حتى لا تصير البيتوتية مقبرة المرأة المتميزة!

هدى عبد الرحمن النمر

لتكون أولوياتك غنية في غير تُخَمة، وكافية في غير تقشف، استعيني بقاعدة (أدومها وإن قل)، وثقي بأن الخلل إنما ينشأ من عدم الدوام لا من القلة، التقدم ببطء وثبات خير الجمود في مكانك، أو اللجوء للحلول الهروبية الجاهزة التي تريحك من التفكير في أخذ زمام حياتك بجدية وقوة.

  • التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -

في مقال سابق بعنوان (هل البيتوتية مقبرة المرأة المتميزة؟!)، خلصنا إلى أن العبرة ليست ببيتوتية المرأة أو خروجها وعملها، بل الشأن في المرأة نفسها، ذلك أن صور الأنشطة كلها التي نقوم بها إنما هي في حقيقتها وسائل لا غايات، فما لم تكن للمرء في حياته غاية محددة المعالم والرؤى والمراحل، وعلى أساسها يحدد أقدار الوسائل وأنواعها، أيا ما يفعل سيكون خبط عشواء، السكين مثلًا آلة يختلف أثرها باختلاف مستعملها، فأثرها في يد قاتل غير الطبيب غير الطاهي، وهي هي نفس السكين.

دليل ذلك ما وصلني من ردود القارئات على المقال السابق، على تنوعها انقسمت صفين، صف يستغرب كيف يمكن للبيتوتية ألا تكون مقبرة، ويستشعر الحاجة للخروج والانطلاق، وصف اشتدت حسرته على ما يشغله من الخروج والانطلاق ويتمنى لو يتاح له أن يكون بيتوتيًا متخففًا من شواغل تستنزف طاقاته، تذكرت عندها فورًا أبيات عباس العقاد:

صغيرٌ يشتهي الكبرا ** وشيخٌ ودَّ لو صَغُرا
وخالٍ يبتغي عملاً ** وذو عملٍ به ضَجِرا
وَرَبُّ المالِ في تعبٍ ** وفي تعبٍ من افتقرا
ويشقى المرءُ مهزوماً ** ولا يرتاحُ منتصرا
وذو الأولادِ مهمومٌ ** وطالبهم قد انفطرا
ومَنْ فَقَدَ الجمالَ شكى ** وقد يشكو الذي بُهرا
فهل حَاروا مع الأقدارِ ** أم هل هم حَيَّروا القدرا؟

هذا الانقسام أكّد لي أن منشأ الخلل يكمن في أننا نترك الظروف والحياة تسيّرنا، ونرتاح إلى ما يهديه لنا هذا الطبع من رفع للشعور بالمسؤولية أو إحساس بالذنب أو التقصير، فضحية الظروف لا يمكن بحال لَوْمه عليها ولو بقدر صغير! ولأن هذا الوضع في نفس الوقت غير مرضٍ ولا مجزٍ نفسيًا أو روحيًا أو عقليًا، تكون ردة الفعل الوحيدة الباقية كثرة التذمر والشكوى والاكتئاب وكافة أشكال التفريغ العاطفي السلبي بين الحين والآخر.

ولأننا استوفينا الحديث فيما سبق عن فقه الحياة ومنهاج عبورها، وهو منهج صالح لكل الفئات عامة، أخص بالحديث هنا منهجية للمرأة البيتوتية خاصة الزوجات والأمهات.

أولًا: هواجس تطوف بالخاطر.

- هاجس الوقت لا يكفي:
الخطة تعني تنظيم الوقت المتاح بالفعل، لا خلق مزيد منه من عَدَم، فمهمته أن ينبهك إلى تلك الساعات الثمينة المهدرة أثناء اليوم، ويعينك على حسن استثمار الساعة أو الساعتين اللتين يمكن أن تتخففي فيهما من المشاغل بدل مواجهتها ارتجالا فتكون كعدمها.

كما سيتضح معنا، هذه الأوقات، ولو بلغت ساعتين في اليوم مجملًا، تكفي لتحقيق أكثر بكثير مما تظنين.
أزمة التخطيط لا تكمن أبدًا في ضيق الوقت، بل غالبًا في الهمة والعزم لاستثمار ما هو متوافر منه بالفعل.

- هاجس التفرغ:

من قال إن (استثمار) الوقت يعني الإلقاء بكل التزاماتك من النافذة؟ هذا مطلب غير واقعي البتة، لأن المرء في عالم اليوم قلّما يكون فارغاً بالكلية، حتى وإن لم يكن موظفًا، فهناك التزامات من أنواع أخرى.

