خواطر حول الحج وأيامه
عبد المنعم منيب
تداعى على الذاكرة المسلمة ذكريات إبراهيم وإسماعيل وهاجر، وانتصارهم على الشر وتحملهم للبلاء العظيم ثم فرج الله الذي نزل عليهم من السماء ليرفع عنهم البلاء ويبشرهم برفع درجاتهم عند الله، ثم يتداعى على الأذهان المسلمة تخليد الله لذلك كله في أيات القرآن الكريم، ثم في مناسك الحج.
- التصنيفات: ملفات الحج وعيد الأضحي -
تثير أيام الحج لدى المسلمين ذكريات عديدة، ففي مثل هذه الأيام منذ ألاف السنين جرت مشاهد عدة بين سيدنا إبراهيم وزوجته وابنه، وكذا بينهم وبين إبليس.
ففي البداية نرى المشهد الأول حيث بلغ إسماعيل مبلغ الشباب وهذه مرحلة عمرية عندها يفرح الآباء ببلوغ أبنائهم لها، ويمكننا تصور مدى فرح سيدنا إبراهيم عليه السلام ببلوغ ابنه إسماعيل عليه السلام، لهذه المرحلة العمرية إذا تذكرنا أن سيدنا إبراهيم رزقه الله بإسماعيل بعد أن كبر، فجاءه ابنه البكر بعد طول انتظار وبعد بشارة الله له به، لكن بعد كل هذا جاءت المفاجأة بالمشهد التالي..
سيدنا إبراهيم عليه السلام يرى في المنام أنه يتوجب عليه ذبح ابنه الوحيد إسماعيل عليه السلام، ويفكر مليًا خشية أن لا يكون هذا وحيًا من الله وأن يكون وسواسًا من الشيطان، لكن الرؤيا تتكرر بما لا يدع مجالاً للشك بأنها وحي من الله، وهنا يبدأ المشهد الثالث حيث يتوجه إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل عليه السلام ويخبره بالأمر {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ} [الصافات من الآية:102]، ويرى بعض المفسرين أن سيدنا إبراهيم إنما شاور ابنه إسماعيل ليهيئه لقبول ما نزل من بلاء الله فيثبت من قدمه إذا فزع فيهون عليه الأمر، وليعلمنا المشورة في الأمور كلها.
وينتهي المشهد بالرد القاطع والإذعان والانقياد الواضح من سيدنا إسماعيل عليه السلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات من الآية:102]، وهنا تنتصر كل معاني الإيمان والعبودية والإذعان لأوامر الله سبحانه وتعالى، فإبراهيم عليه السلام مذعن لأمر الله له بذبح وحيده بيده، وإسماعيل بن إبراهيم الفتى الشاب اليافع مذعن لأمر الله أيضًا، مستسلم لأن يذبحه أبوه طاعة لأمر الله تعالى، وهنا في هذا المشهد انتصر كل من إبراهيم وإسماعيل على النفس برغباتها وشهواتها، وعلى تعلقها بالدنيا وبالولد وبالحياة.
ثم يأتي المشهد الرابع حيث يحاول إبليس أن يقنع سيدنا إبراهيم عليه السلام بعصيان أمر الله، فلا يذبح وحيده لكن إبراهيم عليه السلام ينتصر على الشيطان بعدما انتصر على نفسه وشهواتها من قبل، ولا يكتفي بهذا بل يقوم برجم إبليس بالأحجار.
ثم يأتي المشهد الخامس حيث يتوجه إبليس إلى سيدنا إسماعيل عليه السلام ويحاول إقناعه بالتمرد على أبيه وعصيان أمر الله بذبح إسماعيل عليه السلام، لكن إبليس يفشل للمرة الثانية على التوالي وينهزم أمام إصرار إسماعيل على طاعة الله وتنفيذ أمره والصبر عليه، ولم يكتف إسماعيل بذلك بل قام برجم إبليس بالأحجار، وهنا فر إبليس مذمومًا مدحورًا..
لكن إبليس لم يستسلم لهزيمتيه أمام إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، بل قرر أن يكرر المحاولة مع أم إسماعيل السيدة هاجر عليها السلام لعله ينجح مع السيدة فيما فشل فيه مع الرجلين، لأن إبليس كثيرًا ما يأمل في النجاح مع المرأة، ورغم أنه كثيرًا ما ينجح مع المرأة فإنه أيضًا كثيرًا ما يفشل معها، وحينئذ منى نفسه بالمحاولة مع السيدة هاجر، وذهب إليها وحاول معها جاهدًا في أن يقنعها بأن تمنع إبراهيم أو حتى تحاول منعه من ذبح وحيدها، لكن مصير إبليس مع السيدة كان متطابقًا مع نفس مصيره السابق مع كل من السيدين العظيمين إبراهيم وإسماعيل عليهم جميعا السلام، لقد طردته السيدة هاجر ورجمته بالأحجار..
