محاور الخطاب الاستشراقي

هذا هو خطاب المستشرقين المتأثّر بفكرة "الشعب المختار" التي يؤمن بها الغرب بحكم خلفيّته اليهودية - المسيحية التي سوّغت له إنكار صواب أيّ فكرة خارج إطار المرجعية الغربية، لكنّ اللوم لا ينصبّ على الخصم بالأصالة بقدر ما ينال العدوّ بالعمالة، الذي يرفض الوحي وقوانينه ومناهجه ولغته وتاريخه وحتى مستقبله، ليس عن قناعة ذاتية وإنّما بسبب التقليد الأعمى والخواء الروحي وسطوة الشبهات والشهوات.

  • التصنيفات: التصنيف العام -

تعود العلاقات بين الإسلام كدين وأمّة وحضارة وبين الغرب إلى الفترة التي تلت بعثة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- وقد غلب عليها جانب العداء بسبب توجّس الروم والبيزنطيين المبكّر من الدعوة الإسلامية وشَهرهم السلاح في وجهها، وزاد التوتّر بين الطرفين عندما اكتسح الإسلام حواضر العالم المعروف آنذاك واحتضنه أهلها لمَا لمسوا في قيمه وأخلاقه وشرائعه من صدق وبساطة، وبلغ التشنّج أوجه إبّان الحروب الصليبية التي شنّها الغربيّون على الشرق الإسلامي، وتتالت بضراوة كبيرة على مدى عقود من الزمن، فأسفرت العداوة عن وجهها وفتحت الطريق بعد ذلك لتاريخ طويل من الأحقاد والأطماع استهدفت المسلمين بأشكال مختلفة وانتهت باحتلال القوى الغربية لجميع أقطارهم إلاّ شيئا من الجزيرة العربية.

وفي خضمّ الحرب القائمة بين المسلمين وأروبا النصرانية باردة أحيانا وحامية الوطيس أحيانا أخرى أكبّ علماء ومفكّرون وأدباء مسيحيّون على الدراسات الإسلامية والعربية إكبابا أكاديميّا عميقا وطويل النفّس امتدّ في الزمان والمكان ومجالات البحث، وهو ما عُرف بالاستشراف.

ويتمثّل الاستشراق في دراسة علماء الغرب ومفكّريه لشعوب الشرق وعقائدهم ولغاتهم ولهجاتهم وتاريخهم وثقافاتهم وتقاليدهم، وكانت دراسات المستشرقين تتظاهر بالصبغة العلمية وبالموضوعية، تتحرّى الحقائق والمعرفة الجرّدة، كما هو مفترض في الميدان الأكاديمي، هذا من جهة، وكان من المفروض من جهة أخرى - أن تتناول الشعوب الشرقية كلّها، إلاّ أنّ الجانب البارز والغالب من الاستشراق هو الجانب السلبي لأنّه مع وجود استثناءات قليلة انصبّ على أمّة الإسلام بصفة أساسية، وأوغل في الذاتية عندما حكّم ذهنية الغرب ومقاييسه وأطروحاته الدينية والفكرية في التحليل والتفسير، منطلقا من الغرور الذي سوّل للأوربيين أن يعتبروا "الرجل الأبيض" معيار التحضّر ومقياس الحقيقة، دون سواه من البشر، وبدل أن يدرس المستشرقون ما هو كائن اشتغلوا بما ينبغي أن يكون عليه الإسلام من وجهة نظرهم هم، فأصبحوا في الغالب الأعمّ أبواقا للدعاية ضدّ الإسلام رغم تغليف هذه الدعاية بمظاهر البحث العلمي، ولم يعد يُنكر باحث مطّلع ومنصف ارتباط الاستشراق بالاستعمار الذي غزا بلاد العرب والمسلمين، فقد تلازم وجود ثلاثة أطراف من الغربيّين في احتلال أرضنا:العسكري الحامل للسلاح الناري، والمستشرق الذي يدلّه - بحكم خبرته بالتكوين الفكري والنفسي والاجتماعي للمسلمين - على مواقع التسلّل، والمنصّر الذي يبشّر بيسوع والخلاص الإنساني، لتحلّ النصرانية محلّ الإسلام الذي ليس في أعين الغرب دينا سماويّا بل هو دّجل وبهتان وهرطقة يجب تخليص العلم منه!.