ببساطة، التفرغ المحمود هو (الانقطاع لكل عمل)، تصرفين فيه الوقت المخصص له بغير أي مشتتات ولا مؤثرات، جربي أن تقرأ صفحة والتلفاز مفتوح أمامك أو إشعارات الفيسبوك تلاحقك وانظري كمّ الوقت الذي يستغرقه التشتت لا القراءة! نفس الصفحة يمكنك أن تتميها بقراءة واعية في نصف الوقت أو أقل، فقط (استثمري) ما هو بالفعل فارغ في يومك على وجهه، وأعطي كل ذي قدر قدره وكل ذي حق حقه.

- هاجس الذنب:
ماذا لو وضعت خطة ولم يمكنني الالتزام بها تمامًا؟ سأشعر بالذنب والإحباط، فما جدوى تخطيط لا يتحقق؟
الجواب قول الله تعالى: {أفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]، وحديث المصطفى: «استَقيموا ولَن تُحصوا».

فقد نبهنا المصطفى  لمكانة الإعداد والتخطيط الحقة بغير إفراط ولا تفريط: «استقيموا ولن تحصوا»، أي لن تستطيعوا بحولكم وقوتكم إلا بعون الله تعالى، ولن تبلغوا أداء حقه تعالى على كل حال؛ وإنما «سدّدوا» أي الزموا هديه وسنته، «وقاربوا»، أي لا تشددوا ولا تفرّطوا، «وأبشروا» برحمة الله تعالى وفضله، «فإنَّهُ لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُهُ»، قالوا: "ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ"، قالَ: «ولا أَنا إلَّا أن يتغمَّدَنيَ اللَّهُ منهُ برحمةٍ»، وليس العبرة بمن استكثر والسلام، وإنما بمن صدق وأخلص.

وإن من يجتهد أن يستقيم على منهج واضح، لا ينفي إخفاقُه بين الحين والآخر كونه على منهاج واضح، وكونه سينهض من عثرته ويتدارك نفسه، حتى يصير الانضباط له دأبًا وعادة وطبعًا لا تكلفًا.

وهذا بديهة خير ممن يخبط على غير هدى، ويجهد نفسه في غير رؤية واضحة، وأولئك هم الذين ورد وصفهم في الأثر أنهم يركضون في الدنيا ركض الوحوش ويلهثون لهاث الظمآن، ثم لا يحصّلون من الفانية ما عسى أن يكون لهم رصيدًا في الباقية.

وصحيح أن مجريات الحياة لا تسير بالقلم والمسطرة، لكنها كذلك ليست تيارًا جارفًا لا حول لك فيه ولا قوة، فشتان بين من يحلم بتغيير العالم وهو لا يستطيع حتى تنظيم يومه أو ضبط ساعات نومه، وبين من الوقت عنده رصيد يسحب منه، كما قال الحسَن البَصْرِيّ: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذَهبَ يوم ذهبَ بَعضُك"، وشتـــان بين من يصحو كل يوم مبعثرًا، ويعيش حياة شبحية بين التلفاز والفيسبوك، أو العمل والخروج واللقاءات والأنشطة، دون أن يكون له وقفة مع النفس لمحاسبتها وتقييمها وظل طويل من عبادة الخلوة؛ ومن وضع لكل سؤال (1) منهج إجابة، سدَّد وقارَب واجتهد ما استطاع، واستعان بربه على صحتها، فذلك يُرجى له أنه الكَيِّس الذي دان نفسه وعمل لما بعد الموت.

- هاجس فات الأوان:
يكفي أن تعلمي أن العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء وعز الدين، لم يبدأ طلب العلم إلا في سن الأربعين، وتوفّاه الله تعالى في سن الثمانين، أي أربعون سنة فقط -وكان خلالها أشغال أخرى- فتح الله له فيها بتلك المكانة التي لم يبلغها أحد من بعده، وكم من عالم يطلب العلم من نعومة أظفاره وما بلغ معشاره!

إذًا ما من شك في فضل الله تعالى، والعبرة بمن صدق لا بمن سبق، ولا بد مع الصدق من منهجية بلوغ.

