كَيْفَ تُصبِحُ ذَا مَلَكَةٍ أدَبيّةٍ؟
ربيع بن المدني السملالي
فعَليكَ أيّها القارئُ من الإكثار من القراءةِ فيما خلّفه لنا العربُ من تُراثٍ أدَبِيٍّ من النّظِيم والنّثِيرِ في مُختَلفِ العُصُورِ، فإنّكَ إن فَعَلْتَ ذَلِك ظَفِرْتَ بِمَلَكَةٍ مُواتِيةٍ وحظٍّ منَ الأدَبِ عَظيم" اهـ.
- التصنيفات: اللغة العربية - الشعر والأدب -
وأنا أقرأُ علَى شَيخِي الفصلَ الأخيرَ من كتاب (علم البلاغة) للأستاذ المراغِي رحمه الله اسْتَوقَفَتنِي هذه الكلمةُ القيّمةُ، فأحببتُ نقلَها هُنا ليَسْتَفيدَ منها من كان كَلِفًا بالأدب، مُحِبًّا للبلاغَة من إخواني وأخواتي لتَعُمّ الفائِدة، قال رحمهُ اللهُ:
"ولَكنّ دِراسَةَ العِلمِ وحدَهَا، والوقُوفَ على شَواهِدَ يَسِيرَةٍ من كلامِ الفُصَحاء والبلغاء لا يبلغَان بكِ إلى المقصِد، كما لو درَسْتَ قواعِدَ الحسابِ مثلًا وحللتَ مسائِلَ قَلِيلَةٍ لكُلِّ قَاعِدَة، فإنّ هذا لاَ يُكْسبكَ الملكَةَ التي تستطِيعُ أن تَحُلَّ بها كثيرًا من المسائل، بل لا بدّ للملَكَةِ من التّمرين ومُمَارَسة حلِّ كَثيرٍ من المسائل المختَلِفَة حتّى تتكوّنَ لدَيْكَ.
فبلاغَةُ القوْلِ ورَشَاقَةُ التّعبيرِ ورَصَانَتُهُ وإصَابَةُ المرمَى من نفسِ السّامِع تحتاجُ إلى إدمانِ القِراءَة في كُتُب الأدبِ والوقُوفِ على مُتنوّع الأسَاليبِ من أقوال الكُتّاب والشّعراء والخطباءِ وحفظِ ما يُمكِنُكَ حِفْظُه من منثُورهم ومنظُومهم.
ولا نرى كاتِبًا ولا شَاعِرًا مُجِيدًا إلاّ جالَ في مُختلَف الأساليبِ الشِّعريةِ والنّثرية جولةً صَادِقَةً، وروى عن عذبِها وغاصَ في بحَارِها، واستَخرجَ من دُرَرِها.
فعَليكَ أيّها القارئُ من الإكثار من القراءةِ فيما خلّفه لنا العربُ من تُراثٍ أدَبِيٍّ من النّظِيم والنّثِيرِ في مُختَلفِ العُصُورِ، فإنّكَ إن فَعَلْتَ ذَلِك ظَفِرْتَ بِمَلَكَةٍ مُواتِيةٍ وحظٍّ منَ الأدَبِ عَظيم" اهـ.
(علوم البلاغة؛ ص:267، ط المكتبة العصرية).
وهي طبعة رديئة مَلِيئَة بالأخطاء المطبعية، يسّر الله لهذا الكتاب من يَخدمه خِدمةً تقرّ أعينَ طلاّب العلم.
قلتُ: "ذكرَ العلاّمةُ أبو هلال العسكَري رحمه الله قصّة طريفةً لها علاقة بهذه الكلمة التي سجّلتُها هنا لعلّ من الحكمة إثباتُها في هذه الصّفحة:
قال أبو هلال العسكري رحمه الله:
"حُكي لي عن بعضِ المشايخ أنّه قال: رأيتُ في بعضِ قرى النبْطِ فتى فصيحَ اللّهجة، حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنَةِ أهلِ جِلدته، فقالَ: "كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفعُ بها صوتي في قراءتها، فما مرّ لي إلاّ زمان قصير حتى صِرتُ إلى ما ترى".
قلتُ: "اللُّكنةُ عُجمَة في اللّسان وعِيّ"، قال ابنُ سِيدَه: "الألْكَنُ: الذي لا يقيم العربية من عُجمة في لسانه".
والجاحظ معتزليٌّ جلْد وكان من بُحور العلم، وتصانيفه كثيرة جدًّا.
قيلَ: "لم يقع بيدِه كتاب قطّ إلا استوفى قراءته، حتّى أنّه كان يكتَري دكاكينَ الْكُتْبيين، ويبيتُ فيها للمُطالعة، وكان باقعة في قوّة الحفظ.
وكان ماجنًا قليلَ الدّين وله نوادر، وتلطّخه بغير بدعة أمرٌ واضِح، ولكنهُ أخباري علاّمة، صاحب فُنون وأدب باهر، وذكاء بيّن، عفا الله عنه.
من السّير مختصرًا.