العولمة رؤية إسلامية
يستأثِر اصطلاح العولمة باهتمام الفئة المُثَقَّفَة والعامة في معظم المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن، وتدور في دائرة هذا المصطلح جملةٌ منَ الآراء والتفسيرات، بين ناقدٍ مُتَشَدِّدٍ يصرُّ على الإنكار والاستنكار، وتابِعٍ متساهِلٍ يُهَرْوِل مندفعًا للحاق بِرَكْبها الذي يسافِر وراء سَرَاب العالَم الجديد الذي تدعو إليه.
- التصنيفات: التصنيف العام -
1 - توطئة: يستأثِر اصطلاح العولمة باهتمام الفئة المُثَقَّفَة والعامة في معظم المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن، وتدور في دائرة هذا المصطلح جملةٌ منَ الآراء والتفسيرات، بين ناقدٍ مُتَشَدِّدٍ يصرُّ على الإنكار والاستنكار، وتابِعٍ متساهِلٍ يُهَرْوِل مندفعًا للحاق بِرَكْبها الذي يسافِر وراء سَرَاب العالَم الجديد الذي تدعو إليه.
وفي زحمة الاتِّفاق والاختلاف تظهر الحاجة إلى إجابة شافية لِعَدَدٍ مِنَ القضايا، التي تَبَايَنَتِ الآراء بِصَدَدِها، وضرورة تلمُّس معالجة إسلاميَّة متأنِّية لمفردات ظاهِرة العولمة، وأسسها الفكرية، مع محاولة الإجابة عن مصير الفكر الإسلامي في خِضَمِّ التَّيَّارات الفكريَّة الغربيَّة الوافدة، التي تسعى إلى إِحْكام السَّيْطَرة على الخطاب المعرفي للإنسان المعاصِر، لتفريغِ الشبكة المفاهيميَّة لديننا الحنيف مِن دلالتها العقديَّة، وتغريبنا عنْ لُغتنا، وتراثِنا، وهُوِيَّتنا العربيَّة الأصيلة.
سنحاول في هذه العُجالة معالَجة هذه المسألة، مِن منظور إسلامي؛ تمهيدًا لِظُهُور معالَجات أكثر عُمقًا خلال المستقبل القريب، تحاول رسم إطار عامٍّ يُوضِّح طبيعة العلاقة القائِمة بين العولمة والهُويَّة الإسلاميَّة.
2- خطاب العولَمة: يؤكد خطاب العولمة Globalization - المعلن عبر وسائل الإعلام والمعالجات النَّظريَّة في الأدبيَّات العلميَّة - على توظيف مبدأ انصهارِ الحُدُود المكانيَّة الكونيَّة، وإزالة جميع العَقَبات التي تقف أمام انتقال البَشَر والمعلومات، والسِّلع وجميع أنواع الخدمات بين بقاع المؤسَّسات المنتَشرة على رقعة كوكبنا الأرضي.
يزعم الكثير بأنَّ العولمة نَسَق اقتصادي اقْتَضَاه التَّقَدُّم الحاصِل في تقنيات الاتِّصال والمعلومات، والتَّغَيُّر الحاصِل في المفاهيم الاقتصاديَّة للمجتمع المعاصِر، بيدَ أنَّ الحقيقة هي أنَّها نظام كوني يتجاوز دائرة الاقتصاد؛ ليشمل تعميم النَّمَط الحضاري الأمريكي بجميعِ مفرداته السياسيَّة، والفكرية، والعَقَديَّة.
إنَّ تفحُّص المرتكزات النَّظريَّة للعولمة، يظهر بوُضُوح أنها إرادة للهيمَنة، وبالتالي قمع وإقصاء للخصوصيَّة، واستهداف السَّيْطرة على الإدراك، واختطافه وتوجيهه لِسَلْب الوعي، والهيمنة على الهُويَّة الثَّقافيَّة الفرديَّة والجماعيَّة للمجتمع، وهكذا فَبَدَلاً مِن تأسيس الحدود الثقافيَّة، والخصوصيَّة الوطنية والقومية، تطرح أيديولوجيا العولَمة حُدُودًا أخرى، غير مرئيَّة، ترسمها الشبكات العالميَّة الأمريكية؛ بِقَصْد الهيمنة على الاقتصاد، والأذواق والفكر والسلوك.
يوظَّف خطاب العولَمة الصورة البصريَّة والسمعيَّة كأداة فاعِلة؛ للسَّيْطرة على الإدراك البشري وتعطيل فاعليَّة العقل، وتكييف المَنْطِق، والتشويش على نظامِ القِيَم، وتوجيه الخَيَال، وتنميط الأذواق، وقولبة السلوك، فينجم عَنْ هذه الأمور حصول تسطيح في الوَعْي، وتمهيد عمليَّة الاختراق الثقافي والعقدي للأفراد والأمم، الذي يُكَرِّس جملةً منَ الأوهام التي تريدها الأيديولوجية الأمريكيَّة، وهي سيادة وهم مبدأ الفردية المستسلمة، والخيار الشخصي الحُر، ووهم الهُويَّة المحايدة.