ثانيًا: المنهجية المقترحة:

- ترتيب الأولويات بحسب دوائر الحقوق:

للمرأة عامة ثلاثة أدوار رئيسية، تحديدها وترتيبها مما يقره الشرع والعقل، ونكتفي في هذا السياق بحديث كل ذي حق حقه: «إن لربِّكَ عليك حقًّا، ولنفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه» (البخاري)، بناء على ذلك، أولوياتك ترتب كالتالي:

1- أمة لله:
فهذه هي الوظيفة التي لأصلها خلق الخلق أجمعون، وليس من ديننا أن يكون المرء كالفتيلة أو الشمعة التي تحرق نفسها لتنير للناس، بل دين السراج الوهّاج الذي ينير في نفسه فينير لمن حوله تلقائيًا. صحيح أنه بالنسبة للزوجة والأم فحق أهلها من حق ربها، لكن يظل هنالك قدر لا بد أن تقومي به لنفسك لأنها أول من ينبغي أن تبتغي نجاتها، ويظل هنالك ثوابت بتضييعها يضيع عليك صفاء قلبك وتتكدر روحك فتجوري على نفسك وعلى الحقوق الأخرى التي حرمت نفسك لأجلها.

لا بد من التوازن قدر الإمكان، والعزيمة طوال الإمكان، فكم أعلم من شابات إذا دخلت بيت الزوجية أوقفت القيام والنوافل والتعلم وكل شيء باعتبارها زوجة، ولديها من الوقت ما تحسده عليه الكثيرات، تهدره أمام التلفاز وعلى الهاتف وفي التسوق، والإطالة في أعمال المنزل لأنها تؤديها بتراخٍ كأنها في تصوير بطيء، فالوقت مفتوح والزوج حاجاته معلومة وانتهت الحياة والحساب عند هذه النقطة، هل يمكن لهذه أن تتساوى في الحساب مع من لديها رضّع أو أطفال هي في خدمتهم طوال اليوم وشطر الليل، ومع ذلك تجتهد في الصلاة على وقتها، ولا تنسى نفسها من ركعة وتر وورد قرآن مهما قل؟

إن الزواج والأمومة ليسا تذكرة عبور للجنة بذاتهما، بل بحسن الأداء فيهما، تمامًا كأي موقف يوقفه الإنسان في الحياة، فكما أن هناك أئمة يهدون الناس إلى الجنة، هناك أئمة ولكن إلى النار، لم تنفعهم إمامتهم شيئًا لأنهم ما قاموا فيها بحق الله، والشابات اللواتي يبدأن هذه المؤسسة الوقفية لله تعالى -مؤسسة الزواج- بهذا التصور وهذا التعامل، هن تمامًا الصنف الذي حضوره حضور بيولوجي لتلبية الحاجات الغريزية، وهذا دور خدمة مشكور، وليس دور الحضور المرجو، ليس دور الأم المربية والمهذبة وصانعة الأجيال، ولا دور الزوجة الصديقة الوزيرة الناصحة لزوجها، وهذا الصنف من أكثر من يشتكي أنه أفنى حياته في خدمة غيره، فلا هو سَعِد! ولا غيره استشعر أثره، وحقيقة الأمر أنه أفنى حياته في إهدار نفسه، لأن خدمة الغير على الحقيقة لا تتطلب الفناء إطلاقًا، مهما كان ذلك صحيحًا في أوقات معينة، فمن بلغ أولادها سن الرشد ليست كمن لها توأم رضيع مثلًا، وكل إنسان على نفسه بصيرة.

ولهذا الدور، بالنسبة للزوجة البيتوتية (المتفرّغة لأسرتها)، نقتصر على أهم الثوابت التي لا ينبغي أن تغفل عنها إلى جانب قيامها بالفرائض المعلومة.

2- الصلاة على وقتها:
مجرد الاهتمام بمواقيت الصلاة، والاجتهاد نفسه في قطع الشواغل للقيام لها، من أعظم ما يمكن أن يجعل لها في قلبك مكانة وفي أدائها حلاوة، ويكفيك حرصًا على هذا أن تعلمي أنها أحب الأعمال إلى ربك، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّ العملِ أحبُّ إلى الله؟" قال: «الصلاةُ على وقتها»، قال: "ثم أيٌّ؟" قال: «ثم برُّ الوالدَين»، قال: "ثم أيٌّ؟"، قال: «الجهادُ في سبيل اللهِ» (البخاري)، ويكفي أن ينشأ أطفالك حريصين على ذلك بمجرد كونك قدوة حية، بخلاف من أوامرها في وادٍ وأفعالها في وِديان أخرى.

