هل يجوز أن يجزم بخلود من مات على الكفر أنه في النار بعينه؟
عدم العلم بمن قال بهذا القول لا يعني العدم، وهاك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: قال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- عن مانعي الزكاة: ...وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب وجوب الزكاة ـ ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم واحدة وهي قتل مقاتيلهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
المسألة: هل يجوز أن يجزم بخلود من مات على الكفر أنه في النار بعينه
صورة المسألة: مكلف مات وظاهره أنه كافر أصلي أو مرتدا هل نحكم أنه بعينه في النار؟
• القول الأول: لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له الشارع الحكيم
1. الأصل عندنا ألا نحكم لمعين بجنة ولا نار إلا من حكم له الله - تعالى -كأبي لهب وأبي طالب فهما في النار، وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - في الجنة، والحكم على المعين بالنار من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى وقد قال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59) وقال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (المؤمنون: 92)، وهذا من التالي على الله - جل وعلا -.
2. أننا لا ندري بماذا ختم لهذا المعين فلعله تاب إن كان مرتدا أو اسلم إن كان كافرا كما أسلم الرجل الذي قتله أسامة بن زيد - رضي الله عنه -.
3. قال الطحاوي - رحمه الله - (ونرى الصلاة خلف كل بَرّ ٍ وفاجر ٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولا نُنْزِلُ أحداً منهم جنة ً ولا ناراً).
4. أن من مات على الكفر قد يعذر بالجهل أو التأويل أو غيره كمن قال لأبنائه حرقوني وذروني فلو سمعه أحد الناس لحكم عليه بالكفر ولكن الله عذره.
5. أننا نحكم على أطفال الكفار ومجاننهم بالكفر وأمرهم إلى الله تعالى.
6. كما أننا لا نشهد للمسلم بالجنة ونرجوا له ذلك فكذلك لا نشهد للكافر بالنار.
7. لا نعرف أحد من أهل العلم المعتبرين قال بهذا القول.
• القول الثاني: نشهد لمن مات وظاهره أنه مات كافرا بالنار
1. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء: 48) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء: 116) وقال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة: 72)
هذا وعد جازم من الله تعالى ألا يدخل مشرك الجنة، فيجوز لنا الجزم بالنار لمن حرم الله عليه الجنة قطعا.
2. أخرج ابن ماجه عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَكَانَ وَكَانَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي النَّارِ قَالَ فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ قَالَ فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَعَبًا مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ) قال الهيثمي (رواه البزار والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) (مجمع الزوائد) 1/ 118.
هذا النص صريح في كون الصحابي كان يبشر المشركين بالنار، فإذا مر بقبر الكافر فلان بن فلان بشره بالنار وهكذا وهذا فيه تحديد لكل مشركة بعينه.
3. أجمع الصحابة ومنهم الشيخان -رضي الله عنهما- على أننا نحكم على من مات على بأنه في النار، واجماعهم يظهر في قصة قتال قول طليحة الأسدي ما رواه طارق بن شهاب قال (جاء وفد بُزَاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلِيَة والسلم المُخْزِيَة، فقالوا: هذه المُجْلِيَة قد عرفناها فما المخزية؟. قال: تُنْزَع منكم الحَلْقَة والكُرَاع، ونَغْنَم ما أصبنا منكم، وتَرُدُّون علينا ما أصبتم منا، وتَدُون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواماً يتبعون أذناب الإبل حتى يرِيَ الله خليفة رسوله والمهاجرين أمراً يعذرونكم به) فعَرَض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فَنِعْم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنِعْم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقُتِلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات) قال: فتتابع القوم على ما قال عمر. أهـ. رواه البرقاني على شرط البخاري. عن (نيل الأوطار) للشوكاني، 8/ 22. وذكره ابن حجر في الفتح ثم قال (قال الحميدي: اختصره البخاري فذكر طرفاً منه وهو قوله لهم ((يتبعون أذناب الإبل)) إلى قوله: ((يعذرونكم به)) وأخرجه بطوله البرقاني بالإسناد الذي أخرج البخاري ذلك القدر منه) (فتح الباري) 13/210. وأصل الحديث بالبخاري في باب (الاستخلاف) بكتاب الأحكام برقم (7221). ووفد بُزَاخة هم قوم طُلَيْحَة بْن خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيَّ، وَكَانَ قَدْ اِدَّعَى النُّبُوَّة بَعْدَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَطَاعُه قومه لِكَوْنِهِ مِنْهُمْ فَقَاتَلَهُمْ خَالِد بْن الْوَلِيد بَعْد أَنْ فَرَغَ مِنْ مُسَيْلِمَة بِالْيَمَامَةِ، فلما هزمهم بعثوا وفدهم إلى أبي بكر.
