عولمة التخنث

حميد بن خيبش

ولعل من أخطر تجليات هذا السعي هو الإصرار الغريب على تجفيف منابع الرجولة، والزج بالشباب المسلم في متاهة التخنث المدعوم بترسانة إعلامية ودعائية غير مسبوقة، فلم يعد الأمر وقفاً على زي فاضح أو تسريحة شعر منفرة، بل تطور إلى المناداة بانتزاع إقرار اجتماعي بحرية تحطيم الذكورة، وتحميلها وزر تردي العلاقات الإنسانية!

  • التصنيفات: التصنيف العام -

يبدو أن لا حد للعلمنة في سعيها الحثيث لتدمير الجهاز المناعي للأمة الإسلامية، وشل قدرتها على النهوض والبناء.

ولعل من أخطر تجليات هذا السعي هو الإصرار الغريب على تجفيف منابع الرجولة، والزج بالشباب المسلم في متاهة التخنث المدعوم بترسانة إعلامية ودعائية غير مسبوقة، فلم يعد الأمر وقفاً على زي فاضح أو تسريحة شعر منفرة، بل تطور إلى المناداة بانتزاع إقرار اجتماعي بحرية تحطيم الذكورة، وتحميلها وزر تردي العلاقات الإنسانية!

يورد ابن منظور في "لسان العرب" تعريفاً للمخنث يحيل على الضعف والرخاوة:

- " تخنث الرجل أي سقط من الضعف، والخَنِث هو المسترخي المتثني، أما الخنثى فالذي لا يخلص لذكر ولا أنثى، وفي الحديث الشريف عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: (( أخرجوهم من بيوتكم))(1).

أما الفقهاء فقد خصوا باللعنة كل من يُظهر الميل إلى التشبه بالنساء في حديثه وهيئته لغرض آثم يُشيع الفاحشة، فاستثنوا بذلك المخنث بالخِلقة، وهو الذي يغلب عليه اللين في كلامه والتكسر في خلقته دون أن يكون مراده الإتيان بفعل فاحش.

وقد فطن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إلى أحد أهم دواعي التخنث وتلاشي مقومات الرجولة في أمة من الأمم، من خلال حديثه عن ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب في زيه ونحلته وسائر عاداته، حيث عزاه إلى كون النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، لذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله (2). وهو ما تنبه إليه في وقت سابق الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، رغم أن كفة المسلمين هي الراجحة آنذاك! فكتب إلى بعض عماله العرب ببلاد العجم: " إياكم والتنعم بزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخشوشبوا واخلولقوا، وأعطوا الركب أسنتها، وانزوا نزوا وارموا الأغراض " (3).

لم تكن بلاد المسلمين سوقاً رائجةً للتخنث كما هي عليه اليوم، حيث توزعت ردود الفعل بين النفي والإبعاد بموجب قرار رسمي يصدره الخليفة أو الوالي، وبين السخرية والتندر ممن تنازلوا طوعاً عن رجولتهم، حتى أنشد أحدهم قائلاً:

وما عجبي أن النساء ترجلت *** ولكن تأنيث الرجال عجيب

بيد أن ما يحدث اليوم يُحيل بشكل مؤلم على أسوأ آثار الهزيمة النفسية، ممثلاً في الإذعان لحتميات زائفة رسخها الإعلام الغربي في عقول النشء مفادها: أن لا سبيل لردم الفجوة الحضارية إلا باعتماده مرجعاً على مستوى القيم والتصورات والسلوك، حتى في أشدها انحلالاً وتفسخاً، لذا لا نستغرب حرص ترسانته الإعلامية والدعائية على التسويق لصورة الإنسان "الحداثي" كما يرتضيها: إنسان يُسخر حريته التي هي أعظم القيم، لخدمة أغراض سفلية كالعري والتخنث وتحطيم الأطر المنظمة للوجود الإنساني.

في سياق جرده لآليات علمنة الإنسان من الداخل يرصد الدكتور عبد الوهاب المسيري أمثلة عديدة لما أسميناه عولمة التخنث، ولعل أخطرها هو إعادة تعريف الإنسان في ضوء رغباته الاقتصادية والجسدية، فهو كائن متحد بالسلعة، باحث أزلي عن المتعة والمنفعة، لا يكتسب هويته من انتمائه الوطني أو مواقفه الأخلاقية وإنما من نمطه الاستهلاكي.

وهو إنسان صيغت له أحلام ورغبات لا تمت بصلة لعالمه الداخلي، فاستبطنها دون أية مقاومة تُذكر، ليصبح شخصية نمطية يسهل التنبؤ بسلوكها، كما يسهل توظيفها في قطاع اللذة المدر لربح وفير!

بل إن التعبير عن العلمنة سيبلغ مداه على مستوى اللباس من خلال ما يُسمى ب "أزياء الجنس الواحد"، والتي تقوم على مبدأ تحييد الجنس تماما بحيث يرتدي النساء والرجال زياً واحداً! (4)

إن ما تصبو إليه عولمة التخنث هو التطبيع مع الفوضى الجنسية، واستبعاد ما هو أخلاقي من دائرة العلاقات الإنسانية، ولعل المتتبع لنوعية القضايا والملفات التي تتبناها موجة الحقوق والحريات الجديدة، يدرك البعد التدميري الذي اكتسبه مفهوم الحرية الشخصية، وكيف أن هذه الأخيرة باتت أكثر التصاقاً بالتمرد على الإطار الديني والقيمي الموجه للسلوك الإنساني.

وإذا كان التاريخ يشهد بوثوق الصلة بين تفتيت العلاقات الإنسانية وأفول الأمم، فإن الواجب يقتضي استنهاض الهمم، وصيانة مقومات الرجولة في أمة البعث والشهود الحضاري.

 

1 : رواه البخاري

2 : عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة ج1. تحقيق عبد السلام الشدادي. الدارالبيضاء. 2005. ص 242

3 : رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي

4 : د. عبد الوهاب المسيري: العلمانية الجزئية و الشاملة ج2. دار الشروق. 2002. ص 135 و 155