3- القرآن:
يحكى أن رجلًا كان يداوم على  قراءة القرآن، ولكنه لا يحفظ منه شيئًا، فسأله ابنه الصغير يومًا: "ما الفائدة من دوام قراءتك إذا كنت لا تحفظ منه شيئًا؟! فأجاب: سأخبرك إذا ملأت سلة القش هذه من ماء البحر! فقال الولد: مستحيل أن أملأها! سيتسرب الماء منها!  فقال له: جرّب!
فأخذ الصبي السلة -وكانت تستخدم لنقل الفحم- واتجه إلى البحر، وحاول ملأها، ثم جرى بسرعة إلى أبيه ولكن الماء كان قد تسرب منها بالفعل!
فقال لأبيه متذمرًا: لا فائدة!
رد الأب بثقة: جرب ثانية!
ففعل وجرب ثانية وثالثة ورابعة وخامسة دون جدوى! حتى اعتراه التعب وقال لأبيه: "يستحيل أن نملأها بالماء!"
فقال الأب لابنه: "ألم تلحظ شيئًا على السلة؟!"
هنا تنبه الصبي، لقد كانت السلة متسخة من بقايا الفحم حين أخذها، والآن هي نظيفة تمامًا!
عندها قال الأب لابنه: هذا تمامًا ما يفعله القرآن بقلبك! فالدنيا وشواغلها قد تلوث قلبك بعلائقها، والقرآن كماء البحر؛ يجلي صدرك وينقي قلبك بدوام تلاوته، ولو لم تحفظ منه شيئًا.

هذه الحكاية القصيرة كفيلة ببيان المراد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، وفي الحديث «التُّؤدةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ إلَّا في عملِ الآخرةِ» (الألباني) أي التأني يكون محمودًا إلا حين يتعلق الأمر بالاستزادة للآخرة، لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ}، فكثيرون قد يؤجلون النظر في كتاب الله، ويستصغرون البدء ولو بورد صغير من عشر آيات أو ربع حزب، حتى يتفرغوا أو يبدؤوا في الحفظ أو يجمعوه مع التفسير، لكن الحل الأمثل كما رأينا في القصة، أن يلتزم المرء بورد تلاوة بهدف تنقية قلبه وصفاء نفسه، فهذا الذي يؤدي لتلك وليس العكس.

4- الأوراد:
أذكار الصباح والمساء، أذكار الأحوال (عند الأكل، دخول الخلاء، الخروج من المنزل، الثوب الجديد، الإعجاب بشيء ..)، التسبيحات المختلفة (سبحان الله وبحمده، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا حول ولا وقوة إلا بالله)، يرتب المرء لنفسه وردًا مهما قل يداوم عليه ، ويزيد فيه تدريجيا (2).

5- الرقائق والتذكرة:
أن يكون لك منها ورد صغير تداومين عليه، بضع صفحات أو دقائق مسموعة، خير من المباعدة بينها بفترات طويلة ثم الانكباب على كتاب أو سلسلة مسموعة جملة واحدة، الطريقة الأولى هي تمامًا كفعل ماء البحر في سلة القش، استلزم الأمر عدة مرات متتالية لإحداث الأثر المطلوب.

6- زوجة:
وهذا الدور ومعالمه أبين من أن نتكلم فيه، وإنما نورد مراجع وكتبًا في هذا الشأن في الملحق في آخر المقال، وكل زوجة أدرى بما تحتاجه لتكون لزوجها متاعًا صالحًا ورفيقًا مؤنسًا ووزيرًا يشد عضده ويسدد نصحه.

7- أم:
وهذا الدور يتطلب البدء في تصور منهجية تربوية وخطة تأسيس معرفي، ينبغي أن تبدأ من وقت الخطبة أو أوائل الزواج، لا تأخيرها حين يكبر الطفل ويشب عن الطوق ثم نبدأ في أخذ الدورات عن كيفية فهمه والتحاور معه، ولو أحسنت تشكيله حين كان لينا قابلًا للتشكيل لما احتاجت لفهمه حين تشكل في غيبوبة منها! ولكن لأن الأوان لا يفوت كما اتفقنا، ففي الملحقات قائمة كتب ومواد نافعة في هذا الشأن، يبقى لكل أم أن تولّف منها خطة تناسب مستواها ومبتغاها ومستوى طفلها وعمره.