وقد التزم عامّة المستشرقين بالمنحى اللاهوتي في دراستهم للإسلام، وبه فسّروا ما درسوه منه ليخرجوا بنتائج " علمية " صارمة، اتخذتها السياسات الغربية برنامجا سعت وتسعى لتطبيقه في علاقاتها بالمسلمين على أكثر من صعيد، وتولّت الجامعات تدريس الإسلام وفق الرؤية الاستشرافية غير البريئة والبارعة في القراءة الانتقائية المغرضة التي تعتبر خصوصيات الإسلام خروجا عن النسَق الصحيح، وتعدّ محاسن المسلمين معايب ومثالب، فإذا ذكرت إيجابيّات معيّنةً فَلأنّها متوافقة مع التراث اليهودي المسيحي، أو لأنّه يسوّق مع الذكر الجميل سمّا قاتلا في طياته، فعلى سبيل المثال لا يرى معظم المستشرقين " الإسلام الجميل والإنساني " إلاّ في التصوّف الفلسفي ووجوهه البارزة: ابن عربي والحلاج بالدرجة الأولى، فالدين الحقيقي الذي ينبغي إحياؤه هو وحدة الوجود، والحلول والإتحاد...أمّا الأدب المعبّر عن " روح " الإسلام فهو حكايات ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني وشعر أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة وعمر الخيام.

لكنّ هذا كلّه يهون مقارنة بنظرة المستشرقين لأصول الإسلام وتاريخه العلمي والحضاري، لأنّنا هنا أمام مقاربة غاية في الخطورة والمكر تهدف إلى نزع الصفة الدينية ذاتها عن الإسلام وتجريده من أي تأثير إيجابي في حياة البشرية.

وعلى أساس هذه الرؤية الاستشرافية التحريفية يخوض بعض المفكّرين والكتّاب والصحافيين في البلاد الإسلامية حربا فكرية وإعلامية حقيقية على الإسلام يستوقفنا فيها ذلك الجانب الأكثر خطورة المتمثّل في البحوث الأكاديمية المتّسمة - حسبهم- بالعلمية والموضوعية، وهي في الواقع إمّا تكرار لمقولات المستشرقين القدامى أو "اجتهاد " مستوحى من مناهجهم، يهدف إلى كسر " الطابوهات " أي المحرّمات كما يزعمون - والتحرّر من التفاسير الدينية والاجتماعية والتاريخية القديمة للإسلام، وتناول النصوص والأحداث بروح "مجرّدة " وتأويل حديث أي- بوضوح- إخضاعها لأنماط تفكير دخيلة لا تكتفي بتجاهل قدسية الدين بل تعاديه صراحة أو ضمنًا باعتباره شأنا إنسانيا بحتًا، ونجد للأسف رجالا " مسلمين " أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وهشام جعيّط، ومن قبلهم طه حسين، يلتزمون هذا المنهج إلى منتهاه، وكأنّهم مستشرقون فرنسيون أو إنجليز يريدون إعادة قراءة الإسلام على أساس أنّه تراث بشري عادي يجب إعادة صياغته ليوافق التصوّر الغربي عن الله والإنسان والكون والحياة، فكانت أعمالهم الفكرية انسلاخا من الإصلاح الذي يدّعونه وتحريفا لمفاهيمه وحربا على نسقه المتميّز... ولا غرابة في ذلك، فقد برع المستشرقون في تنشئة تلاميذ مسلمين وصناعتهم على أعينهم صناعة متقنة يميّزها الولاء المطلق للفكر الغربي، يتّبعون أسلوب المراوغة العلمية في خدمته بدل مواجهة المنظومة الإسلامية مباشرة لعلمهم بعدم جدواها ونفور جماهير المسلمين منها واستهجانهم لها.