وقد ذكر ابن حجر هذا الحديث وقال في شرحه (و«المجلية» بضم الميم وسكون الجيم بعدها لام مكسورة ثم تحتانية من الجلاء بفتح الجيم وتخفيف اللام مع المد ومعناها: الخروج عن جميع المال. و«المخزية» بخاء معجمة وزاي بوزن التي قبلها: مأخوذة من الخزي، ومعناها: القرار على الذل والصغار، و «الحلقة» بفتح المهملة وسكون اللام بعدها قاف: السلاح، و«الكُرَاع» بضم الكاف على الصحيح وبتخفيف الراء: جميع الخيل. وفائدة نزع ذلك منهم أن لا يبقى لهم شوكة ليأمن الناس من جهتهم، وقوله «ونغنم ما أصبنا منكم» أي يستمر ذلك لنا غنيمة نقسمها على الفريضة الشرعية ولا نرد عليكم من ذلك شيئا، وقوله «وتردون علينا ما أصبتم منا» أي ما انتهبتموه من عسكر المسلمين في حالة المحاربة، وقوله «تدون» بفتح المثناة وتخفيف الدال المضمومة: أي تحملون إلينا دياتهم، وقوله «قتلاكم في النار» أي لاديات لهم في الدنيا لأنهم ماتوا على شركهم، فقتلوا بحق فلا دية لهم، وقوله و «تتركون» بضم أوله، و «يتبعون أذناب الإبل» أي في رعايتها لأنهم إذا نزعت منهم آلة الحرب رجعوا أعرابا في البوادي لا عيش لهم إلا ما يعود عليهم من منافع إبلهم، قال ابن بطال: كانوا ارتدوا ثم تابوا، فأوفدوا رسلهم إلى أبي بكر يعتذرون إليه فأحب أبو بكر أن لا يقضي بينهم إلا بعد المشاورة في أمرهم، فقال لهم: ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل في الصحاري، انتهى. والذي يظهر أن المراد بالغاية التي أنظرهم إليها أن تظهر توبتهم وصلاحهم بحُسْن إسلامهم) (فتح الباري) 13/ 210 ـ 211.
والشاهد من هذا: هو قول أبي بكر للمرتدين التائبين (وتكون قتلاكم في النار) وموافقة عمر وسائر الصحابة -رضي الله عنهم- له على ذلك، وهذا إجماع منهم على تكفير أنصار أئمة الردة وجنودهم على التعيين، إذ لا خلاف في أن القتلى أشخاص معينون، كما أنه لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يشهد لمعيَّن بالنار إلا المقطوع بكفر هو قد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وبلا ريب أن هذا إجماع من الصحابة على كفر أنصار مسيلمة المتنبيء الكـذاب وأنصار طليحة الأسدي المتنبيء الكذاب، فقد غنموا أموالهم وسَبَواْ نساءهم وشهدوا على قتلاهم بأنهم في النار وهذا تكفير منهم لهم على التعيين، ودليله:
4. أما المسلم مهما كان فاسقاً فاعتقاد أهل السنة -هو كما ذكره الطحاوي- رحمه الله -: "ونرى الصلاة خلف كل بَرّ ٍ وفاجر ٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولا نُنْزِلُ أحداً منهم جنة ً ولا ناراً" أما من مات كافراً فإنه يُشهد له بالنار وأنه من أهلها كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن أبي وأباك في النار) الحديث رواه مسلم، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم - عن عمّه أبى طالب: ((هو في ضَحْضاح من نار)) الحديث رواه البخاري (3883) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((حيثما مررت بقبر كافر ٍ فبشِّره بالنار)).
5. ذكر ابن تيمية أن اتباع مسيلمة كانوا نحو مائة ألف أو أكثر (منهاج السنة النبوية) 7/217، وقال -رحمه الله-: ولأن المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب، أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام فإنه يُقتل قبل الاستتابة بلا تردد) (الصارم المسلول) صـ 322، وقال أيضا (على أن الممتنع لا يُستتاب، وإنما يُستتاب المقدور عليه) (الصارم المسلول) صـ 325 ـ 326.
6. نحن لا نحكم للمسلم بالجنة لأنه قد يدخل النار وإن كنا نرجوا له الجنة ويزداد هذا الرجاء كلما زاد صلاحه، والله تعالي جزم بدخول المشركين النار ونحن محكم على الظواهر فقط وندع البواطن لله تعالى.
7. أطفال الكفار ومجاننيهم ليسوا معنيين في هذه المسألة.
8. لو حكمنا على معين بالكفر وجزمنا له بالنار ثم ظهر خلاف ذلك لا نأثم، كقول عمر لحاطب، وسعد مع سعد في حادثة الإفك، وهذا مستفيض في الشريعية.
9. عدم العلم بمن قال بهذا القول لا يعني العدم، وهاك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: قال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- عن مانعي الزكاة: ...وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب وجوب الزكاة ـ ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم واحدة وهي قتل مقاتيلهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار..
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب تعليقا: (فتأمل كلامه في تكفير المعين، والشهادة عليه إذا قتل بالنار.. انظر الدرر 9/ 418
الترجيح:لا ريب أن القول الثاني هو الراجح لما تقدم من الأدلة.
عبد الرحمن بن محمد الهرفي