتبادلنا ألوانا من التعليقات الساخرة، ناهيك عن الغمز واللمز، واعتبرنا المشهد خروجا عن المألوف والعادة، وطبعا مع مرور الزمن ألفنا المنظر وتطبعنا عليه، بل تشجع بعضنا للتقرب والتحدث مع الجنس الآخر، إن هناك أمورا مرفوضة دينيا وأخلاقيا واجتماعيا، بل هي مرفوضة، حتى من الحيوان، كالزواج المثلي، واللواط، والزنا وتبادل الزوجات، ومع ذلك أريد لها أن تصبح طبيعية باسم الحرية الشخصية، والخلو من العقد والتسامح، والتخلص من الكبت، وفي مقابل ذلك هناك أمور مشروعة دينيا واجتماعيا وطبيعية أصلا، كالحجاب واللحية والمقاومة والدفاع عن العرض والوطن، أريد لها أن تكون شاذة، مرفوضة، محاربة وغير مقبولة، باسم العنصرية والتطرف والأصولية والإرهاب والرجعية... الواقع ما كان للتطبيع، أن يصل إلى ما وصل إليه، لولا التزيين الشيطاني، الذي يمارسه الإعلام المأجور"الفضائيات الخليعة الإباحية، والجرائد الساقطة والأفلام الماجنة"، عن طريق تشجيع الناس على تدمير الأخلاق، والتنكر للدين، وتطبيعهم على الزنا عن طريق الاختلاط والنظرة الحرام، والدعاية للعازل الطبي وكنينة الهلال، ليقعوا في الإيدز، وعلى الربا والقمار ليصابوا بالجوائح الاقتصادية، وعلى تغيير خلق الله لتلحق بهم الكوارث الطبيعية، وصدق الله العظيم إذ قال: {قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}، وقوله: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} [فاطر آية:8].