ويمكن تلخيص خطاب المستشرقين وتلاميذهم في محطّات تبيّن موقفهم من الوحي والنبوّة والإنجازات الحضارية الإسلامية والحداثة:

1- الوحي: يدور الخطاب الاستشراقي بين الإنكار الواضح والحاسم لظاهرة الوحي الذي تنزّل على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبين ردّه إلى مجرّد حالات نفسية كانت تعتريه -عليه الصلاة والسلام- وقد تولّى كبر هذا التفسير في العصر الحديث الفيلسوف الماركسي الفرنسي مكسيم رودنسن، في حين يعتبره اتّجاه ثالث خليطا من الكتب السماوية السابقة، وهل هذا سوى إحياء لمواقف القُرَشيّين واليهود من الوحي عندما كان ينزل؟ فليس للمستشرقين اجتهاد جديد في الأمر، إنّما هو فقط تكرار لاتّهام النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنّه كاذب أو مجنون أو ناقل لصحف " اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا "، ولهذا يحرص مفكّرونا وصحافيّونا المستغربون على وصف الإسلام- في أحسن الحالات بالتراث، وفي بعض الأحيان بالتقاليد البالية وعادات البدو المتخلّفين، رافضين إضفاء الصبغة الربانية عليه.

ومهما وقف المستشرقون منبهرين أمام القرآن الكريم فإنّهم يركبون رؤوسهم ويأنفون عن التسليم بإعجازه الذي يُثبت نسبه السماوي، إلاّ قلّة من منصفيهم الذين شرح الله قلوبهم للحقّ وأزاحوا وشاح التعصّب عن أعينهم.

2- النبوة: تبعًا لموقفهم من الوحي يُنكر معظم المستشرقين نبوّة محمّد -صلى الله عليه وسلم- تمامًا في حين يحصرها بعضهم- بخُبث ومكر- في العبقرية الخارقة، أي يجرّدونه من النبوّة والرسالة ويبرزون الجانب البشري وحده، أمّا آخرون فلخّصوا أمره في الشهوانية والنزعة الدموية وحبّ العنف، نافين عنه حتّى الخصال الإنسانية الكريمة، وقد أصبح هذا هو المنحى العامّ في الغرب في السنوات الأخيرة على المستوى السياسي والإعلامي بتأصيل من دراسات استشراقيه "علمية" فكّكت وزوّرت سيرة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وقرأت أطوارها قراءات تحريفية مغرضة، ومن الغرائب أن هشام جعيّط وهو أكثر تحاملا على السيرة من الباحثين الغربيّين رغم تونسيّته يشكّك في جميع ما هو معروف عن حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل يُكذّب كلّ شيء فيها من اسم محمد إلى نسبه وعام ولادته ووفاته...، فلا تبقى في النهاية نبوّة ولا رسالة بل تصبح شخصيّته وسيرته وسنّته مجرّد أوهام منسوجة.

واستغلّ هذه الأطروحات كل المناوئين للإسلام، فحزب البعث -مثلا- يعتبر الرسول مجرّد عبقري عربي لا علاقة له بالسماء، وخصوم الصحوة الإسلامية يركّزون على عنصر العنف الذي يتمحور عليه الإسلام قديما وحديثا ودائما -بزعمهم- وكلّ هذا حدا بكاتب مُفرنس من بني جلدتنا إلى غمز النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((هؤلاء الأموات الذين يحكموننا))، باعتباره رجلا عاديا طواه الموت، فأنّى له أن يكون قائدا لنا وقدوة؟.