ومع التطبيع على تقبُّل هيمنة العولَمة الأمريكيَّة، تبدأ حُمَّى الاستتباع الحضاري بِغَزْو أجسادنا، ويَخْبو أي بصيصٍ للشعور بالانتماء إلى الوطن، أو الأمة، أو التُّراث العقدي والفكري للأجداد، فتفرّغ هُويتنا الثقافية الإسلاميَّة مِن كلِّ مفرداتها، وتبقى أَطْلالاً بائِسة، بلا محتوى ولا حدود.
وبذلك تكتمل حلقة المُؤَامَرة الغربية، متوجة السَّعْي الحثيث الذي سَعَى في بداياته للسَّيْطَرة على ثرواتنا، لِمُمارسة أبشع عمليَّات التَّصْفية المفهوميَّة والعَقَديَّة للبُلْدان التي استَقَرَّتْ فيها لبعض مئات منَ السنين، معلنةً ميلاد حقبةٍ جديدة تفرّغ فيها هُويتنا من أيِّ مضمون؛ لكي نتحولَ إلى كائنات لا تمتلك سوى أن تفغر أفواهها مشدوهة بالبَريق المُضَلل لحضارة الصورة الافتراضيَّة المزيفة للواقِع.
وخلاصة الأمر، فإنَّ كلَّ ما ستستطيع فعله العولَمة هو نوع منَ التجنيس الثقافي المزيَّف، تتحول من خلاله ثقافتنا إلى مهرجان وطنيٍّ، وعقائدنا إلى مُجَرَّد طقوسٍ خاويةٍ، ومآثر تراث السَّلَف الصالح إلى وثائق يَتِمُّ أرشفتها في الحواسِيبِ الشخصية، أو المتاحف.
3 - الإسلام بين العالميَّة والعَوْلَمة: ظهرتْ في الفترة الأخيرة مجموعةٌ كبيرةٌ منَ الدِّرَاسات التي أُعِدَّتْ في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وأخرى على أيدي مفكرين - مع بالِغ الأسف - عرب ومسلمين، تحاوِلُ تَمْوِيه الحقائق وتضليل الرأي العام بِصَدَد مفهومِ العَوْلَمَة.
ذَهَبَ أصحاب هذه البُحُوث والدِّراسات إلى اعتبار العولَمة منهجًا كونيًّا، سادَ التاريخ الإنساني بِوَصْفِه انْعِكاسًا طبيعيًّا للتَّطَوُّر الجَدَلي التاريخي، وأنَّه ليس مَذْهبًا ابْتَدَعَتْهُ الأيديولوجية الأمريكيَّة، فكل حضارة سادتْ عبر سِجِلّ تاريخ البشريَّة الحافل على رقعة البسيطة، قد وظّفَتْ بأسلوب أو آخر الطرائق المُتاحَة لديها؛ لِغَرَض عولَمة اعتقادها الدِّيني، وثقافتها، وطرائقها؛ لِتُصْبِحَ منهجًا كونيًّا يُهَيْمِنُ على الشُّعوب التي تقع تحت مَظَلَّة مَمْلَكَتِها.
ونجيب على تخرُّصات هؤلاءِ المستغربين بأنَّ العالَميَّة هي محاولَة للارتفاع بالخصوصيَّة التي تَمْتَلِكُها المفاهيم العقديَّة، التي نشأتْ في بيئةٍ مخصوصةٍ في سبيل التَّفَتُّح على ما هو عالَمي وكوني، أمَّا العولَمة فهي إرادة للهيمَنة تَسْعى إلى قَمْع وإقصاء الخصوصيَّة.
الإسلامُ في دَعْوَتِه العالمية للبشريَّة جمعاء يسعى إلى الأخْذِ والعَطَاء، وإقامة الحِوَار مع الغَيْر؛ لإرْسَاء قانون الله - تعالى - في الأرْض، وتخليص البَشَريَّة مِن براثِن الوثنيَّة والعُبُوديَّة لِغَيْرِ الله - تعالى - دون إلغاءٍ للهُويَّة الثقافيَّة للغير أو إقصائها، أو تجاوز خصوصيَّاتها التي تَلْتَصِق بِبَشرة كل أمة من الأمم.
قال - تعالى - في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
أمَّا العولمة الجديدة، فتسعى جاهِدةً إلى توظيف الخَلَل المقيم في البنى المعرفيَّة والمعلوماتيَّة على الصَّعيد الكوني؛ لِتُمَارِسَ أبشعَ أنواع التَّمْييع لِحُدُود جُغرافيَّة الثقافة الوطنية والعقدية.