8- أدومها وإن قل:

لتكون أولوياتك غنية في غير تُخَمة، وكافية في غير تقشف، استعيني بقاعدة (أدومها وإن قل)، وثقي بأن الخلل إنما ينشأ من عدم الدوام لا من القلة، التقدم ببطء وثبات خير الجمود في مكانك، أو اللجوء للحلول الهروبية الجاهزة التي تريحك من التفكير في أخذ زمام حياتك بجدية وقوة.

فإذا كنا نتحدث عن عمر يُنفَق وحياة تمضي فلا خير مهما صغر صغير، ولا استهتار مهما قلّ قليل، وكما يقول مصطفى صادق الرافعي، في كتابه (تحت راية القرآن): "البطء والقوة إلى زيادة خير من السرعة والقوة إلى نقص".

ولنضرب مثالين يختصران الكلام:

  • الاستيقاظ ساعة مبكرًا عن موعدك العادي:

مجرد الطموح إلى تحصيل ذلك بضبط المنبه ليلة اتخاذ القرار هو أولى خطوات الإحباط والفشل الذريع مقدمًا، خاصة إذا كنا نتكلم عن (التعود) على ذلك، لا تحقيقه ذات مرة والسلام، ومن الناس من يتوقع هذا الفشل فيكف عن المحاولة من البداية، ويقنع بالعيش بين الحفر أبدًا، في مقابل الصنف الذي يبغي صعود الجبال في ليلة.

الوسط بين هذين بكل بساطة  يعني أن تقسّم الهدف إلى خطوات مرحلية، تمامًا كرحلة تسلق الجبل، فلو ضبطت المنبه خمسة دقائق فقط مبكرًا كل ليلة، في خلال اثنتا عشرة ليلة -نموذجيًا- يمكنك الاستيقاظ ساعة مبكرًا، بغير أن تستحيل عملية النوم والاستيقاظ عذابًا مقيمًا! 

وحتى لو افترضنا وجود صعوبات أو عدم انتظام، لنقل إن شهرًا كاملًا من التدريب كفيل بعون الله تعالى وتوفيقه على تحصيلها.

وأصحاب هذا الهدف ممن لم يتمكنوا من تحقيقه بعد، تجدهم إما أن يحفظوا صفحات في اليوم أو لا شيء إطلاقًا، والوسط بين هذين هو تحديد المدة التي تبتغي فيها ختم الحفظ، ولنقل مثلًا سنة، بقسمة حسابية يتضح أن المقدار المطلوب يوميًا سبع عشرة آية، أو عشر آيات على الأقل، وبترك وقت للمراجعات الدورية، يمكن أن تختمه بعون الرحمن حفظًا في سنة ونصف أو سنتين.

كثيرون قد يستقلون هذا الرقم الصغير للوهلة الأولى: (عشر آيات فقط؟!)، والرد يكون بتأكيد قاعدة: لا قليل مع المداومة، ولا كثير مع الانقطاع، وكم من السنوات أهدرت بغير الالتزام لا بالصفحات ولا بالعشر آيات! فأي الفريقين أهدى يا أولي الألباب؟

- كيف السبيل لذلك؟

اسردي على ورقة بيضاء أو عدة ورقات كل ما يجول في خاطرك من أهداف وطموحات ترين أنها سبيلك لبناء ذاتك وتزكيتها وتهذيبها في إطار الأولويات ودوائر الحقوق التي وضحناها سابقًا.

يمكنك بعد هذا السرد، إعادة ترتيبها وتصنيفها بحسب تلك الدوائر، في كشكول بعنوان (بناء الذات) أو (استثمار العمر) أو أي عنوان آخر، بحيث يكون بمثابة المرجع أو المحفظة لكل ما يخطر في بالك حتى لا تشغلك أو تزحم رأسك أثناء السير، فكأنك تحفظها في مكان أمين لحين يأتي دورها واحدة تلو الأخرى، بغير أن تخشى ضياعها أو نسيانها.

لكل أولوية اختاري هدفًا واحدًا أو اثنين، بناء على ما ترين أنك أحوج له، المهم أن تعتبري الهدف مشروعًا تستمرين معه حتى انتهائه، ولا تستقلي أبدًا العدد أو تستطيلي مدة الإنجاز، يكفي مثلًا مشروعان كمهارة تعلم القيادة مع خطة القراءة التربوية، لا تزيدي عليهما حتى تتميهما؛ أو مشروع حفظ القرآن مع مشروع تطوع مثلًا.