3- الإنجازات الحضارية: لا يظهر تحيّز المستشرقين في قضية كظهوره في موقفهم من إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية، فهم يتعمّدون إنكارها تماما -إلا قلّة منهم- ويحصرونها في مجرّد الترجمة عن الإغريق، ويتّهمون الفكر الإسلامي بالجدب والضحالة ويتجاهلون إبداعه للمنهج التجريبي بالإضافة إلى إنجازات علمية وأدبية وفنّية لا تخلو منها المجالات الإنسانية والكونية، والملاحظ أنّ هذا الحيف الاستشراقي أصبح حجّة عند دعاة التغريب في البلاد العربية والإسلامية الذين يردّدون بكل إمّعية تلك التّهم غير المؤسَّسة ويجاهرون بالربط بين تخلّفنا وبين تمسّكنا بالإسلام واللغة العربية، في حين أنّ الغربيين أنفسهم غدوا أكثر إنصافا، إذ بهرتهم الأدلّة المتراكمة فاعترفوا بأثر جامعات الأندلس بصفة خاصّة - في تكوين الفكر العلمي لديهم وبعث نهضتهم بعد قرونهم الوسطى المظلمة، ولم يعد مجال لاتّهام ثقافتنا بالميل للبداوة والشعر والخيال والتجريد، وبالتالي القصور في الإسهامات الحضارية الكبرى.

4- الحداثة: كانت دعوة المستشرقين إلى "تحديث" الإسلام حثيثة منذ مطلع القرن العشرين على الأقلّ، باعتباره العائق الأكبر أمام نهضة الأمم الشرقية ورقيّها، لأنّه -برأيهم- مظنّة الخرافة والتواكل والعقلية الغيبية والاستقالة من شؤون الحياة، ودعوا في مجملهم إلى علمنة الإسلام ومعالجة مشكلة المسلمين الحضارية بوصفة الثورة الفرنسية نفسها المتمثّلة في الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي أي- بعبارة صريحة- التخلّص من الإسلام ونَسَقه ومرجعيّته وضوابطه وإشعاعه، وتولَّى تلاميذ المستشرقين خدمة هذه الدعوة في بلاد الإسلام، وتحمّس لها طوائف من المثقّفين والفنانين والسياسيين وبعض المنتسبين إلى العلوم الدينية أمثال علي عبد الرازق ومحمّد حسين هيكل في فترة من حياته، ولاكت كلمةَ الحداثة أو العصرنة الألسن بعلم وبغير علم، وتبنىّ التغريبيّون- كما أملى لهم ماسينيون ومارجليوت وجولد زيهر- النموذج الغربي وكفروا بسواه، ووضعوا النموذج الإسلامي في قفص الاتهام متذرّعين بنصوص مبتورة وبأوضاع المسلمين المتردّية، ومازالت الحداثة ذريعة خصوم الإسلامي، أَوَى إليها المتخوّفون من الصحوة المباركة والمنهزمون روحيا فضلا عن الجاهلين بدين الله - تعالى -، ومازالت كثير من الجرائد العربية تسوّد صفحاتها بمناقشات بيزنطية حول الأصالة والمعاصرة، لا يهدف أصحابها العلمانيون من ذلك إلاّ إلى تعميق الهوّة المصطنعة والتشويه المقصود، في حين يثبت الإسلاميون- علماء ودعاة وطلبة ومؤسسات وتنظيمات مختلفة - كلّما أتيحت لهم الفرصة من قبَل الأنظمة العلمانية أنهم أصحاب تواصل مُبدع يتناسق فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما يعرفه المستشرقون وأتباعهم جيّدا، لذلك يعملون من أجل التشويش عليه والحيلولة دون تحويله إلى واقع ملموس يستهوي المسلمين وغيرهم كمنهج للحياة متكامل البُنى و متميّز بالمرونة الفكرية والتطبيقية التّي تمكّنه من استيعاب كلّ جديد نافع والتفاعل الآيجابي مع المرجعيات الفكرية والصيغ الثقافية المختلفة.

هذا هو خطاب المستشرقين المتأثّر بفكرة "الشعب المختار" التي يؤمن بها الغرب بحكم خلفيّته اليهودية - المسيحية التي سوّغت له إنكار صواب أيّ فكرة خارج إطار المرجعية الغربية، لكنّ اللوم لا ينصبّ على الخصم بالأصالة بقدر ما ينال العدوّ بالعمالة، الذي يرفض الوحي وقوانينه ومناهجه ولغته وتاريخه وحتى مستقبله، ليس عن قناعة ذاتية وإنّما بسبب التقليد الأعمى والخواء الروحي وسطوة الشبهات والشهوات.


عبد العزيز كحيل