4- التَّصَدِّي لطوفان العولَمة: لكي نتأهب لِصَدِّ تيارات العولَمة الوَافِدَة والوقوف بِوَجْه طُوفانها الثقافي، ينبغي أن نبدأَ بِمُعالَجة نقديَّة لمنظومتنا الفكرية والعقدية، فعالَم مغاير - في ظل العولمة - بحاجةٍ إلى فَهْم إسلامي جديد أكثر عمقًا، وتوظيف ذكيٍّ لمنهج علميٍّ متزن بعيدٍ عنِ الغُلُوِّ، وعليه؛ فإذا لَمْ يَتَغَيَّر منهج التفكير وتصحح منطلقاته، فسوف يبقى العقل المسلم عاجزًا عنِ النظر الناقد والرُّؤية النَّافِذة، وسيظل يراوح في حلوله ومحاولاته المُتَكَرِّرة للِّحاق بركب العولمة السائدة، أو رفضها بمنطق الغُلُوِّ والتَّشَدُّد، اللذين يغفلان عن مواطن القوة ومواطن الضعف في المنظومة الفكرية للغَيْر.
إنَّ أزمة الأمة الإسلامية في الوقت الحالي - في المحصلة النِّهائيَّة - هي في كيفيَّة بَلْوَرة قِيمِها وتَصَوُّراتِها الأساسيَّة، في واقع اجتماعي حضاري، قادرٍ مستقرٍ، بعيدٍ عنِ التَّقليد والمحاكاة والمُتابَعة العَمْياء لِمَا تُفْرِزه العولمة، ولن يَتَأَتَّى لنا مُوَاجهة تيار العولَمة دون صياغة مفاهيمنا الإسلاميَّة وبلورة أخلاقيَّاتنا في صرحٍ فكريٍّ متينٍ، يستطيع الصُّمُود بوجْهِ المقارعة النَّقْدية التي تمارسها مؤسسات العولمة وأذيالها، وتطلقها صوب مفاهيمنا وقِيَمنا في ميادين الحياة كافة.
سوف تَتَعَرَّض هُويتنا القوميَّة إلى تهديدٍ شديدٍ في ظلِّ العولمة التي أعطتْ لِنَفْسِها كامل الحق في صهر ثقافات العالَم في بوتقة الثقافة الأمريكية؛ لِطَمْس ملامح خصوصياتها؛ لإِبْقاء الإنسان المعاصر وحيدًا بلا مكان ولا تاريخ، بحيث سَيَطْوي النِّسيان تاريخ الأجداد، وسيهدر تراثهم بعد سيادةِ التراث الفكري الذي تحملُه طوفان العولمة الوافدة، ولن نستطيعَ مجابَهة هذا التَّهديد الشَّرِس بدون معالَجة جديدة لمفردات تراثنا الفكري الذي خَلَّفه أجدادنا الأفذاذ، ولا نترك للغرب أن يمارسَ جريمة استلاب نصوصنا وتراثنا، ونتاج إبداعنا مِن بين أيدينا؛ بِدَعْوى مزج الثقافات وحوار الحضارات.
ولِمُجَابَهة هذا الطُّوفان المعرفي والعقدي الجديد، ينبغي أن نعمِّقَ فَهْمنا بمقاصِدِ الشَّرِيعة، ونُبَاشِر عمليَّة حراثة مفهومية لِنُصُوصها، فنستنطق هذه النُّصوص بإجابات ناجعة؛ لتجاوُز العقبات المعرفية التي تعترض المسلم المعاصِر عند مواجهته لِتَيَّار العولمة ببريقه الأَخَّاذ، ومُغْرياته التي تُحَرِّك نزعات النَّفْس الأَمَّارة بالسُّوء.
ولن يَتَعَمَّق فهمنا لِمَقاصد الشريعة ما لَمْ نعاوِد إقامة أواصِر الأُلْفَة مع لُغتنا العربية، لغة الخطاب القرآني، ولغة ثقافتنا العالمة.
بعدها نباشر سبر مُرتكزات ثقافة العولمة، ونحاول أن نحسنَ استخدام أدواتها، بعيدًا عَنْ موقف الرَّفْض المُطْلَق الذي يُعانِي أصحابه مِن مأزق الانْغلاق والقَوْقَعَة على الذات، شريطة ألاَّ نقعَ أسرى في دائرة ما يسمَّى بالانفتاح على العصر، والذي يحمل بين ثناياه اسْتِتْباعًا حَضاريًّا مبطنًا لِتَيَّار العَوْلَمة.
وأخيرًا: يأتي الفعل الإسلامي الحضاري لِمُوَاجَهة الاختراقات الثَّقافية، عَبْر المُحَاوَلات المستمِرَّة لتَجْدِيد مضمون الخطاب الإسلامي في داخل حدود سيادته العقديَّة، ثمَّ التَّوجُّه صَوْب العالَم الخارجي؛ لتأسيس مبدأ عالميَّة الإسلام على أسس رصينة، تثبت أقدام هذه العالمية على أرض الواقع، بعد أن بَرْهَنَتِ الأحداث الراهنة عجز بقيَّة الحلول المطروحة مِن قِبَل الغرب، وعلى رأسها العولمة بجميع محاوِرها المُتَشَعِّبَة.
حسن مظفر الرزّو