وبذلك ضربت السيدة الجليلة أروع الأمثلة للمرأة الملتزمة بأمر الله الثابتة على عقيدتها ومبادئها الصابرة على قضاء الله وقدره، القوية في مواجهة الباطل لدرجة مكافحة أكبر رموز الباطل باليد بل بالأحجار، وهنا نصل للمشهد الذي يجسد ذروة البلاء للسادة الأجلاء الثلاثة.. إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجة إبراهيم أم إسماعيل السيدة هاجر عليهم جميعًا السلام، لقد تحتم ذبح الابن الوحيد وتقرر تنفيذ هذا الأمر الإلهي.
وهنا ننتقل للمشهد التالي لذلك كله، وهو انطلاق الأب النبي بولده الوحيد لتنفيذ الذبح به، والولد يقول لأبيه اربط يدي في عنقي واكفأ وجهي للأرض لئلا ترى وجهي أثناء الذبح، فتحن وتتردد في تنفيذ أمر الله..! هل هناك إذعان لأمر الله كهذا؟! والأب يستجيب لوصية ابنه البار، ثم يحاول الذبح دون جدوى فالسكين رغم حدتها لا تقطع... سبحان الله ما أشد هذا البلاء!
ويحاول أبو الأنبياء أن ينفذ أمر الله دون إبطاء، لكن الله قدر أمرًا كان مفعولاً، لقد نزل الملك بكبش عظيم ليفدي به إسماعيل، ويأمر إبراهيم بذبح الكبش فداءً لإسماعيل، ويذبح إبراهيم الكبش فرحًا بفرج الله، لكن هذه المشاهد لا تنتهي عند هذا الحد، بل إنها تتكرر كل عام عندما يؤدي المسلمون مناسك الحج فيرمون الجمرات كرجم لإبليس ويذبحون الهدي، فتخلد مناسك الحج ذكريات هذه المشاهد الخالدة بفضل الله لتنبه المسلمين لدروس وعبر كثيرة:
منها أن انتصار المسلم على نفسه ورغباتها بهدف تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى أمر هام جدير بأن يؤدي بصاحبه إلى لون من ألوان الخلود! وهو ما يتحقق بدرجة ما في الدنيا لكنه يتحقق كاملاً في الأخرة، وأن الانتصار على النفس ونوازعها يصحبه دائما انتصار على الشيطان اللعين.
ومنها أن انتصار الحق على الباطل أمر واقع لا محالة في الدنيا قبل الأخرة، وقد خلد الله ذكرى هذا الانتصار برمي الجمرات لنتذكر دائمًا انتصار أبينا إبراهيم وإسماعيل وأمنا هاجر على الشيطان الرجيم.
ومنها أن الفرج يأتي بعد الشدة مباشرة، وقد لا يأتي إلا بعد أن تبلغ الشدة ذروتها، لكنه يأتي فيمحو الله به أثر البلاء والشدة.
ومنها أن البلاء ربما يرفع ذكر صاحبه ويخلد ذكره بفضل من الله ومنة.
ومنها أن فضل الله ورحمته بعباده أمر عظيم جدًا، ولذا فإنه سبحانه لا يبتلي العبد الصالح ليهلكه وإنما يبتليه ليرفع درجاته ويعلي من مكانته ويخلد ذكره.
ومنها أن تذكر المؤمنين لذكريات انتصار أسلافهم على نوازع النفس وشهواتها لتحقيق العبودية الكاملة لله أمر هام لشحذ الهمم وتقوية الإيمان، وكذا ذكريات انتصار هؤلاء الأسلاف على الشيطان.
ومنها أن تذكر ما حدث من فرج الله الذي نزله على عباده المؤمنين بعد ما أصابهم من بلاء وشدة أمر هام يقوي الإيمان، ويشحذ الهمم ويشد من العزائم.
وهكذا تتداعى على الذاكرة المسلمة ذكريات إبراهيم وإسماعيل وهاجر، وانتصارهم على الشر وتحملهم للبلاء العظيم ثم فرج الله الذي نزل عليهم من السماء ليرفع عنهم البلاء ويبشرهم برفع درجاتهم عند الله، ثم يتداعى على الأذهان المسلمة تخليد الله لذلك كله في أيات القرآن الكريم، ثم في مناسك الحج.
ألقيت هذا الموضوع كدرس عام في سجن الواحات عنبر 12 سنة 1996، وكان الورق والأقلام والكتب والمصاحف ممنوعة حينذاك، ثم كتبته في سجن استقبال طرة سنة 1999 ثم نشرته في المدونة القديمة 18 ديسمبر 2007 بعد خروجي من السجن بأربعة شهور.