الآن لديك مشروعان أو ثلاثة تريدين بعون الله تعالى البدء في إنجازها، كل مشروع له ثلاث مراحل ليصير قابلًا للتطبيق: 
1/ تجزئة الهدف لخطوات أو مهام متتالية (تفكيك الهرم لمكعبات).
2/ تزمين كل مرحلة (تحديد مدة زمنية لها، أو وِرد دوري لإتمامها).
3/ كيفية تجزئة أي هدف لمهام مرحلية؟ مهما بدا أي عمل صغيرًا أو (كتلة واحدة)، احرصي أن تجزئيه حيثما أمكن، بحيث كلما أنجزت فيه خطوة مهما صغرت، يظل هناك (إنجاز ملموس)، وإن لم تتم الصورة النهائية في جلسة واحدة.

مثال 1: (إعداد السيرة الذاتية).
إذا وضعت هذه المهمة هكذا في قائمة مهام اليوم، في الغالب ما سيحصل أن يذهب الوقت المخصص للإعداد في التعرف على كيفية الإعداد، أو الحيرة في الخطوة الأولى، لو أخذت دقيقة تفكر لتجزئة هذا الهدف، يتبين لك أن خطواته كالتالي:

  • مطالعة مقال أو اثنين عن أسس كتابة السيرة الذاتية المتميزة.
  • تصفح الانترنت بحثًا عن (قوالب) أو تصميمات جاهزة للسيرة الذاتية.
  • إعداد قائمة بمهارات العمل المتوفرة لديك، وكذا وظائفك السابقة إن وجدت.

- إعداد المسوَّدة الأولى:
إطلاع أحد سابقي الخبرة في هذا المجال على مُسوَّدتك.
تنقيح المسودة، وإعداد السيرة للطباعة.
لو وضعت لكل خطوة من هذه الست مدة زمنية حوالي عشرة دقائق مثلًا، فذلك يعني الانتهاء في ساعة واحدة، بدل أن تظل المهمة أسبوعًا كاملًا تؤرقك لأنك لم تمنهج المسير من البداية فتخبطت في الاتجاهات.

مثال 2 : حفظ القرآن الكريم، يمكن تجزئة الهدف للمراحل التالية:

  • تعلم قواعد التجويد: إما على يد مقرئ/ـة أو دروس صوتية على الانترنت: بمعدّل عشرون إلى ثلاثون دقيقة يوميًا.
  • تلاوة جزء (عمّ) على مقرئ/ة لضبط القواعد إذا تيسّر.
  • البدء في الحفظ: بمعدل عشر آيات يوميًا، والحفظ نفسه له مراحل.
  • سماع تلاوة الآيات (يراعى اختيار شيخ مجوّد وليس قارئ ملحّن، كالشيخ عبد الباسط والمنشاوي).
  • الترديد خلف القارئ آية آية.
  • تلاوة الآيات كلها مرة واحدة.
  • التسميع آية آية.
  • تلاوة المحفوظ في صلوات الفرض.

هذه المراحل كلها، باختيار وقت هادئ يمكن التركيز فيه بغير شواغل (ولو أن تقتطعي من وقت نومك الخاص) ساعة؛ وإذا تعذر إتمامها جملة، يمكنك بكل بساطة إتمام كل مرحلة على حِدة، فالسماع والترديد يمكنك إتمامه أثناء وقت المطبخ والأعمال المنزلية، وكذا الحفظ، يكفيك أن تنظري الآية مرة في مصحف مفتوح أمامك، ثم تكرريها حتى تحفظيها، أثناء جلي الصحون مثلًا.
وقيسي على هذين المثالين طريقة تقسيم وتزمين وتنفيذ أي هدف آخر، كصفحتين يوميًا من كتاب، أو درس صورتي من سلسلة،.. إلخ.

وبالاستعانة بالله تعالى، والحرص على التجزئة والمداومة، والهمة المتفائلة، سيمكنك إتمام الكثير بغير أن تنتظري حلم التفرغ الوهمي.

هذا ما تيسر، ومن يصدق الله يهديه سبله.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
-------------------------------------------------
(1) «لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن شبابِه فيما أبلاه، وعن عُمُرِه فيما أفناه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيما أنفقَه، وعن عِلمِه ماذا عمل فيه».
(2) من الكتيبات الجامعة في هذا الشأن:
- جبال الحسنات بدقائق معدودات، لمحمد يونس بن عبد الستار.
- حصن المسلم، لسعيد بن وهف القحطاني.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام